الشمولية الرقمية

الشمولية الرقمية

استمع إلى المقال دقيقة

تُقحم مشابك معدنية في عيني أليكس بطل فيلم "البرتقالة الآلية" (1971) الذي أخرجه ستانلي كيوبرك عن رواية أنطوني برغس، لإجباره على الرؤية ومنعه من إغماض عينيه. تُعرض عليه مشاهد عنف واغتصاب مروعة كنوع من العلاج لنزعاته الإجرامية، وتُزج تلك المشاهد عنوة في بصره وفي وعيه. تُمحى قدرته على التأويل والاختيار والتمييز فيصبح كائنا يتصف بإيجابية مطلقة عاجزة ذات طابع روبوتي آلي.

تطورت تلك الآلية العنفية التي خضع لها أليكس في شكلها ومنطقها، فبدل الإجبار على النظر، وُضع الناس تحت رحمة وفرة هائلة من الصور والمعلومات من دون قدرة على فرزها والتعامل معها، وصار الناس ملزمين بتكثيرها وتوسيعها والتحول إلى جزء منها. فالبوح والاستعراض والعلنية العارية صارت تطبع الحياة العامة والخاصة، وبات الانكشاف التام بنية سائدة تفرض شفافية مطلقة وتخلق سلطة إقصاء قاسية لمن لا يتقيد بتعاليمها.

لا مجال للتراكم وتوليد المعاني وصناعة الرغبات وبناء السياسات. فكل شيء يخضع للآنية والفورية، ويظهر مباشرة خاليا من العمق والفاعلية والمعنى، ويُقدم على أنه صادق وحيّ وحقيقي. يُفترض أن يتحرك كل نشاط أو تفكير أو رغبة في الضوء الباهر وأن يكون معرضا للمشاهدة بشكل فاحش.

في الحقل السياسي ينصب الاهتمام، انطلاقا من ذلك النظام، على الشخص نفسه وليس على مشروعه، مما يجعله مهرجا يقدم عرضا متواصلا ويحول كل خطابه إلى لغو مضاد لمفهوم السياسة المرتبط بالعقلنة والسبر والتراكم، وكل ما لا يمكن إنجازه أمام الشاشات وصخبها بل في العزلة والهدوء.

وعليه، لم يعد السياسي مطالبا بأن ينتج سياسات ويدير أزمات ويقدم حلولا، بل أن يعد بأن كل شيء سيكون أفضل على الدوام، وأن ينشر الإيجابية المفتوحة المرتبطة بشخصه ومرحلته عبر سيل لا ينقطع من البيانات التي لا تُقاس بمحتواها بل بغزارتها وتدفقها الذي لا يحتمل الانقطاع. إنه يخاطب جمهورا موحدا ويعرض نفسه للكشف الدائم، مما يجعل السياسي "الناجح" ذا طابع إباحي مبتذل لا يمكن الحكم عليه سياسيا.

انتقل كل المجال السياسي إلى حقل الإباحية (بمعنى الانكشاف المفرط وتحويل كل شيء إلى عرض مرئي سطحي)، حيث يسود التعري المرتبط بإيجابية تنسب العمق إلى كل ما هو مسطح وبائن ومكشوف، وتعادي كل ما هو عميق وغير قابل للانكشاف المباشر لصالح العاجل واللحظي.

وبالمعنى نفسه، يتم القضاء على المغامرة والجسارة والرغبة. فاليقين فرض نفسه على كل مجالات التعبير الذاتية والعامة، وكما تؤكد دراسات عدة، فالوفرة الضخمة من المعلومات لا تؤدي إلى اتخاذ قرارات محكمة بل تميت الحدس الخلاق والجدالي وتقضي على الإبداع، والأمر نفسه ينطبق على الحب.

يعرض الفيلسوف الفرنسي آلان باديو شكلا جديدا للحب استولدته سطوة الشفافية المعلوماتية المفتوحة، يخضع لفكرة الضبط المسبق والمضمون، بمعنى أنه يجب أن يكون آمنا وبلا عواقب ولا ينطوي على أي مخاطرة، كأن تكون في الحب من دون أن تقع في الحب.

 لم يعد السياسي مطالبا بأن ينتج سياسات ويدير أزمات ويقدم حلولا، بل أن يعد بأن كل شيء سيكون أفضل على الدوام، وأن ينشر الإيجابية المفتوحة المرتبطة بشخصه

اشتراط معرفة كل شيء مسبقا عن الآخر يميت الإغواء الذي ينمو في السر والغموض، بينما يقود الكشف إلى الابتذال والتكرار. لا شيء يُكتشف، لا مفاجأة، ولا دهشة، ولا قناع أو حجاب. كل ذلك يحول الآخر إلى لحم محض وإلى كتلة معلوماتية تتحدّد بالعد والإحصاء والحساب. لم يعد الحب اختيارا أو لقاء، بل خضوع لنموذج مصفى محسوب ودقيق تصنعه الخوارزميات.

لطالما كان الضوء الباهر والتعرض له سمة تميز الثقافات الشمولية والديكتاتوريات في كل زمان ومكان، فالتاريخ يذكر مهرجانات الإضاءة الباهرة التي كان النازيون يقيمونها دائما كعنوان للسطوة المطلقة، مثل ما سُمي بـ"كاتدرائية الضوء" التي صممها ألبرت شبير، حيث نصبت مئات الكشافات العملاقة لتشكل قبة من شعاع أبيض شديد السطوع يخرج من فوهات المدافع، ويفتح مجال السلطة على  حدود لا متناهية، فخلاصة التعرض للضوء الساطع ليست سوى العمى.

وهكذا، فتت القضاء على التمايز والاختلاف وربط الاعتراض والتفكير بالسلبية، كل فرصة أمام الإنسان المعاصر لكي يمتلك عمقا وشخصية وكيانا وهوية ولغة. في المجال اللغوي على سبيل المثال، يقر علماء اللغة بالفوارق بين استعمال كل شخص لكلمة معينة، فلا أحد يقصد المعنى نفسه عبر استعمال الكلمة نفسها، وهذا ما يسمح للغة بالنمو والتطور لأنها تخضع لعمليات تأويل دائمة واستعمالات لا متناهية وتمتلك تاريخا. أما إحالة الكلمات إلى "داتا" محددة فتجعلها غير قادرة على النطق وتشُلها وتُخرجها من التعبير عن معنى إنساني، وبذلك فإن تلك الحرية المفتوحة التي تُغري الناس بقول ما يشاءون حين يشاءون محكومة سلفا بنظام محكم للمعاني يسعى إلى تحجيمها وضبطها وتوحيدها والقضاء على مرجعية كل شخص في إنتاج لغته ومعناها.

لم يعد الناس مصدرا للغة، بل صاروا ضحايا بنية محددة منها، تحرص في كل لحظة على توسيع "الداتا" اللغوية وإعادة تسييلها في أنماط تتجه لأن تكون غير لغوية في أساسها، فـ"الإيموجي" هي مستقبل اللغة المنتظر، حيث تُوحّد العواطف والانفعالات فنحزن ونضحك ونؤيد بالطريقة نفسها.

وتحت سيادة الانكشاف والبعد الخوارزمي القياسي، يخضع التقييم العام لأي منتج للبعد الرقمي القابل للعد، ويشمل ذلك الكتابة والمقالات المنشورة التي تُحدد أهميتها بعدد النقرات. فلم يعد الكاتب يوجه نصه إلى قارئ، بل إلى ناقر، وذلك الناقر محكوم بالسرعة والرغبة في التلقي المباشر والعابر للأفكار والمعلومات، ومن هنا فإن الكاتب عليه أن يكتب بشكل أقرب إلى "الداتا" التي يشكل هو نفسه مادتها، فما "يبيعه" للقارئ الجديد الناقر ليس سوى ذاته.

بيع الذات، هذا ما يتطلبه عالم الكشف التام، وهو يشبه بيع الروح للشيطان الرقمي في مقابل امتلاك قوة وهمية، سرعان ما ينكشف أنها درب إلى استحالات عنيفة تطول الذات والحب والرغبة والحرية. إنها الشمولية المفتوحة التي لم يسبق أن تحققت بهذا الشكل من قبل، وذلك لأن وقودها الأساسي هم ضحاياها.

 لم يعد الكاتب يوجه نصه إلى قارئ، بل إلى ناقر، وذلك الناقر محكوم بالسرعة والرغبة في التلقي المباشر والعابر للأفكار والمعلومات

العيش الحقيقي يفترض الانسحاب من الضوء، والتفكير كذلك يتطلب العزلة، والحب يشترط المغامرة، والحرية تشترط الحق في السلبية والتأويل. كل تلك الشروط باتت ممتنعة ومرفوضة. يقول الكاتب النمساوي الحائز على جائزة نوبل للآداب بيتر هاندكه: "أعيش على ما لا يعرفه الآخرون عني"، ولكن شكل العيش صار مضادا تماما لهذا المنطق، إذ يشترط عريا وانكشافا دائمين يجعل الناس عرضا خاليا من الروح والعمق يمكن قياسه وتحديد قيمته رقميا.

font change