بعوضة مترو لندن لها أصول مصرية

انفصلت عن سلالتها قبل آلاف الأعوام

Sara Padovan
Sara Padovan
رغم أن بعوضة متزو لندن تشبه في شكلها العادي بعوضة المنازل المنتشرة في أوروبا، فإنها تختلف عنها في كل شيء تقريبا سواء في السلوك، أو في طريقة التزاوج

بعوضة مترو لندن لها أصول مصرية

منذ أن بدأ الإنسان في بناء المدن وترويض الطبيعة، لم يكن يغير الأرض وحدها، بل كان يعيد تشكيل الحياة التي تعيش عليها أيضا. فكل شارع معبد، وكل نفق محفور تحت الأرض، وكل حقل زرع بيد بشرية، ترك بصمته على الكائنات من حولنا. ومع مرور الزمن، ظهرت أنواع جديدة لم تكن موجودة من قبل، كأنها وجدت لتعيش معنا وتتكيف مع عاداتنا. ومن بين هذه الأنواع، ظهرت واحدة غامضة أثارت خيال العلماء والجمهور على السواء: بعوضة مترو لندن.

ورغم أن هذه البعوضة تشبه في شكلها العادي بعوضة المنازل المنتشرة في أوروبا، فإنها تختلف عنها في كل شيء تقريبا، سواء في السلوك، أو في طريقة التزاوج، أو في قدرتها على البقاء في البيئات المغلقة والمعتمة تحت الأرض. لذلك كانت الحكاية مغرية للعلماء الى درجة أن بعضهم ظن أن هذه الحشرة ولدت من رحم المدينة الحديثة نفسها، وأنها تطورت خلال القرنين الماضيين فقط داخل أنفاق مترو لندن، وكأنها نتاج مباشر للحضارة الصناعية.

لكن الدراسة الجديدة المنشورة في دورية "ساينس" المرموقة، قلبت القصة رأسا على عقب، فبعوضة المترو ليست ابنة لندن، بل ربما تكون ابنة وادي النيل القديم.

بدأت الحكاية حين قرر العلماء فحص فرضية استقرت في أذهان كثيرين، مفادها أن بعوضة مترو لندن تطورت محليا في أوروبا خلال القرنين الماضيين، تزامنا مع نشوء المدن الحديثة وشبكات الأنفاق. كانت القصة أن هذه الحشرة وجدت في مترو لندن بيئة مغلقة دافئة على مدار السنة، مليئة بالبشر، فتكيفت بسرعة مذهلة حتى أصبحت سلالة جديدة قادرة على التزاوج في الظلام ولدغ الإنسان دون تردد. الى درجة أن بعض الكتب المدرسية استخدمها كمثال على السرعة التي يمكن أن يحدث بها "التطور الحضري"، أي تكيف الكائنات مع المدن في زمن قصير للغاية.

لكن فريقا من الباحثين لم يقتنع بتلك الرواية المريحة. فالتطور، كما يعرف العلماء، لا يقاس بالقصص، بل بالأدلة الجينية. لذلك جمع الباحثون أكبر مجموعة من عينات البعوض شملت نحو 357 عينة حديثة من أوروبا وشمال أفريقيا وغرب آسيا، و22 عينة تاريخية محفوظة في المتاحف البريطانية تعود إلى منتصف القرن العشرين، ثم استخدموا أحدث تقنيات تحليل الجينوم لتتبع أصول هذا البعوض، وكيف اختلفت المجموعات عبر الزمن والمكان، باحثين عن الإجابة في الشيفرة الوراثية نفسها.

تنسف النتائج فرضية "أصل لندن"، وتفتح الباب أمام فهم أعمق لعلاقة الإنسان بالكائنات التي تعيش معه في المدينة

كانت المفاجأة الأولى أن بعوضة المترو، رغم اختلاف سلوكها، لا تختلف شكلا عن بعوضة المنازل العادية، مما جعل تمييزها في الماضي صعبا للغاية. لكن الفحوص الجينية كشفت شيئا أدق بكثير، فهذه البعوضة لم تظهر فجأة في أنفاق لندن، بل انفصلت عن سلالتها الأصلية قبل آلاف السنين، ربما في مكان أقرب إلى مصر أو شرق البحر المتوسط. وتشير التحليلات إلى أن هذا الانفصال حدث مع بدايات الزراعة وتوسع المجتمعات البشرية الأولى، حين بدأ الإنسان يقيم تجمعات مستقرة ويبني مخازن للحبوب وحظائر للحيوانات، مما وفر بيئة جديدة لكائنات كانت تعيش سابقا في البرية.

Shutterstock
اكتسبت هذه البعوضة سمعة سيئة خلال الحرب العالمية الثانية بسبب لدغاتها المتكررة لسكان لندن الذين كانوا يحتمون خلال الغارات الجوية

ورغم أن فريق الدراسة لا يستطيع تحديد التاريخ بدقة، فإن الدلائل تشير إلى أن تلك البعوضة بدأت في التكيف مع الإنسان منذ أكثر من ألف عام، وليس خلال القرنين الماضيين فقط كما كان يعتقد. ومع مرور الزمن، حملها البشر معهم أثناء هجرتهم من الشرق إلى أوروبا، حيث وجدت في المدن الباردة تحت الأرض مأوى مثاليا لتكرار دورة حياتها بعيدا من الشتاء القارس. وبذلك أصبحت بعوضة المترو مثالا ليس على "التطور السريع"، بل على "الإرث التطوري الطويل" الذي بدأ مع فجر الحضارة الزراعية.

كيف وصلت إلى لندن؟

هذه النتيجة، التي تنسف فرضية "أصل لندن"، تفتح الباب أمام فهم أعمق لعلاقة الإنسان بالكائنات التي تعيش معه في المدينة. فالمدن ليست فقط تجمعات بشرية، بل أنظمة بيئية جديدة بالكامل. فيها تذوب الحدود بين الطبيعة والصناعة، ويعاد ترتيب قواعد الانتقاء الطبيعي. ولذلك يرى الباحثون أن قصة بعوضة المترو هي مرآة مصغرة لمسار أوسع بكثير: كيف تعيد الحضارة البشرية توجيه مسار التطور البيولوجي على الأرض.

لكن قبل أن يحاول العلماء فهم كيف وصلت هذه البعوضة إلى لندن، كان عليهم أولا معرفة من أين جاءت، وما الذي يجعلها مختلفة إلى هذا الحد عن أقاربها. لأن السؤال الحقيقي الذي حاولوا حله لم يكن فقط "متى" ظهرت، بل "كيف" استطاعت أن تتحول إلى نوع جديد داخل نوع قديم. وهنا تبدأ التفاصيل الجينية في رسم صورة مذهلة عن رحلة تكيف استمرت آلاف السنين.

يقول الباحثون إن مفتاح حل لغز بعوضة المترو كان في الجينات، لا في الحكايات. فالمظهر الخارجي قد يخدع، لكن الشيفرة الوراثية لا تكذب أبدا. ولهذا السبب اعتمد الفريق على تحليل الحمض النووي الكامل لجميع العينات ومن ضمنها 22 عينة تاريخية محفوظة في المتاحف البريطانية، تعود إلى الفترة بين عامي 1940 و1985، أي إلى زمن الحرب العالمية الثانية وما بعدها.

كانت الخطوة الأولى هي بناء خريطة جينية شاملة تظهر العلاقة بين السلالات المختلفة لهذا البعوض، وكيف توزعت عبر الجغرافيا والزمن. استخدم الباحثون تقنية تعرف بـ"تحليل المكونات الرئيسة"، وهي طريقة تسمح برؤية الفروق الوراثية بين المجموعات عبر ملايين النقاط من الشيفرة الوراثية.

من خلال تتبع الطفرات الجينية المشتركة بين السلالات، توصل العلماء إلى نتيجة مذهلة، أن البعوضة تفرعت عن السلالة الأصلية قبل أكثر من ألف عام

كانت النتيجة مدهشة، فالعينات التي جمعت من بيئات فوق الأرض -كالحدائق والأنهار- تجمعت في جهة، والعينات التي جاءت من باطن الأرض -من الأقبية ومحطات المترو- تجمعت في الجهة المقابلة. أي أن هناك خطا وراثيا واضحا يفصل بين البعوضتين، رغم أن شكلهما الخارجي يكاد يكون متطابقا.

لكن اللافت أن الفاصل الوراثي لم يكن صارما في كل مكان. ففي شمال أوروبا، مثل بريطانيا والدنمارك، كان الفرق بين البعوضتين كبيرا وواضحا، بينما تقلص تدريجيا كلما اتجهنا جنوبا نحو المتوسط. في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، فتداخلت المجموعتان بشكل أكبر، حتى بدا كأنهما تشتركان في أصل واحد قديم. عند هذه النقطة، بدأ العلماء يشكون أن القصة الحقيقية لا تبدأ في لندن، بل تنتهي فيها.

Shutterstock
بعوضة الزاعجة المصرية. صورة مقربة لبعوضة تمتص دما بشريا.

وللتأكد من ذلك، استعان الفريق بالعينات التاريخية التي جمعت من لندن نفسها أثناء القرن الماضي، بما في ذلك عينات من محطات مترو مشهورة مثل بادينغتون ومونيومنت وباركينغ. هذه العينات كانت كنزا ثمينا لأنها تمثل البعوض الذي كان يعيش في المترو خلال الحرب العالمية الثانية، حين اشتهر للمرة الأولى باسم "بعوضة لندن تحت الأرض". المفاجأة أن تحليل تلك العينات القديمة أظهر النمط الوراثي نفسه الذي نراه اليوم. لم يطرأ أي تغير جوهري خلال الـ75 سنة الماضية. أي أن بعوضة المترو لم "تتطور" حديثا، بل كانت موجودة بالفعل بتلك الصفات منذ زمن بعيد، وجاءت ببساطة إلى الأنفاق حين بنيت.

قلب العالم الزراعي القديم

ومن خلال تتبع الطفرات الجينية المشتركة بين السلالات، توصل العلماء إلى نتيجة مذهلة، أن البعوضة تفرعت عن السلالة الأصلية قبل أكثر من ألف عام، وربما في منطقة تمتد من مصر إلى شرق المتوسط، أي في قلب العالم الزراعي القديم. هناك، حيث بدأ الإنسان يروي الأرض ويخزن الماء والحبوب، وجد البعوض بيئة جديدة عامرة بالمياه الراكدة والأنفاق والطين الرطب. هذه الظروف كانت مختلفة عن المستنقعات الطبيعية، لكنها مثالية لأنواع قادرة على التكيف مع الإنسان ومع بيئته الاصطناعية.

كما أظهر التحليل وجود تدرج وراثي عبر خطوط العرض، فكلما اتجه العلماء شمالا، ازداد تمايز بعوض مترو لندن لكن دون أن يختفيا كليا عن بعضهما. هذا يعني أن السلالتين ليستا معزولتين عزلا تاما، بل تتداخلان أحيانا، خاصة في المدن الكبرى التي تجمع بين بيئات فوق الأرض وتحتها. في بعض المناطق، وجدت بعوضات هجينة تحمل جينات من الشكلين معا، وهو ما يثير قلق العلماء، لأن هذه الهجن تستطيع أن تلدغ الطيور والبشر معا، مما يجعلها جسرا مثاليا لنقل فيروسات مثل "غرب النيل".

وضع العلماء حدا لأسطورة "بعوضة لندن الحديثة"، وأعادوا رسم خريطة تطورها على مدى ألف عام

لم تكن الدراسة مجرد بحث في تاريخ التطور، بل أيضا في الصحة العامة. فالبعوض المنزلي هو أحد أهم نواقل الأمراض في العالم المعتدل، خاصة في أوروبا وأميركا الشمالية. أما السلالة الأصلية التي انحدرت منها البعوض المنزلي وبعوض مترو لندن، فتفضل الطيور، ولا تلدغ الإنسان عادة، بينما تفضل البعوضة المنزلية البشر وتعيش في الأماكن المغلقة. لكن حين يلتقي الشكلان ويحدث التهجين بينهما، يظهر جيل جديد يلدغ النوعين معا، فيفتح الباب أمام انتقال فيروسات الطيور إلى الإنسان.

وفي السنوات الأخيرة، شهدت مناطق عدة في أوروبا وأمريكا الشمالية زيادة في حالات عدوى فيروس غرب النيل، وهو ما دفع الباحثين إلى التساؤل: هل يمكن أن يكون هذا البعوض الهجين هو السبب؟ تشير الدراسة إلى أن التهجين بين الشكلين يحدث فعلا، لكن بوتيرة أقل مما كان يعتقد. فالتحليلات الجينية أوضحت أن ما كان يظن أنه اختلاط وراثي بين السلالتين، هو في الحقيقة بقايا تنوع قديم داخل السلالة الأصلية نفسها، وليس نتيجة تهجين حديث. ومع ذلك، لوحظ أن المناطق ذات الكثافة السكانية العالية – أي الأكثر تحضرا – هي التي يظهر فيها التهجين فعلا، ما يشير إلى أن حياة المدينة ما تزال تلعب دورا في إعادة خلط الجينات بين البعوضتين.

بهذه النتائج، وضع العلماء حدا لأسطورة "بعوضة لندن الحديثة"، وأعادوا رسم خريطة تطورها على مدى ألف عام. فبدلا من قصة تطور سريع في أنفاق القرن التاسع عشر، ظهر أمامنا سيناريو أكثر عمقا، فنوع من البعوض بدأ رحلته مع الإنسان في القرى الزراعية القديمة، تكيف مع بيئة الإنسان الأولى، ثم رافقه في رحلاته إلى الشمال، حتى وصل إلى لندن بعد قرون، حيث وجد في الأنفاق بيئة تشبه بدرجة مذهلة الأقبية والمخازن التي عاش فيها أجداده الأوائل في مصر.

تعايش وتطور

تقول الدراسة إن هذه القصة تذكرنا بأن التطور لا يحدث في فراغ، وأن المدينة ليست مكانا "حديثا" بيولوجيا بقدر ما هي استمرار لمشهد قديم، بدأ منذ أن قرر الإنسان أن يعيش في جماعات ويبني لنفسه مأوى دائما. فالكائنات التي تتكيف معنا اليوم في المدن — من الفئران إلى الغربان، ومن الصراصير إلى البعوض — ليست طارئة على التاريخ، بل هي نتاج آلاف السنين من التعايش بين الإنسان وبيئته المصنوعة.

قال الباحثون إن فهم القصة التطورية لبعوضة مترو لندن لا يتطلب فقط تتبع الجينات، بل أيضا قراءة التاريخ الإنساني. فحين بدأ الإنسان قبل نحو عشرة آلاف عام في الانتقال من الصيد إلى الزراعة، تغيرت البيئة على وجه الأرض جذريا. ظهرت أولى القرى الزراعية في الهلال الخصيب ووادي النيل، وبدأ الناس يخزنون الحبوب والمياه ويقيمون منازل من الطين، وهو ما خلق عالما جديدا من البرك الصغيرة والمجاري المائية والمخازن المظلمة الرطبة — وهي بيئة مثالية تماما لكائن مثل البعوض.

Natural History Museum
ربما تطورت بعوضة مترو أنفاق لندن في حوض البحر الأبيض المتوسط ​​منذ أكثر من ألف عام

في تلك اللحظة المفصلية، لم يكن الإنسان وحده الذي يخوض تجربة التحضر الأولى؛ كانت الكائنات من حوله تتغير معه. وتشير الدراسة إلى أن سلالة بعوض لندن ربما ظهرت تحديدا في هذا السياق كفرع من البعوض الأصلى تكيف مع بيئة الإنسان المغلقة والمستقرة. فالزراعة جعلت المياه راكدة أطول، والمخازن وفرت أماكن مظلمة وآمنة، والقرى كانت مزدحمة بالناس الذين يشكلون مصدر دم دافئ متاح على الدوام. ومع مرور القرون، أصبحت هذه الصفات التكيفية موروثة من ضمنها القدرة على التكاثر في أماكن مغلقة دون الحاجة إلى ضوء، والاستعداد للسع في أي وقت من اليوم، والقدرة على العيش في درجات حرارة ثابتة نسبيا.

تأتي هذه الرؤية في وقت يتزايد فيه الاهتمام بما يسمى "البيئة الحضرية التطورية"، وهو فرع علمي جديد يدرس كيف تؤثر المدن في مسارات التطور الطبيعي

وهذه الصفات بالضبط هي التي وجدت في بعوض مترو لندن. فالبعوض هناك لا يحتاج إلى الضوء لبدء موسم التكاثر، ولا يتوقف في الشتاء كما تفعل الأنواع السطحية، بل يظل نشطا طوال العام، مستفيدا من دفء الأنفاق. كما أنه لا يعتمد على الطيور، بل يفضل دم الإنسان حصرا. ولهذا يرى العلماء أن المترو لم "يخلق" نوعا جديدا، بل قدم ببساطة بيئة حديثة تشبه بيئة الأصل الزراعي القديم. أي أن البعوض الذي يعيش تحت لندن اليوم ليس سوى وارث لسلالة بشرية الطابع ولدت قبل ألف عام حين بدأت الزراعة تنتج بيئة اصطناعية تشبه المدن.

وأشارت الدراسة إلى أن هذه النتيجة تمثل تحولا في الطريقة التي يفكر بها العلماء في مفهوم "التطور الحضري". فالمألوف أن يفهم التطور الحضري على أنه عملية حديثة، نتجت من نمو المدن الصناعية خلال القرون القليلة الماضية، وأن الحيوانات التي تتكيف مع المدن هي كائنات جديدة نسبيا. لكن هذه الدراسة تقلب المفهوم رأسا على عقب: فهي تقول إن جذور "التحضر البيولوجي" أقدم بكثير، وإن بعض الأنواع بدأ يتأقلم مع بيئة الإنسان منذ ظهرت الزراعة نفسها. وبهذا، لا تعد بعوضة المترو مثالا على تطور سريع في عصرنا، بل على تطور بطيء وطويل بدأ مع نشوء الحضارة الإنسانية ذاتها.

تأتي هذه الرؤية في وقت يتزايد فيه الاهتمام بما يسمى "البيئة الحضرية التطورية"، وهو فرع علمي جديد يدرس كيف تؤثر المدن في مسارات التطور الطبيعي. فهناك اليوم أدلة على أن الحمام في المدن أصبح أكثر تحملا للملوثات، وأن نباتات معينة تطورت لتزهر في توقيت مختلف لتفادي الحرارة المنبعثة من الأسفلت، وأن الفئران الحضرية تحمل طفرات تساعدها في مقاومة السموم الكيميائية. لكن هذا النوع من البعوض يبدو حالة مختلفة تماما، فهو لم يتطور بسبب المدن الحديثة، بل سبقها، ثم ازدهر فيها.

الطور السكاني

ويشير العلماء إلى أن هذا النمط من "التحضر المبكر" لا ينطبق على البعوض وحده. فحتى القوارض التي تعيش في المدن اليوم قد يكون أصلها الزراعي مشابها، إذ ارتبطت بالبشر منذ مخازن القمح الأولى. لذلك، فإن دراسة بعوضة المترو لا تكشف فقط عن تاريخ نوع واحد، بل عن علاقة طويلة بين الإنسان وكل ما استوطن معه بيئته الاصطناعية.

ومن الناحية الجينية، لاحظ الفريق أن هناك مجموعة من الطفرات المحددة التي تميز بعوض مترو لندن عن سلفه. من بين هذه الطفرات تلك المسؤولة عن تعطيل ما يسمى "السبات الشتوي" أو "الطور السكوني"، وهي العملية التي تدخل فيها معظم أنواع البعوض عند انخفاض درجة الحرارة. وهذه الطفرة جعلت بعوض مترو لندن قادرا على التكاثر على مدار السنة، وهي ميزة لا يمكن أن تنشأ إلا في بيئة ثابتة الحرارة نسبيا، مثل القبو أو المترو أو مخزن الحبوب. كما لوحظت تعديلات جينية أخرى في مستقبلات الشم والحرارة، مما جعله أكثر قدرة على تتبع روائح الإنسان وتفضيلها على رائحة الطيور.

أن بعوض مترو لندن يمثل مثالا مصغرا على ما يعرف علميا بـ"عصر الأنثروبوسين" أي العصر الذي صار فيه الإنسان هو العامل الأبرز في تشكيل الكوكب وكل ما يعيش عليه

ويرى الباحثون أن هذه الطفرات لم تظهر دفعة واحدة، بل تراكمت عبر أجيال طويلة من التعايش مع الإنسان. وبمرور الوقت، أصبحت هذه الصفات الوراثية ثابتة، حتى إن السلالة الجديدة لم تعد قادرة على العودة إلى حياتها السابقة في الهواء الطلق. فبعوض مترو لندن اليوم لا يخرج إلى السطح، ولا يهاجر الى مسافات طويلة، بل يعيش كامل دورة حياته في الأماكن المغلقة.

ورغم هذا الانعزال البيئي، أظهرت الدراسة أن الجدار الوراثي بين السلالة الأصلية وبعوض مترو لندن ليس مطلقا. ففي بعض المناطق، خصوصا في شمال أفريقيا وجنوب أوروبا، يمكن أن يتزاوج الشكلان وينتجا ذرية هجينة. وهذا التداخل المحدود يبقي الباب مفتوحا أمام تدفق جيني متقطع، وهو ما يفسر التشابه الكبير بين السلالتين في بعض الصفات. لكن ومع التمدد الحضري المتزايد في العالم، يتوقع الباحثون أن تتسع البيئات المناسبة لبعوض مترو لندن مما قد يمنحه فرصا أكبر للانتشار.

ويحذر الفريق من أن هذه القدرة العالية على التكيف قد تجعل من بعوض المترو أحد أهم الأنواع الحضرية في المستقبل، خاصة مع توسع المدن العمودية وشبكات الأنفاق وأنظمة النقل تحت الأرض. فكل متر جديد من الأنفاق، وكل قبو دافئ، وكل خزان مياه مهجور، قد يصبح موطنا جديدا لهذا الكائن الذي رافقنا منذ أول قرية زراعية حتى آخر محطة مترو.

قال الباحثون إن نتائج الدراسة تفتح الباب أمام نقاش أوسع حول معنى التطور في زمن الإنسان. فالعلماء اعتادوا النظر إلى التطور على أنه عملية طبيعية تحدث بمعزل عن البشر، كأن الكائنات تتبدل في عالمها الخاص بعيدا من تأثير الحضارة. لكن اكتشاف أصل بعوضة المترو يثبت العكس، فالتطور لم يعد يحدث "رغم الإنسان"، بل أصبح يحدث "بسببه".

تحول سريع

في الماضي، كانت الجغرافيا والمناخ العاملين الرئيسين في تحديد مسار الكائنات. أما اليوم، فقد أصبح الإنسان نفسه قوة بيئية جديدة، إذ يبني الجبال من الإسمنت، ويخلق أنهارا تحت الأرض، ويغير درجات الحرارة والإضاءة وحتى مواسم التكاثر. وبالنسبة الى الكائنات الصغيرة السريعة التناسل مثل البعوض، يكفي بضعة قرون من العيش في هذه الظروف لتتحول إلى سلالة مختلفة تماما. ولذلك يرى الباحثون أن بعوض مترو لندن يمثل مثالا مصغرا على ما يعرف علميا بـ"عصر الأنثروبوسين" أي العصر الذي صار فيه الإنسان هو العامل الأبرز في تشكيل الكوكب وكل ما يعيش عليه.

ويعيد الاكتشاف رسم العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ويكشف أن المدن التي نظنها من صنعنا الخالص ليست منفصلة عن العالم الطبيعي، بل امتداد له. فما المترو سوى كهف طويل محفور بيد الإنسان، وما البنايات سوى جبال خرسانية، وما المصانع والمخازن إلا بيئات جديدة وفرت فرصا لتطور أنواع أخرى تتكيف معنا وتعيش على هامشنا. إنها "طبيعة جديدة"، لا هي برية خالصة ولا بشرية خالصة، بل خليط بين الاثنين.

وتطرح الدراسة سؤالا مربكا، فإذا كانت بعوضة واحدة استطاعت أن تتحول وراثيا خلال بضعة قرون فقط من العيش قرب الإنسان، فكم من الأنواع الأخرى قد تسير على النهج نفسه الآن ونحن لا نلاحظ؟ ففي كل مدينة على الأرض اليوم، هناك مئات الأنواع من الحشرات والطيور والقوارض التي تعيش حياة حضرية بالكامل، لا تعرف الغابات ولا تحتاجها. ومن المحتمل أن تكون هذه الكائنات في طريقها نحو مسارات تطورية جديدة، بعضها قد ينفصل تماما عن أصله، كما فعلت بعوضة مترو لندن من قبل.

ويحذر العلماء من أن هذا النوع من "التطور السريع الصامت" قد يحمل عواقب بيئية وصحية غير متوقعة. فعندما تتطور كائنات في عزلة داخل المدن، فإنها قد تكتسب قدرات لم تكن موجودة من قبل كمقاومة للأدوية، أو قدرة على نقل أمراض جديدة، أو سلوكيات تجعلها أكثر قربا من الإنسان. ويقول الباحثون إن فهم هذه العمليات مبكرا هو أمر حاسم لوضع استراتيجيات صحية وبيئية فعالة.

font change