كان الملحن اللبناني فيلمون وهبي من القلائل الذين ربحوا حربهم ضد النسيان، ونجحوا في أن يكوّنوا ذاكرة حية تستعاد كنقاش دائم مع منجزهم، وحوار لا ينقطع معه يستولد تجارب تستخرج الجديد من قلب ألفة أثبت أنها تنفتح على احتمالات لا حصر لها.
فقد خلق خريطة للتلقي تقوم على الشخصي أو الحميمي، وحوّل كل من لحن له كذلك إلى مطرب شخصي.
تلك القدرة الفريدة على جر الألحان وطريقة الغناء إلى الآذان والقلوب وتمثلها على أنها خطاب مباشر، ندر أن تيسرت لغير فيلمون وهبي، الذي حول شخصيته إلى نموذج مرئي في المسرح وفي التلحين والغناء، فكان السهل الممتنع، وصفه وحيلته ومنطقه.
انطلق وهبي فنيا من فلسطين وعايشها ميدانيا، واحتفظت ذاكرته ونشأته الأولى بصورة المكان المسلوب وصوته وخصوصيته الموسيقية التي شكلت جزءا أساسيا من ذاكرته التي استدمجها لاحقا في أعماله. واستكمل لاحقا مشروعه في تكوين الأغنية اللبنانية بعلامات فارقة تختلف عن الغناء الشائع وقتها ولكنها تستند في الوقت نفسه إلى عناصر تراثية صلبة ومعرفة غنية بالموسيقى الشرقية وأساليبها.
نبع التجديد الذي طبع مسيرته من توظيف فذ وجديد للعناصر المتاحة في قلب التراكيب التراثية الزاخرة بالإمكانات الثرية التي تنتظر من يكتشفها ويستعملها. كما أطلق في المسرح شخصية ساخرة وعابثة وسمت حضوره، وطبعته بأداء خفيف وكوميدي يستطيع أن يشد الأنظار بمقدار ألفته وبساطته. كما فتح باب السخرية السياسية والغناء الكوميدي في سلسلة أعمال شاعت وانتشرت، وبقي الجزء الأكبر منها محفوظا على نحو غير رسمي ضمن ذاكرة احتجاجية راسخة.
من فلسطين إلى الجنوب
شهدت تجربة فيلمون وهبي الأولى معاينة مباشرة للمكان الفلسطيني قبل النكبة. الرجل المولود في كفرشيما عام 1916، حمل آماله وأحلامه ومشاريعه الفنية وسافر إلى فلسطين في ثلاثينات القرن العشرين ليكون في قلب حراك فني واجتماعي حار وحيوي شهدته القدس ويافا وحيفا وغزة قبل نكبة 1948، حيث انتشر الغناء الشعبي في الأمكنة الخاصة والعامة، وكانت القوالب السائدة آنذاك تعتمد على تراكيب بسيطة مثل العتابا والميجانا والدلعونا مع بروز مساحة للارتجال والتعبير عن الاحتجاج والأحزان والأفراح. وكانت المقامات الأكثر شيوعا هي الأكثر ألفة مثل البياتي والراست والحجاز، مما جعل الغناء السائد يستند إلى ألفة سمعية راسخة وصلبة.


