فيلمون وهبي بين تطوير الطرب وتجديد المألوف

انطلق من فلسطين ومنح فيروز روحا طربية خاصة وجدّد لون صباح الشعبي

Lina Jaradat
Lina Jaradat
فيلمون وهبي

فيلمون وهبي بين تطوير الطرب وتجديد المألوف

كان الملحن اللبناني فيلمون وهبي من القلائل الذين ربحوا حربهم ضد النسيان، ونجحوا في أن يكوّنوا ذاكرة حية تستعاد كنقاش دائم مع منجزهم، وحوار لا ينقطع معه يستولد تجارب تستخرج الجديد من قلب ألفة أثبت أنها تنفتح على احتمالات لا حصر لها.

فقد خلق خريطة للتلقي تقوم على الشخصي أو الحميمي، وحوّل كل من لحن له كذلك إلى مطرب شخصي.

تلك القدرة الفريدة على جر الألحان وطريقة الغناء إلى الآذان والقلوب وتمثلها على أنها خطاب مباشر، ندر أن تيسرت لغير فيلمون وهبي، الذي حول شخصيته إلى نموذج مرئي في المسرح وفي التلحين والغناء، فكان السهل الممتنع، وصفه وحيلته ومنطقه.

انطلق وهبي فنيا من فلسطين وعايشها ميدانيا، واحتفظت ذاكرته ونشأته الأولى بصورة المكان المسلوب وصوته وخصوصيته الموسيقية التي شكلت جزءا أساسيا من ذاكرته التي استدمجها لاحقا في أعماله. واستكمل لاحقا مشروعه في تكوين الأغنية اللبنانية بعلامات فارقة تختلف عن الغناء الشائع وقتها ولكنها تستند في الوقت نفسه إلى عناصر تراثية صلبة ومعرفة غنية بالموسيقى الشرقية وأساليبها.

نبع التجديد الذي طبع مسيرته من توظيف فذ وجديد للعناصر المتاحة في قلب التراكيب التراثية الزاخرة بالإمكانات الثرية التي تنتظر من يكتشفها ويستعملها. كما أطلق في المسرح شخصية ساخرة وعابثة وسمت حضوره، وطبعته بأداء خفيف وكوميدي يستطيع أن يشد الأنظار بمقدار ألفته وبساطته. كما فتح باب السخرية السياسية والغناء الكوميدي في سلسلة أعمال شاعت وانتشرت، وبقي الجزء الأكبر منها محفوظا على نحو غير رسمي ضمن ذاكرة احتجاجية راسخة.

من فلسطين إلى الجنوب

شهدت تجربة فيلمون وهبي الأولى معاينة مباشرة للمكان الفلسطيني قبل النكبة. الرجل المولود في كفرشيما عام 1916، حمل آماله وأحلامه ومشاريعه الفنية وسافر إلى فلسطين في ثلاثينات القرن العشرين ليكون في قلب حراك فني واجتماعي حار وحيوي شهدته القدس ويافا وحيفا وغزة قبل نكبة 1948، حيث انتشر الغناء الشعبي في الأمكنة الخاصة والعامة، وكانت القوالب السائدة آنذاك تعتمد على تراكيب بسيطة مثل العتابا والميجانا والدلعونا مع بروز مساحة للارتجال والتعبير عن الاحتجاج والأحزان والأفراح. وكانت المقامات الأكثر شيوعا هي الأكثر ألفة مثل البياتي والراست والحجاز، مما جعل الغناء السائد يستند إلى ألفة سمعية راسخة وصلبة.

حمل آماله وأحلامه ومشاريعه الفنية وسافر إلى فلسطين في ثلاثينات القرن العشرين ليكون في قلب حراك فني واجتماعي حار وحيوي شهدته القدس ويافا وحيفا وغزة

التحق وهبي بـ"إذاعة الشرق الأدنى" التي ضمت في تلك المرحلة نخبة الفنانين العرب من لبنانيين وسوريين ومصريين وفلسطينيين. وفي مقهى "حنا السرياني" القريب من مبنى الإذاعة تعرّف، وفق ما يرويه المؤرخ الموسيقي اللبناني إلياس سحاب، الى عازف البزق السوري الشهير محمد عبد الكريم، والمطرب المصري محمد عبد المطلب وغيرهما من الفنانين الذين كانوا يقدمون ألوان الميجانا والعتابا بتنويعات مختلفة.

"يا حضرة المستر دل"


ربطت التجربة الفلسطينية فيلمون بغناء يستجيب للأحداث والناس مباشرة وليس من خلال أيديولوجيا أو تسييس، فصنع غناء متصلا بالحياة ومضادا للشعارات ويتوخى البساطة ويتحرك من داخل إمكاناتها الثرية والواسعة. فكان الاشتباك مع الأحداث انطلاقا من سياق فلسطيني وراء إطلاق أغنيته الساخرة "يا حضرة المستر دل" التي تقول كلماتها:
"يا حضرة المستر دل
لا تظن الأمة بتخل
لكن إنت سايرها
يمكن عن يدك بتحل".

تخاطب الأغنية أحد مسؤولي الانتداب البريطاني، وقد غناها المطرب الفلسطيني إبراهيم نوح، الذي يعد أحد أبرز أصوات ثورة 1936–1939، واشتهر بأغانيه التي تلتقط الأحداث اليومية وتنسج منها أغنيات وأهازيج شعبية، وهو صاحب أغنية "من سجن عكا" التي أعادت فرقة "العاشقين" غناءها لاحقا، مستخدمة صيغة "الدلعونا" بإيقاع بطيء.
وبعد هذه الأغنية قدم أغنية ثانية لفلسطين مطلعها:
"يا شباب البلاد
يا أسود الزمن
أسرعوا للجهاد
قد دعانا الوطن".

Wikimedia Commons
فيلمون وهبي

بعد عودته إلى لبنان، لم يخرج الهم الفلسطيني من ذاكرة وهبي ومن روحه، فنجده في عام 1967، وقبل أن يصار إلى إعلان الهزيمة، يطلق من استوديو "تلفزيون لبنان" أغنية تستلهم مناخ الصيد والصيادين وتنقله إلى المجال الفلسطيني كدعوة للتحرير:

"يا رفقاتي الصيادين
بدل جفتتكن مرتين
ولاقوني على الجبهة
بدنا نرجع فلسطين".

وتعني كلمة "الجفت" بندقية الصيد، وتبدو الدعوة إلى نقل استعمالها من مجال الصيد إلى مجال الحرب لاستعادة الأرض، كما أن كلمة "مرتين" يرجح أنها تشير الى بندقية "مارتين" التي كانت مشهورة في ذلك الوقت.

لم تُذع هذه الأغنية سوى مرة واحدة لأن الهزيمة سادت وفرضت أجواءها وإيقاعها، والمعلومات السائدة عنها تعود إلى مقالات أرشيفية ومقابلة أجراها مع وهبي الصحافي والباحث الموسيقي إلياس سحاب عام 1974 ونشرها في كتابه "دفاعا عن الأغنية العربية".

"إسوارة العروس"


وفي مرحلة ذروة نضجه الفني في الثمانينات، قدم إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان من كلمات جوزيف حرب أغنية "إسوارة العروس"، التي غنتها فيروز في الثمانينات، وصدرت في أسطوانة "بليل وشتي" عام 1989 بعد مرور أربع سنوات على رحيل وهبي.

يتجلى في هذه الأغنية المنسوجة على عدة مقامات مألوفة سمعيا، الامتداد الطبيعي لعملية تنمية المصادر الموسيقية والحسية التي التقطها من مرحلة التكوين الفلسطينية، وعززها لاحقا باطلاع واسع على الموسيقى الشرقية والانحياز إلى المواضيع التي تمجد الناس وسيرتهم ونضالهم بعيدا من النفس الحربي والنشيدي.

أتاحت استراتيجيات البناء اللحني التي بثها فيلمون في نتاجه لفيروز المجال لإطلاق الطرب الشعبي المقرون بعناصر عاطفية حديثة في تجاربها وهمومها

زاوج بين التركيب الموسيقي الأليف الذي يستمد عناصر فولكلورية ويعيد إنتاجها، مثل إيقاع معتدل يشبه إيقاع الدبكة وجمل لحنية قصيرة تتشابه مع منطق بناء جمل "الدلعونا" و"الميجانا"، لكنها تظهر في خصوصيتها كأنها مستودع مسرات ولقاءات يضم ما ألفته الأذن بشكل آخر يترك مساحة كبيرة للعب والخيال.
ويعتبر جوزيف حرب "إسوارة العروس" لقاء بين الزينة والحزن. ولعل هذا الوصف يشمل ما شاع في وصف فيلمون نفسه الذي كان يجمع بين الكوميديا والزينة والخفة وبين الحزن، وكان يصوغ من تلك الكتلة من المتناقضات الذائبة في شخصيته ونتاجه، حوارات دائمة بين البلاد ومآسيها وجراحها لبنانيا وفلسطينيا، وبين أفق شرقي يخاطب الذائقة العربية عموما بألفة متجددة، وينفتح كذلك على مواضيع حدثية ومباشرة، ويؤرخ لها بطريقة تتجاوز حدثيتها، وتحيلها إلى قراءة فنية متجددة تستعاد على أنها سيرة للمكان وصناعه وعلى أنها محاولة لالتقاط صوته في بنية التأليف الموسيقي التي تعود إليه كأصل ومرجع.

AFP
فيروز في حديقة منزلها في الربوة قرب بيروت

فيلمون وفيروز


تتميز ألحان فيلمون وهبي لفيروز في المرحلة الرحبانية بأنها تنشئ تمايزات واضحة عن المنطق الذي صاغ فيه الرحابنة ألحانهم لها، وذلك بالتركيز على البعد التطريبي الشرقي المتأتي من توزيع واسع للمقامات الشرقية أو اللعب على درجات محددة منها والقفلات المحكمة، والأداء المتطلب في طبيعته، الذي يحافظ في الوقت نفسه على سهولة بارزة في التلقي والذيوع والانتشار والحفظ.
لكن تلك الأغاني كانت حوارا ونقاشا مع  منجز الرحابنة، أغناها وزاد في تمكينها ومهد لتوسيعها لاحقا، حين انفرد بتقديم ألبومات كاملة لفيروز بكلمات جوزيف حرب، وبمزاج تلحيني جديد أكثر انحيازا للشرقية وأكثر نضجا فنيا، وتتمثل فيه خلاصة تجربته في عمقها الذي مهد الطريق أمام فيروز الحديثة التي استوعبت مزاج زياد الرحباني وموسيقاه وتمثلته ونجحت في التعبير عنه والتلاؤم معه.
أتاحت استراتيجيات البناء اللحني التي بثها فيلمون في نتاجه لفيروز المجال لإطلاق الطرب الشعبي المقرون بعناصر عاطفية حديثة في تجاربها وهمومها، ومختلفة عن الشائع في الغناء العاطفي، ولكنها تقارب التجربة بروح بصرية حسية محكمة تحرص على تظهير انفعال حي قائم على تجربة ومعاينة.

نجح وهبي في استيلاد مناطق خفة جديدة من داخل نسق صباح نفسه، فجدد تلك الخفة ونوّع عليها وحدّثها 

في ألبومات "دهب أيلول" و"بليل وشتي" التي ضمت أغنيات طويلة قياسا على أغنيات فيروز الشائعة، تبدت فيروز في لحظة طرب لبنانية خاصة لا تعتمد أساليب الاستعراض الصوتي، بل على عملية إدارة للمتوقع.

RAMZI HAIDAR / AFP
منصور الرحباني

وفي أغنيات مثل "يا كرم العلالي" و"على جسر اللوزية" و"فايق يا هوى"، يسود التوقع المؤجل، حيث تشير المعلومات حول البناء اللحني لهذه الأغاني أنها تتميز بكونها لا تنتهي عند القفلات المتوقعة بل تبقى معلقة عند نغمة مفتوحة بعض الشيء قبل أن تستقر. ومن المعروف أن وهبي خصّ فيروز بأفضل ألحانه، وفي رده على ذلك أعلن في مقابلة جمعته مع منصور الرحباني أنه يكون مسرورا بالتلحين لصوت مثل فيروز، قادر على حمل الشحنة الطربية التي يقدمها لها بكل سلاسة، وتحدى منصور بذكاء وخبث لطيف إذا كان يستطيع غناء لحن قدمه لفيروز، وهو ما يؤكد أنه كان واعيا بما يقدمه ومنتبها لطبيعته ووزنه ومنطلقا من مشروع متكامل وواضح.


 

فيلمون وصباح

يختلف الأمر تماما مع صباح، إذ أنها كانت نجمة مكرسة في مجال الغناء الشعبي والمرح، حيث يصعب أو يكاد يستحيل إضافة عنوان لافت في هذا النوع، فالمقاربة الممكنة للتعامل مع مزاج الخفة والدلع الذي تسيدت صباح على عرشه، تفترض السير على ما كان اختطه لها الملحنون، وإعادة توليفه بعناصره نفسها.
نجح وهبي في استيلاد مناطق خفة جديدة من داخل نسق صباح نفسه، فجدد تلك الخفة ونوّع عليها وحدّثها بعناصرها نفسها التي أدخلها في نسق علاقات جديد، فبدا المألوف مشعا لامعا كأنه جديد.

ويمكن الاستدلال على أن شغل وهبي مع صباح تحول إلى مشروع لتطوير الطرب الشعبي اللبناني، مما ورد في مقابلات إلياس سحاب معه، وما كشفت عنه الدراسات الموسيقية اللبنانية مثل دراسة النظام المقامي في الموسيقى الشعبية المشرقية (جامعة القديس يوسف، 1978)، وتحليلات أنطوان ضاهر في مجلة الموسيقى الإثنولوجية عام 1982.
ويمكن ملاحظة هذا الأسلوب في أغنية "يا إمي دولبني الهوا" حيث ينتقل فيلمون وهبي لحنيا داخل مقام البياتي ويلامس مقام الراست، فيؤجل القفلة المنتظرة ويخلق صعودا لحنيا قصيرا يذوب في القرار الأخير.
وتسود الجمل اللحنية القصيرة المتتالية المبنية على صيغة النداء والجواب القريب من تركيب الدبكة في أغنيات "فكر يا قلبي" و"واقفة عالبحر" و"يا إمي دولبني الهوا" و"فستان الحرير" و"جينا الدار" و"قالولي الحب بينباع".


وتصف دراسة جامعة القديس يوسف هذا النوع من التلحين بأنه "اقتصاد لحني" يتيح الانتقال السريع بين الجمل ويخلق المشاركة السمعية حيث يشعر المستمع أنه شريك في الغناء.

وفي مقارنة بين ما قدمه وهبي لصباح وما قدمه غيره من النوع نفسه، تحضر المقارنة بين أغنية "عالبساطة" للملحن الشهير سهيل عرفة وأغنية لفيلمون مثل "فكرك يا قلبي"، اختار عرفة إيقاعا ثابتا يعتمد تكرار جملة موسيقية واحدة تُرجع اللحن في نهاية كل دورة إلى مقام البياتي فيتعمق بشكل مستقر، بينما يفكك وهبي عمدا هذا النوع من الاستقرار، ففي كل مرة يعتقد المستمع أن الجملة ستقفل على القرار، يتحرك بين درجتين من مقام البياتي، خالقا توترا صاخبا وممتعا.

يصف النقاد هذا الأسلوب بأنه "الدهشة المتوقعة" التي تهدي الى المستمع مفاجأة مستحبة نابعة من ألفة أعيد تأليفها وإطلاق إمكاناتها الكامنة

ألعاب وهبي الذكية وسمت تجربته مع صباح بالاستثنائية، كونه نجح في توسيع حدود نمطها الذي كانت نجمته من داخله ومن قلب عناصره، فالأغنية الخفيفة المرحة كانت احتلت صورتها وكرستها نجمتها.
استطاع فيلمون توسيع مدى هذه النجومية عبر استكشاف مدى مرونة المقامات الشرقية المألوفة كالبياتي والحجاز والراست. ويصف النقاد الموسيقيون مثل أنطوان ضاهر وسمير مجدلاني هذا الأسلوب بأنه "الدهشة المتوقعة" التي تهدي الى المستمع مفاجأة مستحبة نابعة من ألفة أعيد تأليفها وإطلاق إمكاناتها الكامنة.

ولعل من الطرافة ذكر كيف تعامل وهبي مع نجاح أغنية "عالبساطة"، إذ لحّن أغنية هجائية كاريكاتورية تحمل عنوان "شمشريخا"، ليست كلماتها سوى محاكاة هجائية لكلمات أغنية "عالبساطة"، ويقول مطلعها: شمشريخا يا شمشريخا / بكرا بتسمع صريخا / اللي بيغني عالبطاطا / غنيّلو عالبطيخة." وغنتها تمام إبراهيم في كازينوهات بيروت، وشاع وضع الجمهور لقطع البطيخ على المسرح خلال تقديمها.

ويضيء البعد الساخر في هذه الأغنية التي انتشرت وذاعت، على مدى قدرة فيلمون على الإمساك بالنبض الجماهيري وتوليد بعد احتفالي شعبي مهرجاني في الجد وفي الهزل أو في جمعهما ومزجهما بالخفة والدلع والأناقة، كما تشهد تجربته مع صباح ومع كثير من المغنين الذين كان يقول لهم قبل أن يبادر إلى التعاون معهم: "سأعطيكم أغنية لا تُنسى"، وكان يصدق وعده.

font change