سوريا بحاجة إلى الدعم... لكن عليها تهيئة الأرضية

سوريا بحاجة إلى الدعم... لكن عليها تهيئة الأرضية

استمع إلى المقال دقيقة

بينما تحاول سوريا طيّ صفحة حربٍ أنهكتها لأكثر من عقد، تبدو حكومتها مصمّمة على المضي في طريق التعافي، سواء حظيت بدعم المؤسسات المالية الدولية أم لم تحظَ به. وقد قال وزير المالية محمد يسر برنيه الأسبوع الماضي: "نحن بحاجة إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فهما يلعبان دورا رئيسا، ومن دونهما يصعب علينا المضيّ قدما، لكن إذا تأخّرا كثيرا، فسنواصل العمل من دونهما".

اكتسب هذا التصريح أهمية مضاعفة نظرا لسياق إطلاقه، خلال جلسة النقاش المشتركة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي السنوية في واشنطن. ويعكس هذا الإلحاح حجم الضغوط المتزايدة على الاقتصاد السوري، لكنه لا يقدّم تفسيراً كاملاً لتباطؤ الدعم الدولي.

وكنتُ حضرتُ تلك الاجتماعات، كما فعل الوزير برنيه، لمناقشة آفاق الاقتصاد السوري وتحديات إعادة الإعمار. وفي لقاءات خاصة مع ممثلي عدد من المؤسسات المالية الدولية، تبلورت لدي صورة أكثر تعقيدا. فبينما أقرّ من تحدثت إليهم بوجود تأخير في تقديم الدعم، شدّدوا على أن العقبة الأساسية تكمن في كون جاهزية سوريا لتلقّي المساعدة لا تزال محدودة. إذ ما تزال حوادث العنف والعوائق الإدارية المزمنة تعرقل الانخراط الفني المطلوب.

كما أن سوريا لا تملك ترف الانتظار، فإن المجتمع الدولي بدوره لا يستطيع التلكؤ. لكن الدعم الدولي لا يُبنى على الحاجة وحدها، بل أيضا على القدرة على استيعابه. ولتفادي إنهاك المانحين أو تحويل الموارد إلى وجهات أخرى، يتعيّن على دمشق اتخاذ خطوات حاسمة، تماما كما يُنتظر من المجتمع الدولي مواصلة التزامه.

مؤشرات إيجابية

لا مشاحة في حجم الاحتياجات السورية، التي يعرفها ممثلو المؤسسات المالية الدولية والذين عبروا مرارا عن قلقهم من عمق الأزمة الاقتصادية، وأكدوا ضرورة الإسراع في تقديم المساعدات.

والمبشّر أن هناك توافقا واسعا حول الأولويات. فقد تكرّرت في الأحاديث الخاصة ذات النقاط التي طرحها الوزير برنيه علناً: تعزيز القدرات المؤسسية، وتمهيد الطريق لإصلاحات موثوقة، واستعادة الثقة العامة في إدارة الاقتصاد السوري.

كما أثنى موظفو المؤسسات الدولية على انفتاح السلطات الانتقالية السورية على الدعم الفني، ورغبتها في الاستفادة من الخبرات المؤسسية. ورغم أن هذا الانخراط لا يزال في مراحله الأولى، فإنه يُعدّ مؤشراً إيجابياً.

لكن هذا الزخم الإيجابي كثيراً ما تعرّض للعرقلة. فمثلاً، أدّت الاشتباكات العنيفة في محافظة السويداء إلى تأجيل زيارة لجنة فنية كانت مكلفة بوضع خطة لبناء قدرات المؤسسات المالية السورية.

كما أن سوريا لا تملك ترف الانتظار، فإن المجتمع الدولي بدوره لا يستطيع التلكؤ. لكن الدعم الدولي لا يُبنى على الحاجة وحدها، بل أيضا على القدرة على استيعابه

كما أن العراقيل الإدارية ما تزال تعيق التقدّم. فالتأخير المستمر في إصدار التأشيرات، إلى جانب الاعتماد على الاجتهاد الفردي في منح الموافقات الأساسية بدلاً من الإجراءات المؤسسية الممنهجة، قد أدى إلى تباطؤ إيصال الدعم الدولي.
وفوق ذلك، فإن تداخل الأولويات، ولا سيما تلك المرتبطة بالسياسة الخارجية، قد صرف انتباه بعض المسؤولين السوريين عن هذه الملفات، وأخّر الخطوات الإدارية اللازمة لدفعها قدماً.

لا بد من فتح الأبواب


هذه التحديات ليست جديدة، ولا تقتصر على المؤسسات المالية الدولية. بل إنها تعكس نمطا تكرر في محادثاتي مع حكومات وجهات دولية أخرى منذ سقوط نظام الأسد. فقد تعثرت عروض الدعم الفني مرارا بسبب ضعف التنسيق، وانقطاع التواصل، أو غياب الجاهزية التشغيلية على الأرض.
وفي معظم الحالات، عبّر المسؤولون السوريون عن امتنانهم واستعدادهم للتعاون. لكن كثيرا من هذه العروض لم يُكتب لها التحقق. فالتأخير لا يعود بالضرورة إلى غياب الإرادة، بل إلى هشاشة المرحلة الانتقالية وضعف البنية المؤسسية. ومع ذلك، فإن السلطات الانتقالية مطالبة ببذل الجهد اللازم لتهيئة الظروف التي تسمح بانطلاق الدعم الدولي.
الوزير برنيه محق في قوله إن سوريا لا تستطيع الانتظار. لكن الأمر ذاته ينطبق على المؤسسات الدولية وحكومات المانحين. فاهتمام العالم بسوريا لا يزال قائما حتى الآن. لكن من دون مؤشرات موثوقة على استعداد دمشق لاستيعاب عروض الدعم والتفاعل معها، قد يتحول الاهتمام والموارد إلى وجهات أخرى.
إن مستقبل سوريا مرهون بقدرتها على أن تكون شريكا موثوقا في مسيرة تعافيها. وإذا لم يتحقق ذلك، فقد لا يجد الفاعلون الدوليون خيارا سوى الاستثمار في بدائل أكثر قابلية للتحقق. صحيح أن العبء مشترك، لكن مسؤولية فتح الباب تقع على عاتق سوريا، وفقط عبر هذه الخطوة يمكن تحويل عروض الدعم إلى تقدم ملموس ومستدام. 

font change