"الاسم الآخر" لجون فوس: أن ترى وجهك دون انعكاس

الروائي المتوّج بنوبل الآداب 2023

AFP
AFP
الكاتب النرويجي جون فوس

"الاسم الآخر" لجون فوس: أن ترى وجهك دون انعكاس

تشكل سباعية "الآخر" للنرويجي جون فوس، الحائز جائزة نوبل للآداب 2023، تحولا سرديا كبيرا عرفته مسيرته في الكتابة التي انطلقت عام 1983 بروايته "أحمر، أسود"، لا تضاهيها أثرا وعمقا إلا تجربته المسرحية التي بدأها بمسرحيته "ولن تفترق أبدا" عام 1994، مسرحية كتبها اضطرارا بسبب تأزم وضعه المالي حينئذ، لكنه سرعان ما وجد متعة استثنائية في كتابة المسرح، جعلته يتبع المسرحية بالمسرحية، ليحقق نجاحا مبهرا، جعله واحدا من أهم كتاب المسرح في العالم، وهذا ما يبرر العدد الهائل من الجوائز الأدبية الكبرى التي حازها، على غرار جائزة الأدب الأوروبي عام 2014 وجائزة الأدب الكبرى عام 2015 وجائزة نوبل للآداب هذه السنة.

أصدر جون فوس سباعيته خلال الفترة الممتدة بين 2019 و2021، في ثلاثة كتب كبرى، ضم الكتاب الأول جزأين تحت عنوان "الاسم الآخر"، وشمل الثاني ثلاثة أجزاء اشتركت في عنوان واحد هو "أنا شخص آخر"، أما آخر جزأين فجاءا ضمن الكتاب الثالث الموسوم "اسم جديد".

اشتغل الروائي في هذه السباعية على الزمن كظاهرة قابلة للملاحظة، ليس فقط الماضي والحاضر بل المستقبل أيضا، حيث عمل على رصد الخط الزمني كاملا لبطله آسل، مضيفا إليه ما اعتقد أنه يكمله أو ما قد يقدّم تصورا أدقّ للحياة، ليس بماضيها ومستقبلها وحاضرها فحسب، بل أيضا بما أطلق عليه المستقبل الممكن أو المتوقع وكذا الزمن المهجور الذي ينتج عادة من الواجبات (أو تلك التي يعتقد أنها كذلك) المقرّرة في حياة أي إنسان، ليس فقط داخل هذه الحياة بل على هامشها في معظم الأحيان، زمن تقرّره المشيئة بعيدا من أيهّ تأثير بشري، وهو الذي عادة ما يتعلّق في حركته بما نعتقد أنها ظواهر لا تتحرّك، وتاليا لا تستقل بأي زمن، على غرار الأسماء والأصوات والصور والروايات والذكريات، التي تشكل في النهاية مصائر محتملة لم تقع كتلك التي رصدها بفنية عالية الأميركي بول أوستر في روايته الشهيرة "1 2 3 4" التي تتبع فيها أربعة مسارات ومصائر ممكنة.

اشتغل فوس في هذه السباعية على الزمن كظاهرة قابلة للملاحظة، ليس فقط الماضي والحاضر بل المستقبل أيضا، حيث عمل على رصد الخط الزمني كاملا لبطله آسل، مضيفا إليه ما اعتقد أنه يكمله أو ما قد يقدّم تصورا أدقّ للحياة

في "الاسم الآخر"، الكتاب الأول من السباعية، يرصد فوس أحداثا تقع في الجنوب الغربي من النروج، بطلها آسل، التائه الأبدي؛ رجل اختار العزلة أسلوب حياة لهشاشته النفسية ولاستحالة اندماجه مع الآخرين، رسمه فوس شخصية لا تملك معالم ولا تستطيع أن تحدّد نقاط ارتكاز تجعلها في منأى عن التيه حتى بالنسبة إلى ما قد يعتبر بديهيا للآخرين. فبمجرد أن يجد نفسه في كثرة حتى يتيه، وهذا ما جعله غير قادر على معرفة طريقه في المدينة التي يقيم فيها، لكنه على الرغم من جنوحه إلى الوحدة المضطر إليها بسبب طبعه، يجد نفسه مدفوعا إلى غيره ممن لا يمكن أن يتجانس معهم، فكل ما يحيط به من أشياء وما يقع له من أحداث، يشعره بضرورة التخلي عن عزلته في سبيل تحقيق شيء لا يدركه بعد. شيء لا يكاد يتضح حتى يتلبس بشيء آخر، لكنه يبدو ضروريا بالنسبة إليه على الرغم من عدم إدراكه لماهيته التي تتغير بحسب ما يقع له من أحداث، وبحسب ما يشعر به من حاجة وذنب وحب ورغبة في التخلص من التبعية لسواه.

 

فقدان البوصلة

يصوّر فوس بطل "الاسم الآخر" على نحو يحيل على الإنسان المعاصر المكتفي بذاته في الظاهر والفاقد في الحقيقة لبوصلته الروحية التي يفترض أن تضعه على درب النجاة، لكن فوس لا يقدم تعريفا واضحا للنجاة التي لا يرى أنها نتيجة خيارات معينة، بل يصوّرها نهاية معقولة لا بد أن يبلغها كل من سعى ولو من باب المحال لمواجهة الأسئلة الكبرى للوجود وفي مقدمها الحداد والموت وخاصة الصمت الذي يجمعنا بقدر ما يجمعنا نفترق. لكن السؤال الوجودي الأهم في اعتقاد فوس والمرتبط بإيجاد الخلاص هو: "ما الذي يجعلنا ما نحن عليه؟"، سؤال خصص له أكثر من أربعمئة صفحة ليجيب عنه عبر قصة تلامس الغرائبية دون أن تنضوي تحتها.

REUTERS
من أعمال جون فوس، الحائز على جائزة نوبل في الأدب لعام 2023

لا يملك آسل من الأصدقاء إلا اثنين: جاره أسلايك، وهو صياد سمك، وباير المقيم في المدينة المجاورة وصاحب قاعة العرض التي يعرض فيها آسل لوحاته الفنية، على اعتبار أنه رسام معترف به. في مدينة باير يعيش رجل آخر يحمل اسم آسل أيضا، شاءت المصادفة أن يحترف الفن والرسم هو الآخر، لكنه على عكس آسل بطل الرواية، أكثر وحدة وعزلة، بل يبدو أن لا شيء يجعله يتشبث بالحياة غير الفن الذي يحترفه، الذي يبدو متميزا فيه على الرغم من إدمانه الخمر وغيابه المستمر عن الوعي.

عبر شخصية آسل الثاني، قدم فوس صورة معاكسة ومتناقضة لشخصية آسل الأول، فهما وإن اشتركا في حبهما للرسم والفن وفي ميلهما الطبيعي الى العزلة والوحدة، اختلفا في المآل بسبب ما انتهيا إليه من خيارات، قد لا تبدو مهمة حين القيام بها، لكنها حدّدت مصير كل واحد منهما، بل بسببها تضادّت شخصيتاهما المتطابقتان في البداية.

  تجبرنا قراءة "الاسم الآخر" على التفكير والتأمل في حقيقتنا، هل هي كاملة كما نعيشها أم تحتاج لتكتمل إلى حقيقة متناقضة مع تلك التي نحن عليها، ففي النهاية ليس في مقدور أحد أن يرى وجهه من غير انعكاس


رفض جون فوس في هذا العمل أن تحتكم حياة الإنسان إلى أي ظروف تخرج عن إرادته، فلئن كان مؤمنا بأن البيئة والجينات تساهم في تكوين أي بشري، فإن ذلك لا يعني في الضرورة أنها تحدّد مصيره، فهو يرى أن الحياة وإن تشكلت من ماض وحاضر ومستقبل، فإنه من غير المعقول أن يوعز الفشل أو النجاح المستقبلي إلى فشل أو نجاح في الماضي، بل إلى مجموع الخيارات التي يقوم بها الإنسان في حاضره. ومثلما يتميز الزمن بالحركة والنسبية، فإن الخيارات هي الأخرى غير ثابتة وغير مطلقة، تاليا لا يمكن الحديث عن نجاح أو فشل بالمطلق، ولا يمكن تحديد ماهيتهما بالضبط.

AP
الكاتب النرويجي جون فوس

تجبرنا قراءة "الاسم الآخر" على التفكير والتأمل في حقيقتنا، هل هي كاملة كما نعيشها أم تحتاج لتكتمل إلى حقيقة متناقضة مع تلك التي نحن عليها، ففي النهاية ليس في مقدور أحد أن يرى وجهه من غير انعكاس نزعم أنه جعلنا نعرف ملامحنا، في حين أنه لا يرينا إلا نقيض ما نحن عليه.

 

font change

مقالات ذات صلة