الانتخابات البرلمانية المصرية… تجديد في زمن التحديات

تتجاوز الانتخابات الحالية بكثير مجرد فرز الأصوات المعتاد

سيدة مصرية تدلي بصوتها في الانتخابات بالقاهرة

الانتخابات البرلمانية المصرية… تجديد في زمن التحديات

انطلقت المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب المصري يومي 10 و11 نوفمبر/تشرين الثاني، لتفتح الباب أمام مسارٍ انتخابيٍّ يتألف من مرحلتين لتجديد مجلس النواب المصري، المكوَّن من 596 مقعدا.

وهذا ليس مجلسا عاديا، بل هو القلب النابض للتشريع الوطني؛ فهو الذي يصوغ السياسات، ويمنح الضوء الأخضر لميزانيات الدولة، ويراقب أداء السلطة التنفيذية.

لا يحتمل توقيت الانتخابات مزيدا من التأجيل، فهي تأتي في وقتٍ تكافح فيه مصر معدّل تضخّمٍ يناهز 12 في المئة، وعملةٍ وطنيةٍ منخفضةِ القيمة، فضلا عن تداعيات الاضطرابات الإقليمية. فمن الصراع الدائر في غزة، والذي يضغط على حدود سيناء، إلى تدفّق اللاجئين من السودان- أكثر من 1.2 مليون لاجئ استضافتهم مصر منذ اندلاع الحرب الأهلية في الدولة المجاورة في أبريل/نيسان 2023- باتت مصر عاملَ استقرارٍ على الخطوط الأمامية في منطقة شديدةِ الاضطراب.

وتشمل الخريطة الانتخابية جميع محافظات البلاد البالغ عددها 27 محافظة، وقد جرى تقسيمها إلى مراحل بهدف تحسين الخدمات اللوجستية وتوسيع نطاقها.

وتشمل الجولة الأولى من الانتخابات 14 منطقة متنوعة، من بينها مدينة الإسكندرية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ومناطق التوسع العمراني في الجيزة ضمن القاهرة الكبرى، فضلا عن المساحات الخصبة الغنية بالتقاليد في صعيد مصر.

بدأ المصريون المقيمون في الخارج الإدلاء بأصواتهم يومي 7 و8 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، في القنصليات المصرية المنتشرة في 117 دولة، وهو الأمر الذي يعكس الدور الدائم للمغتربين في الشؤون الداخلية للبلاد.

ومن المتوقع صدور نتائج المرحلة الأولى في 18 نوفمبر، على أن تُجرى جولات الإعادة يومي 3 و4 ديسمبر/كانون الأول، إذا دعت الحاجة. أما المرحلة الثانية من الانتخابات، فتشمل المحافظات الثلاث عشرة المتبقية، وستُجرى يومي 24 و25 نوفمبر.

ويمكن تقديم الطعون خلال 48 ساعة، على أن تتولى المحكمة الإدارية العليا النظر فيها لضمان تحقيق العدالة.

نظام هجين

والأمر الذي يجعل هذا التصويت بارزا هو الدمج بين المرشحين الفرديين وقوائم الأحزاب، إذ يوفّق بين مخاوف الشارع والرؤى السياسية الشاملة.

ويتم التنافس على 448 مقعدا في 143 دائرة انتخابية. تُمنح كل دائرة من مقعد واحد إلى أربعة مقاعد بنظام الأغلبية على جولتين: يفوز المرشح الحاصل على أعلى الأصوات مباشرة، أو تُجرى جولات إعادة إذا لم يحصل أي من المرشحين على 50 في المئة.

سيدة مصرية تدلي بصوتها في الانتخابات بالقاهرة

الأمر الذي يجعل هذا التصويت بارزا هو الدمج بين المرشحين الفرديين وقوائم الأحزاب، إذ يوفّق بين مخاوف الشارع والرؤى السياسية الشاملة

يُخصص 120 مقعدا إضافيا من خلال قوائم حزبية مغلقة في أربع دوائر انتخابية على مستوى الجمهورية: دائرتان يُخصص 40 مقعدا لكل منهما، ودائرتان يُخصص 20 مقعدا لكل منهما.

وللتأهل، يجب أن تحصل القوائم الحزبية على 5 في المئة على الأقل من الأصوات الوطنية، وأن تستوفي نسب الشمول، والتي تشمل 25 في المئة من المرشحين دون سن 35 عاما، و10 في المئة من النساء، ومرشحا مسيحيا واحدا على الأقل، إضافةً إلى مقاعد مخصصة للعمال والفلاحين، بما يعكس التنوع المجتمعي في مصر.

وينص الدستور المصري على منح الرئيس عبد الفتاح السيسي سلطة تعيين 28 عضوا في مجلس النواب بعد الانتخابات. ومن المتوقع أن تسهم هذه التعيينات في جلب الخبرات في مجالات الأمن والإعلام والتكنولوجيا.

وقد نجح نحو 2800 مرشح، من بينهم مستقلون ومنتمون لأحزاب سياسية، في اجتياز عملية التدقيق النهائية. واختُتمت أنشطة الحملة يوم 7 نوفمبر، في ظل إجراءات أمنية مشددة وتغطية إعلامية مراقَبة.

ويظل الاهتمام العام بالانتخابات محدودا نتيجة التحديات الاقتصادية الراهنة. وعلى نحو عام، يسود نوع من اللامبالاة تجاه العملية الانتخابية، إذ تُقزَّم أسعار السلع، ولا سيما الغذاء، والقدرات المالية لمعظم المواطنين.

حقل مزدحم

يوجد في مصر أكثر من 100 حزب سياسي مسجَّل، الأمر الذي يشير إلى اتساع الخيارات السياسية أمام الناخبين.

لكن في الممارسة العملية، يتركز الاهتمام على مجموعة صغيرة من التحالفات المؤيدة للحكومة، التي تُنسّق على نحو وثيق مع إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي.

وتواجه المشاركة تحديات عدة، مثل رسوم التسجيل المرتفعة، والقواعد القانونية المعقدة، والفحوصات الأمنية. وتهدف هذه التدابير إلى دعم المجموعات المنظمة وتقليل النزاعات.

ومن المتوقع أن تتصدر القائمة الوطنية لمصر، بقيادة حزب "مستقبل وطن"، الانتخابات. وتضم القائمة ثلاثة عشر حزبا متحالفا، من حزب "حماة الوطن" إلى "الجبهة الوطنية"، كما دفعت بـ300 مرشح فردي وتُشرف على إدارة القوائم الحزبية بالكامل.

وبفضل الدعم المالي القوي والتركيز على التقدّم، تستند القائمة، المدعومة بموارد مالية كبيرة وأجندة إصلاحية، إلى نجاح ائتلاف "في حب مصر" في عام 2015، مما يترك مساحة محدودة أمام المنافسين الآخرين.

ينص الدستور المصري على منح الرئيس عبد الفتاح السيسي سلطة تعيين 28 عضوا في مجلس النواب بعد الانتخابات

يدعم حزب "مستقبل وطن"، الذي حصد 150 مقعدا في البرلمان السابق، مشاريع البنية التحتية الكبرى والسياسات الاقتصادية والمبادرات المجتمعية التي تتوافق تماما مع أجندة الرئيس عبد الفتاح السيسي. ويعمل الحزب في المقام الأول كداعم للرئيس وليس كمنافس له.

تركز قائمة الجيل على الشباب، وتروّج للتحول الرقمي، وتحسين الحوكمة، وتدابير مكافحة الفساد، مع استهداف الفئة العمرية دون 35 عاما، مع البقاء منسجمة تماما مع التحالف الرئيس.

وتتبنى قائمة "صوتك من أجل مصر" موقفا وسطيا تجاه الأمن والخدمات العامة، بينما تركز قائمة نداء مصر على رعاية الأسرة. وتعمل كلتا القائمتين بكفاءة ودون أي خلل.

أ.ف.ب
بطاقة اقتراع تحمل أسماء الاحزاب والقوائم المختلفة

يتنافس نحو ألف مرشح مستقل، من بينهم قادة محليون وشخصيات ذات خبرة، في دوائر انتخابية فردية، استنادا إلى علاقاتهم الشخصية وثقة مجتمعهم. ويتشارك الكثير منهم الأولويات الوطنية نفسها، ويواجهون قيودا متشابهة تحدّ من فرص المرشحين المستقلين.

على هامش الانتخابات، تجمع الحركة المدنية الديمقراطية عشرة أحزاب راسخة، منها حزب "الوفد" الليبرالي وحزب "التجمع" اليساري، إلى جانب جماعات جديدة مثل حزب "العيش والحرية".

وترشح هذه الأحزاب مرشحين فرديين، متجنبة في المقام الأول نظام القوائم، مع تسليط الضوء على عوائق الوصول العادل ومخاوف أخرى.

المعارضة في الظل

صُمم النظام الانتخابي في مصر لتعزيز التوازن وتحقيق نتائج قوية. وتهدف الحصص إلى ضمان مقاعد للشباب والنساء والأقليات التي عانت من نقص التمثيل لفترة طويلة. كما يمنح نظام القوائم الحزبية الفائز ميزة واضحة للحملات الممولة والمنظمة جيدا.

ومن المتوقع أن تكون نسبة المشاركة في التصويت متواضعة استنادا إلى الاتجاهات الأخيرة.

وتُعتبر القائمة الوطنية، بقيادة حزب "مستقبل وطن"، المجموعة الرائدة على نطاق واسع. ومن المتوقع أن تفوز بما يتراوح بين 70 في المئة و80 في المئة من مقاعد المجلس التشريعي البالغ عددها 596 مقعدا، أي ما بين 420 و480 مقعدا إجمالا. ويشمل ذلك جميع مقاعد نظام القوائم الحزبية البالغ عددها 120 مقعدا، بالإضافة إلى أكثر من 300 مقعد للمرشحين الأفراد.

وتستفيد هذه القائمة من الدعم المالي الكبير من الشركات الكبرى، والتغطية الإعلامية الواسعة، والعلاقات الراسخة مع القادة المحليين في مختلف المدن والقرى.

ويعكس هذا النهج الاستراتيجية نفسها المستخدمة في انتخابات عام 2020، عندما حصلت التحالفات الموالية للحكومة على أكثر من 440 مقعدا، وهو الأمر لذي أدى إلى تشكيل هيئة تشريعية متحالفة بشكل وثيق مع الرئاسة.

ومن المتوقع أن تسفر الانتخابات الحالية عن نتيجة مماثلة. ومع ذلك، لن تفوز القائمة الوطنية بجميع المقاعد، إذ يُتوقع أن تحصل أحزاب حليفة أصغر، مثل قائمة "الجيل" وأحزاب داعمة أخرى، على ما بين 10 في المئة و15 في المئة من المقاعد، أي ما يعادل نحو 60 إلى 90 مقعدا.

تركّز هذه المجموعات على مشاركة الشباب، والابتكار، والحوكمة الشفافة، وتكمّل برامجها أجندة القائمة الوطنية، وهو الأمر الذي يضمن تعاونا متماسكا ضمن التحالف الأوسع.

من المتوقع أن يفوز المرشحون المستقلون، الذين يتنافسون على مقاعد غير حزبية، بما يتراوح بين 5 في المئة و10 في المئة من إجمالي المقاعد، أي ما بين 30 و50 مقعدا

ومن المتوقع أن يفوز المرشحون المستقلون، الذين يتنافسون على مقاعد غير حزبية، بما يتراوح بين 5 في المئة و10 في المئة من إجمالي المقاعد، أي ما بين 30 و50 مقعدا. وغالبا ما ينجح هؤلاء في الدوائر الانتخابية التي تُعدّ فيها السمعة الشخصية والروابط المجتمعية والخدمات المحلية أهم من الانتماء الحزبي.

ومن المتوقع أن يتوافق معظم المرشحين المستقلين الناجحين مع الأولويات الوطنية. ومع ذلك، يواجه المرشحون الذين يفتقرون إلى الموارد المالية أو الوصول إلى وسائل الإعلام تحديات كبيرة.

ومن المتوقع، بعد فرز الأصوات، أن تحصل القائمة الوطنية على أغلبية المقاعد في البرلمان.

عند مفترق طرق

تتجاوز الانتخابات الحالية بكثير من مجرد فرز الأصوات المعتاد، وترتبط بها آمال كبيرة لتعزيز مركز مصر ومنح البلاد جبهة موحدة لمواجهة تحديات متعددة في آن واحد.

إن البرلمان، الذي يتمتع بأكثر من 80 في المئة من مقاعده المؤيدة للاستقرار أو للحكومة، سيعمل على تسريع الإصلاحات الكبرى، بما في ذلك التغييرات في الميزانية التي يوجّهها صندوق النقد الدولي، والمشاريع الكبرى مثل العاصمة الإدارية الجديدة، والقطارات فائقة السرعة.

ومن شأن هذه الأغلبية القوية أن ترسل أيضا رسالة واضحة بالهدوء والثقة للمستثمرين داخل مصر وخارجها.

على الصعيد العالمي، سيعزز هذا الدعم القوي دور مصر كوسيط موثوق، بدءا من التوسط في وقف إطلاق النار في غزة، مرورا باستضافة اللاجئين السودانيين، ووصولا إلى إدارة نزاعات مياه النيل مع إثيوبيا. وتحتاج مصر إلى دعم قوي في الداخل لتتمكن من قيادة جهودها الخارجية.

ومن المتوقع أن يدفع البرلمان الجديد بخطط تهمّ المواطنين العاديين. وتتصدّر فرص عمل الشباب وتمكين المرأة قائمة أولويات البرلمان، حيث ستُخصّص مقاعد لأصوات شابة وأكثر تنوعا، مع مراعاة حدود معينة.

بدأت الفوائد تظهر بالفعل، فخصخصة القطاعات تسير بوتيرة أسرع، وتزدهر السياحة، حيث يجذب المتحف المصري الكبير عددا قياسيا من الزوار، وهناك حديث عن دعم أكثر فاعلية للسيطرة على ارتفاع الأسعار.

ومع ذلك، في السعي لتحقيق مكاسب سريعة، تنتظر القضايا الأعمق المتعلقة بالعدالة والمساواة في المشاركة أحيانا وقتا أطول لتلقي الاهتمام.

في دولة يبلغ عدد سكانها 110 ملايين نسمة، حيث يشكّل الشباب الأغلبية لكنهم يعانون من انخفاض الأجور ومحدودية المنافذ للتعبير، فإن استراتيجية الاستقرار أولا تخاطر بتجاهل التوترات الأساسية بدلا من حلها.

وفي جوهرها، تشكّل هذه الانتخابات أساسا تشريعيا قويا لتوجيه مصر عبر التحديات الحالية.

ولكنها تثير السؤال حول ما إذا كان هذا النهج الموحد سوف ينمو إلى نظام سياسي أكثر انفتاحا وشمولا، وما إذا كانت الأصوات الأكثر هدوءا سوف تطالب قريبا بحصة أكبر في تشكيل المسار التشريعي لمصر.

font change