كتّاب شباب: هذه أسباب استعصاء "نوبل" على الكاتب العربي

نجيب محفوظ يظلّ حالة استثنائية

REUTERS
REUTERS

كتّاب شباب: هذه أسباب استعصاء "نوبل" على الكاتب العربي

يبقى عام 1988، لحظة تاريخية في مسيرة الأدب العربي، فهو العام الذي نال فيه الروائيّ المصري نجيب محفوظ جائزة نوبل للآداب، وبعد مرور 35 عاما، يبدو هذا الاعتراف العالمي بعيد المنال عن أحفاد محفوظ، وكأن ما حدث وقتها لحظة متفردة، غير قابلة للتكرار.

أصبحت جائزة نوبل التي انطلقت في 1901، ومنحت ذلك العام للشاعر الفرنسي سولي برودوم، عتبة شاقة على الكاتب العربي، بعد محفوظ الذي جسّد في كتاباته الحارة المصرية وتحولات المجتمع المصري على مرّ عقود، واهتم بتفاصيل غائرة، متخطيا حواجز ثقافية وثوابت وموروثات، ليصبح الوحيد الذي يحصد اللقب العالمي.

في كل عام، يأتي شهر أكتوبر/تشرين الأول، لتبدأ توقعات المثقفين والنقّاد العرب، بالاشتعال، وتبدأ التكهنات، محمّلة بالأماني، ويتردّد العديد من الأسماء العربية في هذا الإطار، مثل الشاعر السوري أدونيس، والفلسطيني الراحل محمود درويش، والكاتب الليبي إبراهيم الكوني، وغيرهم، وفي كل عام تخيب التوقعات، وينال الجائزة كاتب أو شاعر، من غير العرب.

في هذا العام، أعلنت لجنة تحكيم جائزة نوبل فوز الكاتب النرويجي جون فوس الذي قدّم أعمالا إنسانية في السرح والرواية والشعر، وأدب الأطفال، وهو، كما يصفه النقاد، كاتب فلسفي وجودي غير مشتبك مع الجدليّات السياسية والأزمات العالمية الراهنة.

نعيش عصر ازدحام القضايا، التي تضع الكتابة على الهامش. لذا لا يتوفر الدعم المناسب للكاتب العربي من أجل الوصول الى العالمية، من خلال الترجمات

نورا ناجي

تحوّل غياب العرب عن التتويج بالجائزة، إلى عقدة يتحدّث عنها الكثيرون من روّاد المشهد الثقافي العربي، طيلة السنوات الماضية، طارحين العديد من الأسئلة والتكهنات، حول شفافية لجان جائزة نوبل، ومدى انغماسها في الأجندات السياسية في اختيار الأسماء المرشحة للتتويج. فهل هذا صحيح؟ وهل الأدب العربي بالفعل قادر على المنافسة على الجوائز العالمية، أم أنه لا يمتلك أدوات الجذب والابتكار الكافية؟ 

 

ازدحام

تقول الكاتبة المصرية نورا ناجي: "ليس هناك في العالم العربي مؤسسات داعمة للكاتب، وهناك اهتمامات بأمور أخرى، بسبب الأزمات التي تعيشها المنطقة، فنحن نعيش عصر ازدحام القضايا، التي تضع الكتابة على الهامش. لذا لا يتوفر الدعم المناسب للكاتب العربي من أجل الوصول الى العالمية، من خلال الترجمات، وهو ما تحقّق في عصر نجيب محفوظ وساهم في وصول أعماله الى العالمية".

الشاعر العراقي علي البزاز

فيما يعتبر الشاعر العراقي علي البزاز أن "العقل منحازٌ بطبيعته مهما كان عادلا ومهنيا. فالإنسان كائن بالغ التعقيد، وهكذا، تبدو آراؤه وأهواؤه ومواضعاته، هي الأخرى معقّدة، وخاضعة. ليس من عقل غير منحاز، وإن وجدَ جزافا، فهو خارج طبيعته، التي تقبل الاختلاف والتناوب والتموضع. وعليه، يتذبذبُ ما بين جنوحه إلى العدالة، وممارسة الظلم والبطش في الآن ذاته، إن هو أمسك باللحظة المناسبة. وهذا التناقض، ليس سُبّة، لكنّه الدافع لاستمرار الإنسان في العيش والإبداع. وهذا ينطبق على لجان الجوائز من نوبل وبوكر وسواهما".

 الوضع السياسي العربي المتشظّي، يصعّب إمكان وصول الكاتب العربي الى منصات التتويج، ويجعل من التجربة الثقافية، حالة غير ناضجة كفاية، لتحقيق لقب نوبل

أصالة لمع

أما الشاعرة اللبنانية أصالة لمع، فتعتبر أنه وفي حين قد يكون هناك تجاهل عالمي للمنتج الثقافي العربي، مثلما نرى في نوبل، فإن معدّل الإنتاج الأدبي في العالم العربي، مقارنة بالعالم، يعتبر ضعيفا، كما أن هذا المنتج تشوبه الرداءة في كثير من الأحيان، ولا يقدّم مستويات تتمكن من اختراق المعادلة، كما ان هناك الكثير من دور النشر التي لا تهتم بمستوى النص بقدر ما بالربح العائد من الطباعة".

الشاعرة اللبنانية أصالة لمع

تضيف لمع: "إن الوضع السياسي العربي المتشظّي، يصعّب إمكان وصول الكاتب العربي الى منصات التتويج، ويجعل من التجربة الثقافية، حالة غير ناضجة كفاية، لتحقيق لقب نوبل، فهو يدور في محيطه ولا يمتلك من خلال الترجمة والتسويق، إمكان الوصول إلى أماكن أبعد في العالم".

حالات نمطية

أما الكاتب المصري أحمد الفخراني، فيشير إلى أن الأدب العربي "غير مترجم بما فيه الكفاية، بالتالي يظل صوتا غير مؤثر في المعادلة، لا أعرف كيف تؤثر الظروف العربية سياسيا على رأي لجنة تحكيم نوبل، لكن بشكل عام، نرى أن بعض الاختيارات التي تترجم قد تحكمها نبرة السياسة المعارضة، لا نبرة الأدب، وهو أمر مضر ومؤسف، لأنه يحولنا من كتاب إلى مجرد حالات نمطية".

هيثم عيوشي

أما الناقد التونسي هيثم عيوشي فيعتبر أن السبب "ليس راجعا الى نقص في قيمة الأعمال الأدبية العربية وجودتها، أو الى ندرة المبدعين عندنا لأنه لدينا العديد من الأدباء الكبار والمتفرّدين على مرّ الأزمنة الذين نعتبرهم مراجع مهمة وتجارب يقتدى بها ومكاسب لمكتباتنا الوطنية ولكل المدوّنة العربية، لكن السبب الرئيسي يكمن في تراخي المنظومات والجهات ذات الصلة المباشرة بالثقافة والمؤثرة فيها من سلطات إشراف ووسائل إعلام سمعية وبصرية، وعدم مراهنتها الجدية على الآداب والفنون، بل إنها تعمل على تعزيز التصحّر الفكري والدفع نحو التجهيل الممنهج للشعوب".

 لدينا العديد من الأدباء الكبار والمتفرّدين لكن السبب الرئيسي يكمن في تراخي المنظومات والجهات ذات الصلة المباشرة بالثقافة والمؤثرة فيها

هيثم عيوشي

يكمل عيوشي: "إن لجان التحكيم ليست سوى عينة أو هي مرآة للقارئ الغربي، وهم يقرؤون الأعمال الناجحة والترجمات الجيدة التي لا تمسّ قيمة النص ولا جودته ولا روحه، كما تحافظ على بصمة كاتبه. هذا ما يفتقر اليه الجانب العربي في الترويج لنفسه، وإن وجدت ترجمات فهي محاولات من بعض المستشرقين أو من العرب أنفسهم لكنها تبقى غير مؤثرة في القارئ الغربي لأنها لم تصدر عن دور نشر كبيرة وعريقة هناك وغير متوفرة باللغات الكافية والمطلوبة. أيضا لا يمكن أن ننكر أن منافسات نوبل لا تخلو من الحسابات والمصالح السياسية".

ويرى عيوشي أن "الكتّاب ينقسمون أصنافا، فهناك من نجد أعمالهم مجرّدة من الإيديولوجيا والتابوهات (الدين، الجنس، السياسة) ومتحررة من سجن اللغة أو لغة القاموس، بذلك تكون نصوصهم سلسة وانسيابية، مفعمة بالجمال في السرد والمتعة في الوصف. بالتالي، أعتقد أن هذا الشرط متوفر لدى عدد من أدبائنا لكنه يبقى غير كاف لأسباب عدة، منها التي ذكرتها أعلاه".

 

مساحة التحرّر

تتضارب الآراء حول قدرة الكاتب العربي على تجاوز التابوهات الفكرية والاجتماعية، وبالتالي القفز إلى منطقة الجدال والوصول إلى الحرية المطلقة في التعبير عن نفسه.

الكاتبة المصرية نورا ناجي

تعلّق نورا ناجي: "هناك مساحة من التحرّر في الكتابات العربية، لمؤلفين قدماء وجدد، تتفوق أعمالهم، في الوعي والثقافة والأفكار وفي مستوى الحرية وتبنّي القضايا الإنسانية، على الكثير من الكتاب الغربيين، لكنها تراوح مكانها، ولا تتعدى حدود المنطقة العربية، ومن الطبيعي أن تساهم الظروف السياسية المعقدة التي تعيشها المنطقة العربية، في إنتاج كتّاب على مستوى عال، لكن غياب الدعم هو ما يهدر حضور الكاتب العربي".

الأديب العربي محكوم بنظرة المجتمع والسلطات السياسية والدينية الضيقة، مما يمنعه من مناقشة مشاكله العميقة بجدية

أحمد الفخراني

وترى بأن الجوائز الأدبية مثل نوبل "تحمل أجندة سياسية معينة، ولا تتسم بالبراءة والحياد، وهي موجّهة الرؤية التي تطمح إليها الأجندة  السياسية الغربية، فالكثير من الكتاب مثل الكورية- الجنوبية هان كانغ، والأميركي بول أوستر، يستحقون اللقب، لكنهم يستبعدون بسبب عدم توافق ما يكتبونه مع سياسة الجائزة العالمية، فالاختلاط بين الثقافة والسياسة لا يمكن الفكاك منه".

 

خوف 

أما أصالة لمع فتعتبر أن الكاتب العربي "يعاني من إشكالية الخوف، فلم نتحرّر بعد من معظم الرواسب، الدينية أو السياسية، التي تنطوي على خوف يؤثر على مستوى الحرية في النص. ما حدث مع نجيب محفوظ، كان طفرة، لأنه نجح في التجرؤ على الموروثات الثقافية العربية، وشكل حالة مختلفة، منحته تذكرة خوض سباق نوبل والفوز بالجائزة".

الكاتب المصري أحمد الفخراني

ويرى أحمد الفخراني بدوره، أن "الأديب العربي محكوم بنظرة المجتمع والسلطات السياسية والدينية الضيقة، مما يمنعه من مناقشة مشاكله العميقة بجدية، لأنها تعني فضح تسوّس الجذور التي تقوم عليه أوهام منطقتنا العربية. أفلت نجيب محفوظ بالرمز، من خلال مساءلته الفلسفية العميقة للوجود، لكن الرمز مجرد وسيلة قد لا يجيدها البعض".

بسبب ضعف العالم العربي سياسيا واقتصاديا، لا أحد يهتم بأدبه وإنتاجه الفنّي، بل، إنّ العربي كإنسان منتهك في وجوده ومهدّد في أمنه واقتصاده، فما بالك في أدبه وإبداعه؟

علي البزاز

ويردف الكاتب المصري: "بالطبع نكتب في ظل الخوف، وإنكار الرقابة الذاتية وهم، نحن لا نواجه عسف السلطات السياسية فحسب، بل إن كل قارئ في الوطن العربي هو في حد ذاته رقابة، يمكنه أن يكفّرك مثلا أو أن يتهمك بخدش الحياء أو الفتنة، عند قراءته أقل سطر غامض. لذا من الطبيعي أن ينتشر الأدب الذي يكرر له ما يعرفه وما يؤمن به، وأن ينحسر الأدب الذي يسأل ويتشكك".

 

 تحريف وتلفيق 

أما علي البزاز، فيرجع المسألة إلى عوامل مختلفة: "بسبب ضعف العالم العربي سياسيا واقتصاديا، لا أحد يهتّم بأدبه وإنتاجه الفنّي، بل، إنّ العربي كإنسان منتهك في وجوده ومهدّد في أمنه واقتصاده، فما بالك في أدبه وإبداعه؟ وهذا، ليس تبريرا للاعتكاف وعدم قبول المنازلة الأدبية، إنّما هو حافز للمبدع لتطوير وسائله المعرفية، لكن يجب ألا ننسى أن الجوائز مهما كانت ضرورية، ليست الإنجاز الأعظم. هناك أمثلة كثيرة عن جوائز مُنحتْ بغير عدالة أدبية، بل في نطاق تسويات دولية سياسية واقتصادية، وأعتقد أنه كلّما تطوّر العالم العربي سياسيا واقتصاديا، هرولت إليه الجوائز". 

ويضيف: "ليس من أدب مهم وآخر غير مهم، أو جاذب وآخر غير جاذب. كلّ الإبداع مهمٌّ وجاذِبٌ ولافت، إنّما هناك طريقة إشهارية وتسويقية لتقديم ذلك الأدب، منها الترجمة والتشاركية وتأهيل الإبداع عالميا، وهذا ما ينقص الأدب العربي".

يردف الشاعر العراقي: "من جهة أخرى، تَعُدّ الرقابة قاهرة ومانعة للإبداع، كما أن التطورات المتسارعة تضع الكاتب العربي في سباق دائم. وقد ساهمت التقنية وآخر تجلياتها الذكاء الاصطناعي في نشوء وجود جديد تماما، تراجعت فيه المفاهيم الكلاسيكية، فأين الأدب العربي من هذا الوجود الجديد القابل للتغير والقابل للانقلاب على المفاهيم القديمة، بل وحتّى على إنجازاته اقتداء بالتغيير؟".

أما أحمد الفخراني فيقول: "أعتقد أنه على الرغم من انتشار الرداءة وهذا أمر طبيعي، إلا أن الأدب العربي لديه ما يقوله، وفيه أدباء كبار قدموا منجزا حقيقيا، يستحق أن تكون له مكانته اللائقة بين الآداب العالمية، علينا أن لا نرى نوبل كهدف نهائي أو كونها التكريم الوحيد، ربما يفوز بها عربي ذات مرة، مثلما حدث مع نجيب محفوظ في واحدة من أكثر المرات التي فاز فيها أديب عن استحقاق وجدارة، لكن علينا ألا ننسى أنها جائزة غربية في الأساس، لا تنظر الى المنطقة العربية بالاحترام الكافي، إلا من خلال عين السياسة أو الاستشراق، الأديب ينتمي إلى ما هو أكثر من مكانه المحلي، هو عضو في أسرة كبيرة تنتمي الى العالم بأسره".

 

font change

مقالات ذات صلة