افتتاح سد النهضة... في البحث عن المنفعة المتبادلة بين مصر وإثيوبياhttps://www.majalla.com/node/327484/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%81%D8%AA%D8%AA%D8%A7%D8%AD-%D8%B3%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B6%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D9%81%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D9%84%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D9%88%D8%A5%D8%AB%D9%8A%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7
يأتي الافتتاح الرسمي الأخير لسد النهضة الإثيوبي ليثير التكهنات حول ما إذا كان سيطوي صفحة الخلاف بين مصر وإثيوبيا، وهو الخلاف الأبرز على تقاسم المياه في حوض النيل في العقد الماضي. لقد ظل هذا الخلاف حتى اليوم محصورا في الأطر السياسية والدبلوماسية، وتخللته جولات متكررة من المفاوضات الفاشلة وتبادل لاتهامات لا نهاية لها على امتداد 14 عاما، بدءا من لحظة الشروع في بناء السد عام 2011.
إن مصر، مستندةً إلى اتفاقية تقاسم مياه النيل الموقعة عام 1959، التي تضمن لمصر 55.5 مليار متر مكعب سنويا، ترى في السد تهديدا لمواردها المائية المحدودة، وهي تعاني أصلا من شح مزمن في المياه.
ووصف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أكثر من مرة هذا التهديد، بأنه تهديد "وجودي" لبلاده المكتظة بالسكان، الذين يعتمدون على نهر النيل لتلبية أكثر من90 في المئة من احتياجاتهم من المياه العذبة.
بينما تعتقد إثيوبيا من ناحية أخرى، أن لها الحق في استخدام مياه النيل الأزرق، الرافد الرئيس لنهر النيل، كمورد لتحسين الظروف المعيشية لشعبها، الذي لا يحصل أكثر من 60 في المئة منه على الكهرباء.
اليوم، أصبح السد بالفعل حقيقة واقعة، لا رجعة عنها.
ويدعو هذا الواقع الجديد، إلى التفكير في إمكانية أن يلهم البلدين إلى نهج جديد في التعامل، يتحول معه سد الطاقة الكهرومائية، الذي تبلغ تكلفته عدة مليارات من الدولارات، إلى مصدر للتعاون بدلا من كونه أساسا للنزاع. ولكن كي يتحقق هذا الأمر، ينبغي على القاهرة وأديس أبابا أن تتبنيا نهجا برغماتيا قائما على المنفعة المتبادلة. وقد يؤدي هذا النهج إلى خلق مسار للتعاون في مجال المياه في المستقبل، لا في داخل أفريقيا فحسب، بل خارجها أيضا.
ظل هذا الخلاف حتى اليوم محصورا في الأطر السياسية والدبلوماسية، وتخللته جولات متكررة من المفاوضات الفاشلة وتبادل لاتهامات لا نهاية لها على امتداد 14 عاما
منفعة متبادلة للطرفين
سيولد سد النهضة الإثيوبي الكبير 5150 ميغاواط من الطاقة الكهربائية سنويا، بحسب البيانات الإثيوبية. وسيكون هذا صحيحا على الأخص، إنْ نجحت إثيوبيا في تركيب جميع توربينات السد الاثنتي عشرة وتشغيلها، وهو أمر مشكوك فيه، أقلّه في الأمد القريب.
يمكن لهذا الإنتاج الضخم المأمول من الطاقة أن يكون مفيدا لمصر، وعلى الأخص في أثناء موسم الأمطار في إثيوبيا، مما يقلل من اعتماد مصر على الوقود الأحفوري ويدعم أهدافها في مجال الطاقة المتجددة. فقد أدى انخفاض إنتاج الغاز الطبيعي في مصر إلى دفعها للبحث المحموم عن مصادر بديلة لتشغيل محطات الكهرباء الموزعة على مساحة مترامية الأطراف، وتوفير إمدادات الكهرباء دون انقطاع لسكانها.
ويكلف هذه التحرك العاجل القاهرة مليارات الدولارات، كما تجلى في صفقة استيراد الغاز التي وقعتها مؤخرا مع إسرائيل، وستدفع مصر بموجبها 35 مليار دولار لاستيراد 130 مليار متر مكعب من الغاز من حقل قبالة ساحل إسرائيل على البحر الأبيض المتوسط حتى عام 2040.
بدأت إثيوبيا بناء سد النهضة عام 2011. ومن بين الدول المعنية التي تقع في مناطق المصب مصر والسودان
ويمكن لاتفاق تقاسم الطاقة أن يوفر عائدات كبيرة لإثيوبيا، التي تحتاج إلى مليارات الدولارات الإضافية لاستكمال البنية التحتية للكهرباء اللازمة، لتوزيع الكهرباء التي يولدها السد على أكثر من نصف سكانها، الذين يبلغ عددهم 132 مليون نسمة.
كما يمكن لهذا الاتفاق أن يعمل أيضا على استقرار شبكة الطاقة في مصر، ولا سيما مع تزايد الحرارة في الصيف، وهو أحد الآثار القاسية التي يحدثها الاحتباس الحراري على الدولة التي تغطي الصحراء معظم أراضيها.
توفر حسن النية
يتطلب هذا التعاون، بطبيعة الحال، جملة من التدابير من الجانبين. فإثيوبيا مدعوة اليوم إلى إبداء قدر أكبر من الشفافية بشأن مستويات خزان سد النهضة.
يحتاج هذا التعاون بالتأكيد إلى سلسلة من التدابير من كلا البلدين حتى يتحقق. فإثيوبيا، التي تكتمت على البيانات المتعلقة ببناء السد طيلة السنوات الأربع عشرة الماضية، عليها أن تكون أكثر شفافية بشأن مستويات خزان سد النهضة.
يبلغ ارتفاع السد أكثر من 145 مترا، ويحتوي على خزان يعادل في مساحته مساحة مدينة حضرية كبيرة، ويخزن حاليا 174 مليار متر مكعب من المياه، وهي الكمية التي اقتطعت طيلة سنوات ملء خزان السد، من الحصص السنوية لمصر والسودان، الواقعتين كلتيهما على مجرى نهر النيل.
كما يمكن للإدارة المشتركة للفيضانات أن تخفف من مخاوف مصر من ندرة المياه، خاصة إذا وافقت إثيوبيا على العمليات المنسقة للسد، وهو المطلب المصري الذي تجاهلته أديس أبابا بتعنت، طيلة سنوات الخلاف الماضية.
ينبغي على مصر وإثيوبيا أيضا أن تتوصلا إلى اتفاق ملزم قانونا، يتناول حصص المياه، والتعامل مع حالات الجفاف، وتقاسم الطاقة. ولكن اتفاقا كهذا سيتطلب التزاما إثيوبياً بالاستخدام العادل للمياه. غير أن مثل هذا الالتزام يتطلب دبلوماسية رفيعة المستوى، قد يتوسط فيها الاتحاد الأفريقي أو دول تربطها علاقات وثيقة بالجانبين. ويجب أن يستند هذا الالتزام نفسه إلى إعلان المبادئ الذي وقعته الدولتان، مع السودان، في الخرطوم عام 2015.
يمكن لهذا الاتفاق التعاقدي بين البلدين أن يعالج حقوق مصر التاريخية في نهر النيل، ويسمح لإثيوبيا أيضا بالمضي قدما في التنمية التي تطمح إليها، فيتحول السد بذلك إلى أداة مشتركة لإدارة الموارد
ويمكن لهذا الاتفاق التعاقدي بين البلدين أن يعالج حقوق مصر التاريخية في نهر النيل، ويسمح لإثيوبيا أيضا بالمضي قدما في التنمية التي تطمح إليها، فيتحول السد بذلك إلى أداة مشتركة لإدارة الموارد.
كما أن هذا الإطار التعاوني بين البلدين يتمتع في الوقت نفسه، بفرصة كبيرة للنجاح لتوفر عدد من الأسباب. فمصر وإثيوبيا عضوان في الاتحاد الأفريقي وفي مبادرة حوض النيل. ويمكن لهاتين الآليتين أن توفرا منصات للحوار بين البلدين، بعيدا عن تدخل قوى من خارج القارة الأفريقية أو من خارج حوض النيل.
ويمكن لتغيير العقلية في التعامل مع المشكلة، أن يُظهر للبلدين حاجتهما الماسة لبعضهما البعض. فرغبة مصر الشديدة في الطاقة الكهربائية، ولهفة إثيوبيا الشديدة على التمويل قد تقرب البلدين وتساعدهما على تجاوز العقبات. كما يمكن لمشاريع البنية التحتية المشتركة أو اتفاقيات التجارة أن توحد مصالح كلا البلدين وتحولهما من أعداء اليوم إلى أصدقاء في المستقبل.
واعتماد الجانبين طريقة التفكير البرغماتية يمكن أن تعيد تموضع مصر وإثيوبيا على الصعيد الإقليمي، بعد اكتمال سد النهضة، ولا سيما إذا نجحت أديس أبابا والقاهرة في جعل السد رمزا للشراكة وليس التنافس.
التحديات
قد يتبين أن تصورنا السابق ليس سوى أمنيات، ولا سيما في ظل انعدام الثقة المستمر بين البلدين، وهو تحد كبير على طريق تحول سد النهضة إلى نقطة التقاء بين البلدين. فإثيوبيا تتهم مصر بالسعي إلى عرقلة تنميتها، بالتمسك بـ"اتفاقية تعود إلى الحقبة الاستعمارية" بشأن تقاسم مياه النيل.
بينما تعتقد مصر من جانبها بأن دوافع إثيوبيا لبناء سد النهضة، تتجاوز طموحاتها التنموية بكثير، فهي بسعيها إلى حرمان شعب مصر من مياه نهر النيل، شريان الحياة، تكاد تنفذ خطة لتركيع مصر لصالح بعض القوى من خارج القارة الأفريقية.
نهر النيل الازرق لدى مروره عبر سد النهضة الإثيوبي في منطقة غوبا في صورة تعود إلى ديسمبر 2019
للقاهرة أسبابها الخاصة عندما تفكر على هذا النحو، فهو ليس تهويلا منها أو مبالغة على الإطلاق. فواقع الحال أن إثيوبيا لا تحتاج إلى سد بحجم سد النهضة لتوليد الكهرباء لشعبها، وتحقيق الإيرادات، والازدهار. كما تتهم القاهرة إثيوبيا بإضمار سوء النية، خلال جولات لا نهاية لها من المفاوضات حول بناء وملء السد وتشغيله في السنوات الماضية.
ورفضت الحكومة الإثيوبية في جولات المفاوضات هذه، طلبات مصرية للحصول على معلومات حول تفاصيل بناء السد. كما رفضت أيضا التماسات مصرية بالمشاركة في إدارة السد، إذ يمكن أن يحجب البناء الخرساني تدفق المصدر الرئيس لمياه مصر العذبة.
تعطي مصر أهمية استثنائية لمسألة المياه، فهذا البلد يعتمد في وجوده على نهر النيل، ويعتمد مستقبله أيضا على استمرار تدفق النهر إليها. وقد ظلت إمدادات المياه في مصر من النهر ثابتة طيلة عقود من الزمن، حتى مع استمرار نمو سكانها، مما أدى إلى تفاقم فقرها المائي، يضاف إلى ذلك أن مصر تأتي في طليعة البلدان المتضررة من تغير المناخ.
ولعل البيان المشترك الذي أصدرته مصر والسودان في الثالث من سبتمبر/أيلول الماضي، ووصفتا فيه سد النهضة بأنه "مشروع أحادي الجانب"، قد أوضح شكوك البلدين في السد الإثيوبي وانعدام ثقتهما في نوايا أديس أبابا.
وتزيد إثيوبيا من حدة هذه المخاوف، بإعلانها أن سد النهضة الإثيوبي الكبير، ليس سوى واحد من سلسلة من السدود التي ستبنيها على نهر النيل في المستقبل.
إن قلب اتجاه حالة انعدام الثقة الطويلة الأمد بين البلدين، سوف يفرض عليهما أن يعطيا الأولوية للترابط الاقتصادي والاستقرار الإقليمي، بدلا من سياسات مائية تنافسية ولا تقبل التشارك.
يمتلك التوافق الاستراتيجي القدرة على تجاوز التنافسات التاريخية، خاصة إذا استطاع البلدان التغلب عليها. ويعتمد نجاحهما في ذلك، على قدرتهما على التوصل إلى اتفاق ملزم، وتصور مستقبل من المنافع الاقتصادية المتبادلة، وقيادة دبلوماسية مستدامة.
ومع ذلك، فإن تحقيق هذا النجاح وإجراء التحول المنشود يتطلب خطوات وقرارات جريئة من كلا البلدين.