"تيت مودرن" يستعيد رمزا من رموز السوريالية البريطانية

أعمال إيتل كولكوهون التي تجمع بين العالمين المادي والروحي

tate.org.uk
tate.org.uk
إيتل كولكهون، «الكُوّة»، 1946

"تيت مودرن" يستعيد رمزا من رموز السوريالية البريطانية

بينما انشغل السورياليون في أوروبا بتفكيك الأحلام وتحليل اللاوعي على خطى فرويد، اختارت البريطانية إيتل كولكوهون (1906-1988) أن تسلك طريقا مغايرا. فهي لم تر في اللاوعي مجرد خزان للصور المكبوتة، بل بوابة إلى عوالم أعمق، حيث تتجاور الرموز الباطنية مع الأساطير القديمة، وتتحول اللوحة إلى طقس بصري يستحضر السحر والعوالم الخفية بقدر ما يستحضر الجمال. في أعمالها يتداخل الحلم مع الطقس، ويتحول اللون إلى تعويذة، والخطوط إلى مفاتيح لعالم خفي. هكذا أرست كولكوهن لنفسها مكانة فريدة في السوريالية البريطانية، كفنانة وكاتبة جمعت بين جموح الخيال وجرأة التجريب وقوة التعبير عن الرموز الغامضة.

تعتبر إيتل كولكوهون من أكثر الشخصيات غموضا وجاذبية على هامش الفن البريطاني في القرن العشرين. فهي فنانة عرفت الطريق إلى السوريالية، لكنها سرعان ما شقت لنفسها دربا خاصا جمع بين البحث البصري والروحاني. ولدت عام 1906 في الهند حيث عمل والدها في الإدارة المدنية البريطانية، عادت الى بريطانيا في سن مبكرة ودرست في كلية "غيلتنهام" للبنات ثم في مدرسة "سليد" الشهيرة للفنون التي ساهمت في نهضة فن الجداريات والرسم الزخرفي في اعقاب الحرب العالمية الأولى.

سافرت كولكوهون، مثل كثير من الفنانين البريطانيين، إلى باريس عام 1931، حيث التحقت بأكاديمية "كولاروسي". وخلال تلك الفترة، تعرفت الى الحركة السوريالية والتقت عددا من السورياليين، منهم رينه ماغريت وأندره بروتون وسلفادور دالي ومارسيل دوشان، ومان راي الذي التقط لها صورتها الشهيرة وهي تحمل حزمة من سنابل القمح، في إشارة إلى "ديميتر"، إلهة الحصاد والخصوبة والأرض في الميثولوجيا القديمة.

التحقت بالحركة السوريالية البريطانية، لكنها طردت عام 1940 لأنها رفضت أن تتخلى عن انشغالها بالجماعات الباطنية

بدأ شغف كولكوهون بالتصوف والعوالم الخفية يتفتح جنبا إلى جنب مع تكونها الفني. عادت إلى لندن بعد سنتين في باريس والتحقت بالحركة السوريالية البريطانية، لكنها طردت عام 1940 لأنها رفضت أن تتخلى عن انشغالها بالجماعات الباطنية، وهو شرط غريب فرض على أعضائها. مع ذلك عدت كولكوهون على الداوم فنانة جمعت بين الأساليب السوريالية والرموز الروحية في تجربتها الفنية.

tate.org.uk
إيتل كولكوهون، «أعمار الإنسان»، 1944

الصوفية السوريالية

امتد افتتان كولكوهون بالتصوف طوال حياتها، فتنقلت بين الكيمياء القديمة والأساطير الدرويدية وهي أساطير الكهنة السلتيين سكان إيرلندا القدماء، ومن الكتابة التلقائية على طريقة السورياليين إلى بطاقات التاروت. في لوحاتها، نتبين إيمانها بأن الفن وسيلة لكشف البصيرة الميتافيزيقية، وعزوفها عن بريق الشهرة. فضلت التجريب والاستكشاف الداخلي الهادئ على التصفيق العام، وربما لهذا ظلت بعيدة عن الأضواء زمنا طويلا.

مع ذلك، فإن معرضها الإستعادي المقام حاليا في "غاليري تيت مودرن" في لندن الذي يستمر حتى منتصف شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، يبين بوضوح تميزها الفني: طموح واسع، وقدرة على التنقل الرشيق بين التصوير الدقيق والتجريد الجريء، دون خوف من المجازفة. واليوم، تخرج كولكوهون تدريجيا من هامش التاريخ الفني لتثبت أنها ليست مجرد استثناء طريف، بل فنانة جادة تستحق مكانها. وهذا المعرض ليس إلا خطوة أخرى في رحلة الاعتراف المتأخر بها.

tate.org.uk
إيتل كولكوهون، «الغورغون»، 1946

تبلغ لغة الإيحاء البصري لدى إيتل كولكوهون أقصى درجاتها عندما تنهي الحدود بين الأسطورة والعقل والمناظر الطبيعية في أعمالها. تعرض القاعات الأولى لوحاتها المبكرة: تراكيب تثير القلق غالبا، تدمج بين شخصيات توراتية أو أسطورية وأشكال نباتية غريبة.

تبلغ لغة الإيحاء البصري لدى إيتل كولكوهون أقصى درجاتها عندما تنهي الحدود بين الأسطورة والعقل والمناظر الطبيعية في أعمالها

لوحة "موت السيدة العذراء" مثلا، حيث امرأة شابة تحتضر في غرفة ذات سرير وأثاث عصري وحولها أناس يرتدون ملابس عصرية، أو لوحتها الشهيرة "جوديث" التي رسمتها أثناء دراستها في مدرسة "سليد" للفنون والتي عرضت في ما بعد في الأكاديمية الملكية للفن، وتصور امرأة مفتولة العضلات ترفع رأس ضحيتها بفخر بعد أن حزت رقبته، اللوحة تخالف السائد حينئذ بتصوير المرأة كضحية أو كائن رقيق منقاد. في منتصف القرن كانت كولكوهون تجرب تقنيات فنية مثل فن "الأوتوماتيزم"، بما في ذلك الـ"فيوماج" (إنشاء أنماط لونية عشوائية بالدخان)، و"الديكالكوماينا" (وضع ألوان عشوائية على ورق ثم ضغطه بورق آخر)، و"البارسماج" (اختراع كولكوهون: باستخدام الطبشور المطحون والفحم والماء لابتكار صور عشوائية). تسمح العشوائية العضوية لهذه التقنيات بحرية التعبير والاستكشاف، بينما تحتفظ في الوقت ذاته بالسيطرة التركيبية على العمل الفني.

tate.org.uk
إيثيل كولكهون، «سيلا»، 1938

تجريدات كونية

بعض الأعمال المعروضة تدعونا إلى الملاحظة المتأنية. فـلوحتها الشهيرة "سيلا" تبدو للوهلة الأولى صخورا شاهقة فوق مياه عميقة. ولكن عند التراجع خطوة، يتضح بلا لبس أنها تتخذ شكل فخذي امرأة غاطسين في الماء. يتداخل الخطر والإغواء. هي لعبة بصرية ذكية متنكرة بمنظر طبيعي. وفي أعمال أخرى، تنمو الأشكال البشرية لتتحول إلى نباتات، أو تتطور الفروع لتصبح أوعية دموية، في تذكير حاذق بأن الإنسان والعالم الطبيعي والرمزي في اتصال دائم. وهناك أحيانا لمسة شبيهة بالوساطة الروحية، كأن كولكوهون كانت تستحضر أرواحا ورؤى من عالم آخر وتحيلها إلى لوحات وألوان.

تصاميمها اللاحقة لأوراق التاروت وتجريداتها الكونية، تصبح أكثر تأملا وتخيلا من كونها ملاحظة مباشرة. بطاقات وخرائط نجمية موجهة للمهتمين بالعوالم الغامضة. هذه الأعمال تعزز الإحساس بأن فن كولكوهون لم يكن مجرد زخرفة سطحية، بل محاولة لجعل القوى الخفية العاملة في العالم تكون مرئية.

هذه ليست مجرد لوحات معلقة على الجدران، بل دعوة إلى تأمل عالم وسيط بين الطبيعي والخارق للطبيعة

رتب المعرض بتراتبية زمنية: اللوحات التصويرية المبكرة، التجارب السوريالية، أعمال التاروت خلال الحرب، التجريد اللاحق. لكنه أيضا منظم بعناية وفقا للموضوعات. القاعات مرتبة لتبرز التداخل بين الأنوثة والطبيعة والأسطورة والعوالم الغامضة، والنتيجة خلق جو فني ممتع ومتنوع.

tate.org.uk
إيل كولكوهون، «صفات القمر»، 1947

ومع ذلك، فإن الزائر يستشعر فجوة نسبية في السياق تترك بعض الأسئلة دون إجابة. فنحن نعرف القليل عن حياة إيتل كولكوهون الشخصية وتوجهاتها السياسية أو سبب أهمية العوالم الروحية بالنسبة إليها. فالزائر يكون في تماس حميم مع أعمالها، لكننا لا نلمح المرأة التي تقف وراء هذه التجارب الفنية المختلفة. وقد لا نستطيع فك رموز أعمال كولكوهون الميتافيزيقية بشكل كامل، لكن المعرض يظل ممتعا وملهما. ولعل هذه هي ميزة الفن في النهاية، الدعوة إلى التأمل بدلا من أن يكون الفن مجرد سلعة للتداول.

وبصفتها سوريالية عاشت في منتصف القرن ولها ميول روحية عميقة ولم تنل الاهتمام الكافي، لا تحتاج إيتل كولكوهون إلى معرض استعادي ضخم يضم كل ما أنتجته. بدلا من ذلك، يوفر هذا المعرض المحدود والمنظم بعناية مفتاحا مناسبا جدا لاستكشاف بقية أعمالها وكتبها وحياتها، فهو يحتفظ بجرعة غموض ويدعو إلى المزيد من الفضول، مع عدم تبسيط أو تفسير شخصيتها المعقدة.

زيارة معرض إيتل كولكوهون الاستعادي تجربة مثيرة حقا، إذ أن رسالة الفنانة واضحة في كل مكان: هذه ليست مجرد لوحات معلقة على الجدران، بل دعوة إلى تأمل عالم وسيط بين الطبيعي والخارق للطبيعة. وتعد إقامة المعرض في حدّ ذاتها إنجازا في فن العرض يحسب لإدارة "غاليري تيت"، إذ جمعت الأعمال المعروضة من متاحف ومعارض ومقتنيات شخصية، وكأن نافذة مؤثرة وغنية بالنسيج البصري فتحت على فنانة عاشت طويلا بين عوالم متوازية، بين العام والخاص، وبين المادي والروحي.

font change

مقالات ذات صلة