يفتتح صالون الأدب للشباب في بلدة مونتروي الفرنسية دورته الحادية والأربعين في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري. ويعلن الصالون عن الثيمة الأساسية له وهي "الغيرية وفن الآخر". يستقطب الحدث المنتظر القراء الأطفال والشباب من عمر السابعة حتى السابعة عشر، ويستميل العائلات والمدارس والجامعات وكل الهيئات التربوية والثقافية المعنية بثقافة الطفل والشباب، والجميع يحاول أن يستميل المستقبل.
تبتعد الثيمة عن ابتذال الانفتاح على الآخر- ذلك الكليشيه المستهلك في التعاطف والتسامح والشفقة على الضحية التي لا تشبهنا ولا نشبهها- وتبتعد عن الفوقية، وتشير إلى الالتزام بالإضاءة على هذا المفهوم الفلسفي والفكري والثقافي الإنساني الذي طالما استوطن الأدب والفلسفة، وطالما غادرت نماذجه المطروحة في الأدب القمقم متى تسنى لها أن تحيا كقيمة، وغالبا ما نفيت خلف الحدود إلى بلاد الآخر الثاني التي حكما ليست بلاد الآخر الأول.
ربما في استضافة الصالون لثقافات أخرى من أكثر من عشرين بلدا من القارات الخمس ومن بينها فلسطين، أبعاد تراها الجهات المسؤولة ضرورية في بلورة حقيقة هذا التضامن التي يقترحها الحدث في الالتقاء مع فن الآخر وفي إثراء الحوار كما إثراء التأمل.
من هو الآخر؟ وهل عدم معرفتي له تنقص معرفتي لذاتي؟
لا بد أن العنوان العريض للصالون سيستقطب جمهورا آخر ستجذبه دعوة الاندماج هذه لكي يشارك في التمسك باللحظة، كي تحيا وتستمر وتتطور، كي لا تتجمد في التنظير وترتحل إلى منافي السياسة. لعل هذه الغيرية المقترحة هي الإدراك العميق والملحّ بضرورة استعادة المبادرة في عمر مبكر، استعارة مرآة الآخر لنرى فيها أنفسنا.
الآخر، كما هذه السطور من قصيدة ديريك والكوت: "سيأتي الوقت الذي ستبشر فيه نفسك/ بوصولك إلى بابك أنت/ إلى مرآتك أنت/ وسيبتسم في المرآة كل منكما للآخر".
الآخر الذي يدق طغاة الحروب بابه ومرآته فلا يبقون ولا يذرون، ويجيب هو بثقافته محاولا مد الجسور
الآخر الذي يدق طغاة الحروب بابه ومرآته فلا يبقون ولا يذرون، ويجيب هو بثقافته محاولا مد الجسور كأنه هو الذي يحاول تهدئة هذا التوحش كي تستعيد الإنسانية قلبها وعقلها.
الآخر، كلّ آخر، لا يدركُ تمام الإدراك أنه إن لم يرفض هذا التوحش فهو إما شريك فيه، أو أحد ضحاياه.
ربما تكون هذه فرصة لتأسيس وتحرير هذا المعنى والمفهوم في عقول الأطفال والشباب كي يساهموا بدورهم في تغيير الواقع، ويتخلصوا من الشعور بالعجز، وربما تكون فرصة بين فرص كثيرة لتحرير الغيرية ذاتها من الشعارات، إذ تحتضنها رحابة الفن والأدب والثقافة، رحمها الأرحم. وما هي سوى قطرة غيث.
هناك ثقافتان، واحدة طاردة للآخر المختلف، وأخرى ترى الآخر في مرآة ذاتها. ولا بد من تحديد الموقف من هاتين الثقافتين. فالتواطؤ سيزيد الغريب غربة.
في التاريخ القريب المشترك مع هذا الكون، في ثورات "الربيع العربي" وفي حرب الإبادة في غزة، كانت هذه القيم تمور في ضمير المجتمعات وتحاول أن تستقر في مائها الصافي العذب. ولعلّ اقتراح هذا الحلم العام الذي يطرحه صالون الأدب للشباب والقائمين عليه وفي معظمهم من الشباب، هو موجة من تلك الموجات الصاعدة الرافضة للنسيان والنكران والواعدة التي تتخطى الحدود الضيقة.
بلدة مونتروي، مثل بلدات فرنسية أخرى، متعددة الثقافات وذات نسيج اجتماعي متشابك ولها تجربة عميقة في ضمّ المهاجرين إلى روح المواطنة وفي قبول الاختلاف واحترامه. تسكنها جاليات أتت في موجات الهجرات البعيدة، وعلى مدى سنوات قريبة مضت، استقبلت لاجئين من بقاع الصراعات، مما جعل مرور الغريب فيها أليفا، لذا لفكرة الآخر هنا رنينها في الوجدان والشارع.
يبقى السؤال عربيا: كيف ستُبنى بلدانُنا التي افترستها وتفترسها الحروب، المدارس التي محيت، وكيف ستكون عملية البناء وفاء للأجيال التي امّحت طفولتها
عاشت في هذه البلدة الشاعرة السورية فدوى سليمان، إحدى أيقونات الثورة السورية السلمية النبيلة، قادمة من بلادها في 2012، لكي تنجو من القتل والاعتقال، واحتضنتها إحدى مقابرها حين رحلت في منفاها الفرنسي.
منحتنا بلدية مونتروي آنذاك مسرحا نقيم فيه مراسم وداع فدوى وشاركتنا العزاء، كما شاركنا شعراء وفنانون وأصدقاء، وقدمت لنا كل احتياجات مراسم الوداع والجنازة، لترحل فدوى كما قالت المسؤولة الثقافية عن البلدية، كأنها في بلدها. لقد انحازت البلدة إلى الثورة السورية السلمية بوضوح.
واحتضنت البلدة تمثال المعري، التمثال اللاجئ. وهي الآن تحتضن بيت الشعر، في مسرح البلدية البديع الذي يستقبل في كل أمسية، شاعرات وشعراء عربا وفرنكفونيين. ومع اقتراب موعد افتتاح الدورة الجديدة أجدني أحتفي به شخصيا. فهو ليس حدثا سياحيا أو تجاريا وافدا، إنها الثقافة التعددية وقيم المواطنة والمساواة التي تحيا بين الناس. وهي تأتي من عمق قيم المجتمع الفرنسي، حيث احترام الآخر الذي جاء من كل رياح الأرض ناجيا من الحروب الكونية والأهلية والديكتاتوريات، وحط في هذه البلاد وأبدع فيها. وليس بيكاسو المثال الأول ولا الأخير. ومن المؤثر أن نعرف، أن المرأة التي أسست في 1985 هذا الصالون في دورته الأولى كانت امرأة مهاجرة تدير مكتبة في مونتروي ذاتها.
ويبقى السؤال عربيا: كيف ستُبنى بلدانُنا التي افترستها وتفترسها الحروب، المدارس التي محيت، وكيف ستكون عملية البناء وفاء للأجيال التي امّحت طفولتها والتي لم تتوقف عن الإبداع في وجه هذا الموت.