التريليونير الأول وعالم مرعب يبزغ

التريليونير الأول وعالم مرعب يبزغ

استمع إلى المقال دقيقة

الإعلان عن الترتيبات المالية التي ستتيح لإيلون ماسك أن يكون أول "تريليونير" (صاحب تريليون دولار أو أكثر من المال)، يتجاوز الخبر المالي والمتعلق بثروات أصحاب الشركات الكبرى حيث يسلط ضوءًا على المستقبل الاجتماعي والسياسي الذي يسير العالم نحوه.

نبأ وصول ماسك إلى هذه المرتبة من الثروة جاء بعد عام تقريبا من نشر مؤسسة "انفورما كونكت أكاديمي" دراسة توقعت فيها أن يكون ماسك أول تريليونير لكن في عام 2027. فسبق صاحب شركات "تسلا" و"سبايس إكس" و"ستارلينك" التوقعات بعامين. الدراسة تضمنت كشفا بالمرشحين للحصول على اللقب ذاته في السنوات القليلة المقبلة ومنهم رجل الأعمال الهندي غوتام أداني، والمدير التنفيذي لشركة "إنفيديا" لرقائق الكمبيوتر جيسن هوانغ، وغيرهما، استنادا إلى المعدل السنوي لنمو ثرواتهم.

ظاهرة تراكم الثروات وتمركزها في أفراد معدودين ليست جديدة وشملتها قراءات في مراحل مختلفة من تطور الرأسمالية في الغرب ونظرت في جوانبها السياسية والاجتماعية. والطور الحالي من التغيرات التي يشهدها العالم وخصوصا الدول الصناعية الكبرى ذات الأنظمة الليبرالية–الديمقراطية، ينبئ أن صعود أصحاب التريليونات يعكس تغيرا لا ينحصر في البنى الاقتصادية وسيطرة اقتصاد الأسواق المالية والتكنولوجيا المتقدمة حيث التراكم يفوق التوزيع بمراحل، ما يركز المال بين أيدي القلة فحسب، بل إنه يعمق إلى حدود شديدة الخطر الاستقطاب الاجتماعي بين الفقراء والأغنياء على نحو لم يشهده العالم من قبل حتى في ذروة اندفاعة الليبرالية غير الديمقراطية بين منتصف القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين.

فالاعتماد على قوانين العمل "المرنة" التي أقرها الكثير من الدول الصناعية لتجاوز القيود التي فرضتها "دولة الرفاه" في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية و"الصفقة الجديدة" التي أرساها الرئيس فرنكلين روزفلت في الولايات المتحدة بعد الانهيار الاقتصادي الكبير في 1929، خلق "سوق عمل حرة" تحتوي دائما على عدد من أصحاب الكفاءات العالية العاطلين عن العمل إلى جانب العمال المهرة والأقل تأهيلا. جميع هؤلاء على استعداد للعمل في ظروف قاسية لكسب لقمة العيش. ناهيك عن أن نقل التصنيع إلى دول آسيا (وأميركا الجنوبية بدرجة أقل)، أزاح عن أصحاب رؤوس الأموال هموم الانشغال بمطالب النقابات وألقى هذا العبء على حكومات "الجنوب" الراغبة في مواجهة الفقر الشديد في بلدانها.

أصحاب التريليونات لا يشبهون أصحاب المليارات في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي الذين جاءوا إلى الثروة بعد كسر نمطية الأجيال السابقة بإبداع أشكال أخرى من التعبير في الفنون والسياسة

عليه، يعطي الاستقطاب الاجتماعي بين "شديدي الثراء" و"شديدي الفقر" وهما الجماعتان اللتان ستسودان المشهد في الأعوام القليلة المقبلة، اعتقادا بأن التحركات المطلبية الشبيهة بتلك التي انتعشت قبيل الحرب العالمية الثانية ستُبعث مجددا وأن عصرا من النضالات العمالية سيبزغ لتقويم الخلل في موازين القوى الاجتماعية. 
وهنا يكمن التغير الكبير. ذلك أن أصحاب التريليونات لا يشبهون أصحاب المليارات في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي الذين جاءوا إلى الثروة بعد المرور بعقود من التمرد "الهيبي" لجيل "بيبي بومرز" حيث حاول هذا الجيل كسر نمطية الأجيال السابقة بإبداع أشكال أخرى من التعبير في الفنون والسياسة (كتنظيم "الفهود السود" في الولايات المتحدة على سبيل المثال) والتنظيم الاجتماعي (تشكيل التجمعات الشبابية وصولا إلى الطوائف الدينية المغلقة) لكنه انتهى إلى الانضمام للنظام الاقتصادي والسياسي القائم مع بعض التحولات التي ربما مثلتها شركات التكنولوجيا وخصوصا "آبل". 
وقد كُتب الكثير عن وجهات نظر إيلون ماسك اليمينية المتطرفة والتي كان آخرها تأييده ما ذهب إليه أحد المتحدثين عن شبه براءة النازيين من الهولوكست الذي حصل بسبب انعدام قدرة الحكومة الألمانية على إدارة المعتقلات، قبل أن يتراجع ماسك ويمحو التغريدة من حسابه على "إكس". وليس سرا ان المواقف هذه تتبناها فئات اجتماعية عريضة لا تتأخر عن التعبير عنها عند كل استحقاق وانتخابات. 
وهذا مثال على المنظومة الفكرية والقيمية التي تحرك ليس ماسك وحده بل صفا طويلا من كبار أصحاب الثروات في الولايات المتحدة الذين لا يبدون أدنى حساسية حيال المعاناة التي يعيشها مواطنوهم خلافا لما فعله رأسماليون سابقون في الولايات المتحدة وجهوا أقساما كبيرة من ثرواتهم نحو التنمية والتعليم والفنون والصحة العامة  مثل كارنيغي وروكفلر وفاندربيلت وستنافورد وغيرهم. 
وبين شكوك وهواجس "الأشد فقرا" وازدراء "الأشد غنى" لمآسي الآخرين، يتقدم عصر جديد مسلح بالتكنولوجيا الفائقة والقوة المفرطة والأزمات الرهيبة. 

font change