السودان... هكذا أعيد إنتاج "الجنجويد" تحت اسم "القوات المشتركة"

المشهد يعيد نفسه بطريقة واضحة

رويترز
رويترز
قوات الدعم السريع يستقبلون الناس أثناء تأمينهم لموقع يحضر فيه الفريق أول محمد حمدان دقلو، نائب رئيس المجلس العسكري ورئيس قوات الدعم السريع، في الخرطوم، السودان، 18 يونيو 2019

السودان... هكذا أعيد إنتاج "الجنجويد" تحت اسم "القوات المشتركة"

خمسة قتلى مدنيين في ضربة جوية على كلية الهندسة بالدِبّة. الخبر عابر، لولا سؤال واحد: ماذا كانت تفعل قوة عسكرية داخل كلية جامعية في أقصى الشمال السوداني؟ المكان بعيد عن جبهات القتال الرئيسة في الخرطوم ودارفور. والقوة المتمركزة هناك ليست الجيش النظامي، بل "القوات المشتركة".

قبل ستة أشهر من تلك الضربة، في 11 أبريل/ نيسان 2024، ظهر قادة هذه القوات في تسجيل مصوّر مهيب. أعلنوا تأييدهم للجيش السوداني، تعهدوا فيه بالدفاع عن الفاشر، ورفعوا شعارات الوطنية والوحدة. مشهد يبدو مألوفا في زمن الحرب. لكن هناك تفصيل واحد يقلب المعادلة رأسا على عقب: هؤلاء القادة أنفسهم كانوا، قبل سنوات قليلة، يحملون السلاح ضد الجيش ذاته الذي يقفون إلى جانبه اليوم. عقدان من التمرد المسلح. آلاف القتلى. مناطق كاملة خارج سيطرة الدولة. ثم صفقة تحوّل المتمردين إلى حلفاء، والأعداء إلى شركاء في السلطة.

لم تعد "القوات المشتركة" مجرد قوة تقاتل على جبهة محددة. في أكتوبر/تشرين الأول 2025، شهد السودان موجة من الهجمات بالطائرات المسيّرة طالت مواقع متفرقة: منطقة عد بابكر شرق الخرطوم، وكادوقلي في جنوب كردفان، والدِبّة في الشمال. وفي كل مرة، كانت "القوات المشتركة" حاضرة، متمركزة، منتشرة بشكل يثير الأسئلة. في عطبرة، مدينة هادئة نسبيا بعيدة عن الحرب، سقط ضحايا لإطلاق نار داخل مستشفى. الاتهامات وُجّهت مباشرة لعناصر من "القوات المشتركة". في كردفان، نشرت القوات اعتذارا على "فيسبوك" لأصحاب المزارع عن أضرار لحقت بممتلكاتهم. اعتذار يبدو بريئا، لكنه في الواقع اعتراف ضمني بالتورط. السؤال الذي يطرح نفسه: إذا كانت هذه القوات حليفة للجيش في مواجهة "قوات الدعم السريع"، فلماذا تنتشر في مناطق بعيدة عن الجبهات؟ ولماذا تتورط في حوادث ضد المدنيين؟

الجيش و"القوات المشتركة"، يدركان أن الدمج الحقيقي يعني نهاية الامتيازات والنفوذ. الجيش يحتاج هذه القوات في الحرب، والقوات تحتاج استقلاليتها للحفاظ على نفوذها السياسي والاقتصادي. صفقة ضمنية يدفع ثمنها المدنيون

الإجابة تكمن في فهم طبيعة هذه القوات. اتفاق جوبا للسلام في أكتوبر 2020 كان نقطة التحول. بموجبه، دُمجت حركات مسلحة متعددة تحت مظلة واحدة: "حركة العدل والمساواة" بقيادة جبريل إبراهيم، "الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال" بقيادة مالك عقار، "حركة تحرير السودان" بقيادة مني أركو مناوي، فصائل أخرى من بينها قيادات مثل مصطفى تمبور، وحتى موسى هلال، المؤسس السابق لـ"الجنجويد" نفسه. هذه الحركات التي كان بعضها يقاتل الدولة السودانية لعقدين بحجة التهميش والظلم، تحولت فجأة إلى حليف رسمي للمؤسسة العسكرية نفسها التي كانت تحاربها، في صفقة سياسية منحتهم مناصب حكومية ورواتب وشرعية.

حاليا "القوات المشتركة" لم تعد مجرد ميليشيا يُستعان بها ثم تُهمَّش. هذه المرة، حصلت على شيء أخطر بكثير: الشرعية السياسية الكاملة. تسيطر اليوم على وزارات سيادية وحيوية: المالية، الخارجية، التعدين. نفوذ اقتصادي ودبلوماسي يفوق بكثير ما حصل عليه "الجنجويد" في بداية تكوينه. هذه ليست مجرد قوة عسكرية مساندة. هذه كيانات سياسية-عسكرية متكاملة تمسك بمفاصل الدولة. والسؤال المرعب: ماذا يمكن أن تفعل "القوات المشتركة" في المستقبل بكل هذا النفوذ؟

أ.ف.ب
أشخاص فروا من مخيم زمزم للنازحين بعد سقوطه تحت سيطرة قوات الدعم السريع، يصطفون للحصول على حصص غذائية، في منطقة دارفور غرب السودان في 13 أبريل

الإعلام الرسمي يقدم "القوات المشتركة" كـ"درع وطني" يقاتل ضد "قوات الدعم السريع". لكن على الأرض، الصورة أكثر تعقيدا وأشد قتامة. في دارفور، لا تكتفي هذه القوات بقتال "الدعم السريع"، بل تخوض في الوقت ذاته معارك دامية ضد قبائل جيرانها. الحرب هناك تحولت إلى صراع إثني ووجودي. بالنسبة لهذه المجموعات، القتال ليس مجرد دفاع عن "الوطن" أو "الجيش". إنه معركة بقاء لحماية نفوذها القبلي والإقليمي. حرب داخل حرب. صراع متشابك يصعب فيه التمييز بين ما هو وطني وما هو طائفي. وهذا ما يجعل الخطر مضاعفا: قوة مسلحة لها أجندات متعددة، بعضها لا علاقة له بالحرب الرسمية، وبعضها يهدد النسيج الاجتماعي للبلاد بأكمله.

ورغم أن اتفاق جوبا نص صراحة على دمج هذه القوات في الجيش النظامي، إلا أن الواقع سار في اتجاه مختلف تماما. في أغسطس/آب 2025، أصدرت "القوات المشتركة" بيانا رسميا ترفض فيه قرار الدمج الصادر عن قائد الجيش. ثم جاء تصريح مفاجئ من جبريل إبراهيم في سبتمبر/أيلول عن "إخضاع القوات للانضباط الكامل"، قبل أن تتراجع المؤسسة العسكرية بحجة "احتياجات المعركة". رقصة دبلوماسية متوقعة. الحقيقة أن الطرفين، الجيش و"القوات المشتركة"، يدركان أن الدمج الحقيقي يعني نهاية الامتيازات والنفوذ. الجيش يحتاج هذه القوات في الحرب، والقوات تحتاج استقلاليتها للحفاظ على نفوذها السياسي والاقتصادي. صفقة ضمنية يدفع ثمنها المدنيون.

منذ سقوط نظام البشير عام 2019، حاولت المؤسسة العسكرية كسب الشرعية عبر وسائل غير تقليدية

ولتلميع هذه الصورة المعقدة، لجأ الإعلام الموالي للجيش إلى استراتيجية واضحة: الرموز الوطنية والخطاب الموحِّد. في معارك الفاشر، ظهر قادة "القوات المشتركة" إلى جانب ضباط الجيش أمام شعارات "الوطن الموحد" و"الجيش الواحد". بعد سيطرتهم على مدينة "بارا" في سبتمبر 2025، أُعيد بث النشيد الوطني في احتفالات النصر. حتى وزير المالية جبريل إبراهيم ظهر في أبريل/نيسان 2025 بخطاب تعبوي من محور الصحراء متحدثا عن "تطهير كل شبر من السودان". كان واضحا أن المؤسسة العسكرية تحاول استثمار الخطاب الوطني بعد أن استنفد الخطاب الإسلامي والأيديولوجي قدرته على التعبئة.

التاريخ يعيد نفسه

المشهد يعيد نفسه بطريقة واضحة. في أوائل الألفية الثانية، لجأ نظام عمر البشير إلى تسليح بعض القبائل العربية في دارفور لمواجهة التمرد الذي اندلع عام 2003. الحجة كانت بسيطة: الجيش النظامي غير كافٍ، نحتاج "مساندة". لم تكن الحكومة تملك القدرة أو الرغبة في نشر الجيش النظامي بشكل واسع، فاختارت الاعتماد على ميليشيات محلية يسهل التنصل من جرائمها. تلك الميليشيات، التي عُرفت باسم "الجنجويد"، ارتكبت فظائع واسعة ضد المدنيين، صنفتها المحكمة الجنائية الدولية كجرائم حرب وإبادة جماعية. ثم، مع مرور الوقت، تحولت هذه التشكيلات إلى "قوات الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لتصبح قوة شبه مستقلة قادرة على شن حرب ضد الدولة نفسها في أبريل 2023.

AFP
عرض عسكري للجيش السوداني في يوم الجيش، 2024

الدرس كان واضحا وقاسيا: القوات الموازية التي تُستدعى للمساندة اليوم قد تتحول غدا إلى تهديد وجودي. لكن رغم وضوح هذا الدرس، تُعاد التجربة اليوم بنفس المنطق ونفس الأدوات. الفرق الوحيد هو المسمى والغلاف السياسي. منذ سقوط نظام البشير عام 2019، حاولت المؤسسة العسكرية كسب الشرعية عبر وسائل غير تقليدية، بدءا من استيعاب الحركات المسلحة في اتفاق جوبا، وصولا إلى تشكيل "القوات المشتركة" كإطار يجمعها. فقد الجيش الكثير من شرعيته الشعبية، فلجأ إلى تشكيلات موازية ليبدو بمظهر "الجيش الجامع" الذي يحتضن مختلف القوى، في محاولة لتعويض التآكل المتسارع في صورته لدى الشارع. والمفارقة المأساوية: القوات التي يُفترض أنها حليفة اليوم كانت بالأمس جزءا من المعارضة المسلحة التي قاتلت الدولة لعقدين. كيف يمكن الثقة بمن كان عدوك بالأمس؟ وكيف يمكن أن يُؤتمن على مستقبل البلاد من قاتل ضدها لعشرين عاما؟

و"القوات المشتركة" ليست وحدها. الحرب أنتجت شبكة كاملة من الميليشيات: "البراء بن مالك" (إسلامية)، "غاضبون بلا حدود" (ثورية سابقة)، "درع السودان" (منشقة عن "الدعم السريع")، "المستنفرون وأولاد قمري" (مناطقية وعشائرية)، و"ميليشيات الشرق". الأرقام تتراوح بين 50-70 ألف مقاتل، وهذا لا يشمل أعدادا غير محصاة في المقاومة الشعبية. كل هذه التشكيلات تعمل بمنطقها الخاص، ولها أجنداتها المستقلة، وولاءاتها المتعددة. كلما طالت الحرب، ازداد نفوذها واستقلاليتها.

طالما أن المؤسسة العسكرية ترفض إصلاحات حقيقية، وتصرّ على إنتاج نسخ جديدة من الكارثة نفسها تحت تسميات مختلفة، سيبقى السودان محكوما بدورات عنف لا تنتهي

بينما يُرفع النشيد الوطني في احتفالات "النصر"، وتُردد شعارات "الوطن الموحد" في مشاهد إعلامية مُرتّبة، يعيش ملايين السودانيين أسوأ كابوس إنساني في تاريخهم الحديث. لا كهرباء، لا ماء نظيفا، لا أدوية في المستشفيات، أسعار الغذاء في السماء، والعملة المحلية فقدت قيمتها. البقاء على قيد الحياة أصبح إنجازا يوميا. السلطات منشغلة بخطابات السيطرة على المدن، والمواطنون يواجهون خطر الموت جوعا. مفارقة صارخة تكشف الهوة بين خطاب المؤسسة العسكرية وواقع الشارع. حتى محاولات تلميع صورة "القوات المشتركة" بالرموز الوطنية والخطابات الحماسية لا تخفي السؤال الحقيقي: لمن تُخاض هذه الحرب؟ ومن يدفع ثمنها؟

نهاية مفتوحة على كارثة محتملة

السودانيون يشاهدون فيلما رأوه من قبل. يعرفون كيف يبدأ، ويعرفون كيف ينتهي. لكنهم هذه المرة عاجزون عن إيقافه. تبدأ القصة بـ"قوة مساندة" تُقدَّم كـ"درع وطني"، ثم تكتسب نفوذا واستقلالية تدريجية، ثم تتحول إلى كيان مستقل بأجندته الخاصة، وأخيرا تصبح تهديدا للدولة نفسها. الفرق هذه المرة أن "القوات المشتركة" تملك ما لم يملكه "الجنجويد". تملك الشرعية السياسية، الوزارات السيادية، النفوذ الاقتصادي، والدعم الإقليمي. وهذا يجعل الخطر أضعافا مضاعفة.

أ.ف.ب
احتفال في بلدة صالحة، جنوب أم درمان، بعد يومين من استعادتها من "قوات الدعم السريع"، السودان في 22 مايو

السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل ستتحول هذه القوات إلى التهديد المؤجل الذي سينفجر لاحقا؟ المؤشرات تقول نعم. طالما أن المؤسسة العسكرية ترفض إصلاحات حقيقية خصوصا فيما يتعلق بدمج القوات العسكرية غير النظامية، وتصرّ على إنتاج نسخ جديدة من الكارثة نفسها تحت تسميات مختلفة، سيبقى السودان محكوما بدورات عنف لا تنتهي. الحل معروف ومطروح منذ سنوات: تفكيك كل التشكيلات الموازية، محاسبة المتورطين في جرائم ضد المدنيين، ودمج العناصر بعد فحص دقيق في جيش وطني موحد يخضع لقيادة مدنية منتخبة.

لكن هذا الحل يتطلب شيئا واحدا غائبا تماما: الإرادة السياسية. وإلى أن تتوفر تلك الإرادة، سيستمر المدنيون في دفع الثمن. كما دفعوه مع "الجنجويد"، ومع "قوات الدعم السريع"، وكما سيدفعونه غدا مع "القوات المشتركة" أو أي مسمى آخر قد يُخترع لاحقا. التاريخ يعيد نفسه في السودان، لكن ليس كمأساة فحسب، بل كمأساة مضاعفة. والضحايا هم أنفسهم دائما: المدنيون الذين لا حول لهم ولا قوة، والذين يدفعون ثمن صفقات سياسية وعسكرية لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

font change

مقالات ذات صلة