انتخابات نيويورك... ما الذي يعنيه فوز زهران ممداني؟https://www.majalla.com/node/328138/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%86%D9%8A%D9%88%D9%8A%D9%88%D8%B1%D9%83-%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D9%8A%D8%B9%D9%86%D9%8A%D9%87-%D9%81%D9%88%D8%B2-%D8%B2%D9%87%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%85%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%9F
نتائج انتخابات الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني التي فاز فيها الديمقراطي الشاب زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك ليصبح أول مسلم اشتراكي يصعد لرئاسة بلدية أكبر مدينة أميركية تشكل درة تاج الرأسمالية هي نتاج صراع مستميت بين قوى الشعب الكادحة ومراكز المال والسلطة والسطوة.
جاءت النتائج انعكاسا للمزاج العام السائد حاليا في الولايات المتحدة في ظل تلاشي الطبقة المتوسطة وارتفاع تكاليف المعيشة واحتدام الأزمات الاقتصادية. وتمثل هذه النتيجة استفتاء على الوضع الراهن وعلى حكم الجمهوريين بزعامة دونالد ترمب بشكل خاص، ومؤشرا لمآلات التجديد النصفي القادم وما ستكون عليه ولاية ترمب فيما بعد التجديد النصفي، والتوجه الذي ستنحوه البلاد في المستقبل القريب.
قاد ممداني ما يمكن أن يوصف بالثورة على الجمود بدعم من جبهة التقدميين في الحزب الديمقراطي بزعامة السيناتور بيرني ساندرز ونائبة نيويورك أليكسندريا أوكاشيو كورتيز اللذين وصفا حملته بأنها حركة جماهيرية تتحدي سطوة المال وحكم الأثرياء الذين لم يتركوا سبيلا لإحباطه وتعطيله إلا وسلكوه.
وبلغ الأمر أن خرج ترمب عشية الانتخابات ليحث الجمهوريين على التصويت لأندرو كومو، المرشح الديمقراطي سابقا والمستقل لاحقا، ولم يحضهم على التصويت لمرشح الجمهوريين كيرتس سليوا. وذهب في غضبه إلى حد أنه وصف اليهود الذين خرجوا للتصويت لممداني "بالأغبياء". وحرص ممداني على حث مؤيديه على عدم الاطمئنان إلى استطلاعات الرأي التي كانت تنبئ بتقدمه الأكيد، متعظا في ذلك بتجربة كامالا هاريس التي خدعتها هذه الاستطلاعات، حيث حثهم على التوجه إلى صناديق الاقتراع لترجمة هذا الزخم إلى أصوات فعلية.
جاءت النتائج انعكاسا للمزاج العام السائد حاليا في الولايات المتحدة في ظل تلاشي الطبقة المتوسطة وارتفاع تكاليف المعيشة واحتدام الأزمات الاقتصادية
ورأت نائبة نيويورك الديمقراطية كورتيز التي تقف في طليعة "التقدميين" أن القوى التي يتحداها ممداني "هي نفس قوى التسلط المدعومة بالفساد والتشدد التي تواجهها الحركة على مستوى البلاد في ظل صعود اليمين المتطرف"، فيما أكد السيناتور بيرنز أن "العمدة ممداني لن يمثل طبقة المليارديرات بل الطبقة العمالية الكادحة".
جاء فوز ممداني دامغا لا يدع مجالا للتشكيك، حيث الهوة واسعة بينه وبين أقوى منافسيه، أندريه كومو، الحاكم الديمقراطي السابق لولاية نيويورك والذي انشق عن الحزب بعد هزيمته أمام ممداني في الانتخابات التمهيدية وترشح مستقلا بدعم من عشرات المليارديرات والديمقراطيين المؤيدين للصهيونية، بل ومن الرئيس الجمهوري نفسه. وتقدم ممداني في جميع ضواحي نيويورك من برونكس إلى بروكلين وكوينز وستاتن آيلاند، بل ومانهاتن، مركز المال والتجارة والقلب النابض للرأسمالية الأميركية والعالمية.
وحصل على أغلبية أصوات الناخبين من الجنسين والبيض والسود والنساء ومختلف الأعراق والديانات. وفي خطاب النصر الناري الذي ألقاه غداة الفوز، وقف ممداني متحديا الرئيس ترمب بأن لديه كلمات له: "ركز وانتبه".
زهران ممداني، في مسرح بروكلين باراماونت، في مدينة نيويورك في 4 نوفمبر 2025
ومضى ممداني في خطاب حماسي، يذكر بقوة الخطابات الانتخابية للرئيس الأسبق باراك أوباما، ليبشر ببزوغ فجر قد "يبدد ظلمة هذه الحقبة السياسية" وبأن نيويورك التي "وقفت في وجه ترمب" ستكون هي ذلك النور وأنه "يمثل طليعة جيل التغيير" في البلاد قاطبة.
وذكر ممداني مرة أخرى بوعوده الانتخابية التي يتصدرها تخفيض الإيجارات لنحو مليوني مستأجر للمنازل النظامية في المدينة البالغ تعداد سكانها 8.5 مليون نسمة، وتقديم خدمة رعاية أطفال مجانية للأمهات العاملات، وتوفير مواصلات عامة مجانية وسريعة، ومحاسبة أصحاب العقارات المستغلين، ووضع نهاية لما وصفه بـ"ثقافة الفساد" التي قال إنها سمحت لأمثال ترمب بالتهرب الضريبي وإساءة استغلال الإعفاءات الضريبية. كما تعهد بدعم النقابات العمالية وتوسيع مظلة الحماية لهم وبأن تظل نيويورك مدينة المهاجرين "يحييها ويديرها بل ويقودها المهاجرون".
في خطاب النصر الناري الذي ألقاه غداة الفوز، وقف ممداني متحديا الرئيس ترمب بأن لديه كلمات له: "ركز وانتبه"
وقد كان لثبات ممداني على هذا النهج ووضوحه منذ بداية حملته وحتى نهايتها الفضل في طمأنة جمهوره بأنهم يدعمون زعيما جريئا لا يأبه بالتهديدات ولا يرعوي أمام حملات التخويف من قطع المساعدات الفيدرالية أو التشويه بسبب انتماءاته الدينية أو السياسية.
وفي تحد للكلاشيهات التي دأب ترمب واليمين المتطرف على ترديدها لترهيب الناخبين، أكد ممداني أنه "نعم صغير رغم كل محاولاته أن يكبر، ومسلم، وديمقراطي اشتراكي"، وأنه "يرفض الاعتذار عن كونه كل ذلك بل ويعتز به".
وبذكاء جمع ممداني في كلمة النصر بين التأكيد على أنه "لا مكان لكراهية الإسلام أو معاداة السامية" في المدينة التي شهدت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول ولم يدر في مخيلة أحد أنها ستصبح يوما تحت حكم زعيم مسلم.
وقد أحيا فوز ممداني الأمل لعودة الحزب الديمقراطي للنهوض مجددا وهو بعد لا يزال يترنح تحت وطأة هزائم النزال مع الجمهوريين في انتخابات الكونغرس والرئاسة الأخيرتين. لكنه سيقوي أيضا شوكة الجبهة التقدمية داخل الحزب في مواجهتها مع الحرس القديم الذي لا يزال يمضي على نفس قواعد الحصافة السياسية القديمة التي تتوجس من المساس بالمحرمات، وفي مقدمتها انتقاد إسرائيل أو معاداة رأس المال. وتجلى هذا التخوف في إحجام زعيم الأقلية الديمقراطية تشاك شومر والسيناتو كيرستين غيليبراند اللذين يمثلان ولاية نيويورك في مجلس الشيوخ عن دعم ممداني.
بل إن الرئيس السابق أوباما لم يتصل بممداني سوى قبل أيام من الانتخابات ولم يحاول الجهر بدعمه ولو بكلمة على وسائل التواصل.
وحاول زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب حكيم جيفريز التقليل من تأثير ظاهرة ممداني، مستبعدا أن يشكل تياره مستقبل الحزب، ومعربا عن عدم قلقه من اتخاذ الجمهوريين إياه وسيلة دعائية كمعيار لهوية وتوجهات الحزب في الانتخابات القادمة.
صحيفتا نيويورك بوست وديلي نيوز تعلنان فوز زهران ممداني بمنصب عمدة مدينة نيويورك، صباح اليوم التالي ليوم الانتخابات، 5 نوفمبر 2025
ونجح ممداني في حملته الكاسحة التي اعتمد فيها على فريق يضم أكثر من مئة ألف متطوع يطرقون الأبواب، وعبر النوافذ الرقمية وغير الرقمية بل ومن خلال غزو وسائل الإعلام الجمهورية متمثلة في قناة "فوكس نيوز"، في الوصول إلى جميع أطياف السكان على اختلاف مشاربهم حتى تجاوز عدد من أدلوا بأصواتهم المليونين، وهي أعلى نسبة إقبال سجلتها انتخابات رئاسة المدينة منذ أكثر من خمسة عقود.
ترسيخ الاشتراكية كتيار سياسي منافس
وإذا كان فوز ممداني لا يعني بالضرورة طغيان الطيف الاشتراكي على الأفق السياسي بالولايات المتحدة، فإنه قد يمهد لترسيخ الاشتراكية كتيار منافس للرأسمالية مستقبلا. فالساحة السياسية لا زالت ترتجف من هذا المذهب الذي يقض مضاجع الرأسماليين ويجعلهم يتحسسون جيوبهم عند سماعه. ولا زال الديمقراطيون الاشتراكيون يشكلون أقلية ضئيلة داخل الكونغرس الحالي لا تتجاوز خمسة أعضاء، أربعة في النواب وواحد في مجلس الشيوخ. وقد أشار استطلاع للرأي أجري مؤخرا إلى أن 22 في المئة فقط من الديمقراطيين بالولايات المتحدة يودون لو أن حزبهم اعتمد نهجا اشتراكيا، مقابل 60 في المئة يحبذون الجمع بين الأجندة الاشتراكية والرأسمالية و5 في المئة يريدونها رأسمالية خالصة.
ويرى الجمهوريون أن فوز ممداني يمنحهم سلاحا قويا لاستخدامه ضد المرشحين الديمقراطيين في الدوائر ذات الصبغة الجمهورية القوية حتى لا يتمكن مرشحو الديمقراطيين من انتزاع مقاعدهم.
بيد أن الخطر الحقيقي على تألق الاشتراكيين عامة وممداني خاصة يكمن في الجبهة الداخلية لحزبه، حيث قوى المعارضة لا زالت قوية وتمتلك زمام التمويل للحملات الانتخابية وتمسك بسلطة الموافقة والرفض. ولعل نموذج بيرني ساندرز لا يزال حيا في الأذهان حينما تكاتفت مراكز القوى داخل الحزب الديمقراطي لإفشال محاولاته للفوز بالترشح لانتخابات الرئاسة وتمكنت بوسائل ملتوية ومؤامرات داخلية من الدفع بهيلاري كلينتون أمام دونالد ترمب في انتخابات عام 2016. إلا أن عليهم أن لا يتناسوا النتائج التي ترتبت على وقوفهم في وجه موجة التطور الطبيعي للوحش السياسي، حيث باءوا بهزيمة مرشحتهم أمام ترمب وتشرذم القاعدة الشعبية الداعمة للحزب وغضبها.
كما سيحتاج ممداني لتنفيذ أجندته التي يراها البعض مغرقة في الطموح إلى موافقة أجهزة الولاية الديمقراطية على الميزانيات المطلوبة، لاسميا زيادة الضرائب على الأثرياء.
سيحتاج ممداني لتنفيذ أجندته التي يراها البعض مغرقة في الطموح إلى موافقة أجهزة الولاية الديمقراطية على الميزانيات المطلوبة، لاسميا زيادة الضرائب على الأثرياء
وثمة دروس أخرى ينبغي أن يعيها الديمقراطيون من صعود ممداني، على رأسها الأجندة التي يخاطب فيها القاعدة الشعبية الكاسحة التي تناست في مناطق كثيرة من المدينة انحيازاتها الحزبية واختارت مرشحا يعزف على أوتار آلامها وآمالها. ومثلما استطاع ممداني أن يشعل جذوة الحماس لدى الكثير من الأجيال والفئات في المدينة، فإن الكثير من أمثاله سيقتحمون الساحة لا يلوون على شيء من تهديد أو تثبيط من أجل تحدي السلطة المتسلطة مالا وحكما.
ولم ينس ممداني وهو يتهكم من على منصة النصر في بروكلين على الرئيس ترمب الذي وصفه "بالطاغية" أن يلمح بإشارات تحتية إلى زعماء الحزب الديمقراطي الذين لم يؤمنوا بمسيرته والذين وصفهم ضمنا بالضعفاء وبذيول الشركات. ولفت إلى أنه لطالما حال الحذر السياسي دون التقدم للأمام وكبد الديمقراطيين الكثير واضطرت قوى الشعب الكادحة إلى اللجوء لليمين من أجل العثور على حل. وتعهد ممداني بأن تقوم ولايته التي تبدأ في يناير/كانون الثاني القادم وتستمر لأربع سنوات على الإنجاز وليس على سرد الأعذار التي تعطل الإنجاز.
ويتزامن صعود ممداني مع فوز الديمقراطيين على الكثير من جبهات النزال الانتخابي حيث انتزعوا مقعد حاكم فيرجينيا واحتفظوا بمقعد حاكم نيوجيرسي وتمكنوا من الحصول على موافقة الناخبين في استفتاء بكاليفورنيا على إعادة ترسيم الدوائر الانتخابية بما يسهل حصولهم على خمسة مقاعد إضافية بمجلس النواب في انتخابات التجديد النصفي القادمة.
ولم يكن ممداني هو المرشح المسلم الوحيد الذي فاز في انتخابات الرابع من نوفمبر، فقد لحقت به الديمقراطية غزالة هاشمي، التي تنحدر هي الأخرى من أصول هندية، لتصبح أول مسلمة تصعد لمنصب نائب ولاية فيرجينيا. ويعكس ذلك الآثار العكسية التي أحدثها خطاب الكراهية الذي يتبناه اليمين المتطرف والعنصريون إزاء المسلمين في البلاد وفقدانه للمصداقية بين قطاعات كبيرة من الشعب الأميركي.
كما جاء فوز ممداني في نيويورك تمردا على سياسات ترمب ضد الهجرة حيث تلقب "بمدينة المهاجرين" التي ولد ما يقرب من ثلث سكانها خارج الولايات المتحدة.
ومن شأن نجاح أو إخفاق ممداني في تنفيذ برامجه الطموحة أن يكتب شهادة ميلاد اليسار الاشتراكي التقدمي في البلاد أو أن يئده في مهده.