على درجات مختلفة، تعاني الدول الأوربية، سواء المنضوية في الاتحاد أو الخارجة من مشكلات عميقة تشمل السياسة والاقتصاد والاجتماع. ومع إدراك الأوروبيين حجم ما يواجهون، إلا أنهم لا يبدون قادرين على علاجه بالوسائل التي اعتمدوها في العقود الماضية.
استعراض أوضاع الدول الأكبر اقتصاديا في القارة، ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، يرسم أفقا قاتما تسير إليه أوروبا. الأزمة السياسية التي تتكرر في فرنسا والركود الاقتصادي المزمن في بريطانيا وتقلص الاقتصاد الإيطالي إلى جانب المأزق الألماني في البقاء قزما سياسيا وعملاقا اقتصاديا مع انعكاسات ذلك على المجتمع والثقافة (وكان الموقف من الحرب في غزة مثالا صارخا على "التقزم السياسي" إذا جاز القول)، عوامل تقول كلها إن أوروبا تبحث عن طريق يعيدها إلى الساحة العالمية ويجعلها شريكا في الأرباح التي تعد بها الثورات التقنية التي تبزغ مع الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة.
من جهة ثانية، جاء الهجوم الروسي على أوكرانيا ليصفع الأوروبيين الذين اعتقدوا أن عصر الحروب الكبرى في قارتهم قد انتهى وأن ما جرى في يوغوسلافيا السابقة في تسعينات القرن الماضي لن يتكرر. عزز الاعتقاد هذا، رهانا على قدرة الازدهار الاقتصادي المبني على الشراكة والانفتاح في تهدئة العداوات القومية القديمة والهواجس المرتبطة بالخرائط والتهديدات الجيوسياسية والأمن والإرهاب. الصفقات الضخمة لاستيراد النفط والغاز من روسيا ومد الأنابيب البحرية برزت لمدة من الزمن كرمز على عهد جديد من العلاقات الطيبة مع موسكو القوة البرية الأوروبية الأكبر والتي لا تتبنى شكل حكم مشابه لتلك القائمة في الغرب الأوروبي. قبل أن تنقلب المائدة على الجميع مع اندلاع الحرب في فبراير/شباط 2022 ويظهر أن مكامن الخوف التي كانت سائدة في القرنين التاسع عشر والعشرين، ما زالت "حية وترفس" على ما يقال.
تضافر الأزمات البنيوية السياسية والاقتصادية الداخلية، مع عودة الخوف من عدو خارجي أعلن صراحة أنه لن يتردد في استخدام كل ما في ترسانته من أسلحة للحفاظ على أمنه، في الوقت الذي دخلت فيه الولايات المتحدة مرحلة من التغيرات العميقة، عناصر حثت الأوروبيين على البحث عن مخارج قادرة على توفير الأمن وإنعاش الاقتصاد ولو على المدى القصير.
ذلك أن المساهمة الأوروبية في الابتكارات التقنية والعلمية الحديثة التي سيقوم عليها اقتصاد العقود المقبلة تداني الصفر وأصبحت المنافسة العلمية والاقتصادية محصورة بين الولايات المتحدة والصين اللتين أصبحتا القوتين المحددتين لمسار المستقبل فيما يسعى الآخرون إلى حماية مصالحهم ضمن هذه المنافسة الضارية.
ظهرت هنا فكرة "الكينيزية العسكرية" التي تأخذ بعضا من طروحات الاقتصادي البريطاني جون ماينراد كينيز وتضعها في سياق سياسي–عسكري. تتلخص المقاربة هذه في أن الموقف الاقتصادي الأوروبي لا علاج له في ظل البنية السياسية الأوروبية والصراع الشديد على الأسواق بين قوى مؤهلة أكثر من أوروبا لتحمل المفاجآت والخسائر المحتملة والتقلبات (كالصين والولايات المتحدة) سوى في عودة الدولة إلى التدخل في العملية الاقتصادية لكن هذه المرة من باب الإنفاق العسكري الذي ينصب على شركات القطاع الخاص في "المجمع العسكري الصناعي" وعلى القطاع العام الذي تمثله– في هذه الحالة- الجيوش وأجهزة الأمن.
عليه، كان لافتا للانتباه أن الإنفاق العسكري الأوروبي ارتفع بين 2022 و2024 من 219 مليار يورو (حوالى 252 مليار دولار) إلى 343 مليار يورو (حوالى 394 مليار دولار)، بحسب أرقام المجلس الأوروبي. ومن المتوقع أن يصل الإنفاق العسكري إلى حوالى 400 مليار دولار في 2025. ويخصص قسم من هذه الأموال لتجديد الترسانات النووية البريطانية والفرنسية وتعزيز "المثلث النووي" (الصواريخ الاستراتيجية والقاذفات والغواصات القادرة على حمل أسلحة نووية)، إضافة إلى حملات تجنيد وأبحاث في المجال الحربي.
وينبغي التفريق هنا بين إنفاق يتركز على شراء المعدات العسكرية والأسلحة من الخارج كما هو الحال في بولندا، وبين ضخ الأموال العامة على الصناعات الحربية المحلية كما في فرنسا وبريطانيا.
"الكينيزية العسكرية" تأخذ بعضا من طروحات الاقتصادي البريطاني جون ماينراد كينيز وتضعها في سياق سياسي–عسكري
نقاد "الكينيزية العسكرية" يرون فيها علاجا سريعا لكنه غير مستدام للمشكلات الاقتصادية. فالنماذج التي اعتمدت على الاستثمار في الصناعات العسكرية والجيوش لخلق فرص عمل ودفع الابتكار العلمي وتعزيز الصادرات، كما كان الحال مع الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية والاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة على سبيل المثال، لم تنجح في رفع الاقتصاد الكلي للبلد المعني ونقله من حال إلى حال. وأن الوضع في أوروبا سيكون تكرارا لتجارب أثبتت نجاحا جزئيا في أفضل الأحوال.
ومع استمرار القتال في أوكرانيا من دون ظهور حل سياسي قابل للتنفيذ القريب وعدم نجاح أي من المحاولات لإجراء إصلاحات سياسية عميقة ولا تهدد في الوقت ذاته بوصول قوى اليمين المتطرف إلى الحكم، يظل هناك من يأمل في أن تمد "الكينيزية العسكرية" يد الإنقاذ من التخبط الحالي.