في تغيّر الدور الإقليمي لسوريا

إسرائيل تبقى معضلة في السياسات والخيارات

في تغيّر الدور الإقليمي لسوريا

استمع إلى المقال دقيقة

طوال ستة عقود، حمّل حكم نظام الأسد (الأب والابن بين 1970 و2024) سوريا- كدولة وكشعب- أدوارا إقليمية أو "قومية" (بمصطلحات "البعث") أكبر بكثير من قدراتها الاقتصادية والعسكرية والبشرية، إذ اضطلعت طوال تلك الفترة بأدوار خارجية ثقيلة وصعبة ومكلفة، بدعوى الوحدة والحرية والاشتراكية ومقاومة إسرائيل ومصارعة الإمبريالية.

تمثّل ذلك في التدخلات السياسية والأمنية في الدول المجاورة، بخاصة لبنان، الذي خضع للهيمنة السورية لثلاثة عقود، وفي نمط العلاقة مع إيران، التي باتت تهيمن على سوريا، لا سيما في عهد الأسد الابن، ما جعل البلد ساحة للنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط على الضد من النظام العربي، كما تمثل في الارتهان للعلاقة مع الاتحاد السوفياتي، ووريثته روسيا، فيما بعد، بادعاء تبني الخيار "الاشتراكي"، والاصطفاف جهة المعسكر الشرقي.

مع ذلك فقد بينت التجربة أن إسرائيل لم تتأثّر سلبا من الأدوار التي لعبها النظام السوري، إذ صبّ معظمها في عزل سوريا وإرهاق شعبها مع إضعافها الإجماعات العربية، مع تعريف الحدود السورية-الإسرائيلية بوصفها أهدأ حدود، رغم احتلال إسرائيل هضبة الجولان السورية، وبالطبع فبالنسبة للولايات المتحدة ليس ثمة أي تأثير سلبي للخيارات السورية عليها، مع ملاحظة حرص نظام الأسد على رضاها.

وفيما يخص إيران، وتحالفها مع نظام الأسد، فقد أدى إلى تصديع وحدة مجتمعات المشرق العربي على أسس طائفية، وأضعفت مبنى الدولة والمجتمع في تلك البلدان، إضافة إلى تفكيك الإجماعات العربية، على خلفية الموقف من السياسات الإيرانية، بحيث إن إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، رأت فيها خدمة لها، وفرصة لابتزاز بعض الدول العربية بالتغوّل الإيراني.

أما تحالف نظام الأسد مع الاتحاد السوفياتي، وخليفته روسيا، فأفاد بتعزيز مكانته، داخليا وإقليميا، لكنه لم يمنع إسرائيل من احتلال أراض سورية، كما لم يمكّن سوريا من استعادة تلك الأراضي، ولا من تقوية جيشها، بحكم احتساب الاتحاد السوفياتي (السابق) الصراع ضد إسرائيل ضمن سياقات الحرب الباردة، فقط، بينما تعاملت روسيا (الرأسمالية) مع سوريا باعتبارها ورقة في يدها، لتعزيز حضورها في البحر المتوسط والشرق الأوسط، ومناكفة الولايات المتحدة، لا أكثر من ذلك، مع الحفاظ على علاقاتها مع إسرائيل.

الأدوار الإقليمية للنظام السوري ظلت محدودة، ومقيدة، ومحسوبة، لكنها تمخّضت عن إضعاف، وإنهاك، بني الدولة والمجتمع، مقابل ترسّخ سلطة شمولية قويت وتغوّلت على الشعب

من جانب آخر، فإن الحمولات أو الأدوار، التي انتهجها النظام السوري، نأت، أو ابتعدت، عن أطراف النظام العربي، بخاصة عن القطبين العربيين و"القوميين"، الأقربين، كما يفترض، لسوريا، أي مصر والعراق، بل إنها عززت التناقض والتنافس، بدل التكامل، معهما، في محاولة تقوية أوراقها، كسلطة، داخليا وخارجيا، وفي سياق سياسات المحاور عربيا.

في المحصلة، فإن الأدوار الإقليمية للنظام السوري ظلت محدودة، ومقيدة، ومحسوبة، لكنها تمخّضت عن إضعاف، وإنهاك، بني الدولة والمجتمع، مقابل ترسّخ سلطة شمولية قويت وتغوّلت على الشعب.

أيضا، فإن تلك الأدوار أدت إلى تعظيم البني السلطوية والأجهزة الأمنية، على حساب التعليم والصحة والخدمات والبني التحتية، وإحالة كل قصور إلى مواجهة العدو الخارجي، والدفاع عن "الأمن القومي"، مع توظيف ذلك للمزايدة على الدول العربية الأخرى، وابتزازها. ولنتذكر نظرية "التوازن الاستراتيجي" للأسد الأب، ونظرية توحيد البحار الخمسة للأسد الابن: "البلطيق والأبيض وقزوين والأسود وآزوف"، وكلتاهما تبينتا عن خواء ومخاتلة.

هكذا، جرى توظيف الأدوار "القومية" بعكس الادعاءات المتعلقة بالوحدة والحرية والاشتراكية، ومقاومة إسرائيل والإمبريالية، بحيث تحولت سوريا إلى دولة فاشلة، وإلى مجتمع مفكك، وإلى بلد تتسلط عليه عائلة، بوصفه ملكية خاصة، إلى درجة شنها حرب إبادة، على مدى 14 عاما، ضد معظم السوريين، بشراكة حليفيها، إيران وروسيا، دفاعا عن سلطتها، ما نجم عنها مصرع مئات الألوف وتشريد الملايين وتدمير عمران كثير من مدن سوريا.

الآن يبدو أن ثمة محاولة للقطع مع تلك الحقبة المكلفة، لكن ذلك لا ينبغي أن يترك للأقدار أو للضرورات، فقط، وإنما ينبغي أن يتأسس على رؤية مفادها أن سوريا ليست مجرّد موقع استراتيجي، أو مختبر لحسابات القوّة، أو محض ساحة للصراعات الدولية والإقليمية، وأن الأولوية للعامل الداخلي على الخارجي، تبعا لمصلحة الشعب السوري، وحاجاته.

إسرائيل تبقى معضلة في السياسات والخيارات السورية في الحقبة الجديدة، مع ذلك فإن ما يخفف الأمر أولا واقع انتفاء خيار الصراع العسكري لعدم توفر معطياته الموضوعية والذاتية

يفترض ذلك، أيضا، نبذ نزعة المبالغة بموقع سوريا، وتعدد مواردها، مع معرفتنا بمحدودية مساحتها وعدد سكانها وإمكانياتها البشرية والاقتصادية. فالموقع، على أهميته، قد يفتح على فرص وعلى مخاطر، في حين لم تعد الموارد اليوم تعتمد على عدد السكان، أو ما تمنحه الطبيعة، بقدر ما تعتمد على النوعية، وحسن إدارة الموارد البشرية، والاستثمار في العلوم والتكنولوجيا، بحسب تجارب كثير من بلدان العالم، وضمنها، هولندا وسنغافورة وتايوان وكوريا الجنوبية على سبيل المثال.

ثمة مسألة أخرى، يجدر التأكيد عليها، تتمثّل في أن أدوار سوريا الخارجية يفترض أن تتأسس على عوامل قوّة مجتمعية داخلية وعلى قاعدة اقتصادية محكمة ونظام سياسي يتأسس على المواطنة الحرة والمتساوية، فهذا أقوى سلاح لأي دولة تتصرف كدولة، وليس فقط كسلطة، وفي واقع سوريا اليوم ثمة فجوة كبيرة يفترض ترميمها للوصول إلى هذا الهدف.

مفهوم أن سوريا اليوم إزاء حقبة جديدة، في تاريخها، على صعيد الدولة والمجتمع والسياسة، تقطع مع الخيارات، أو الأدوار الإقليمية الخارجية للنظام السلطوي السابق، إذ أضحت العلاقة مع الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، هي الأساس، بالتوازي مع الميل للحاضنة العربية ومركزها المملكة العربية السعودية، والتحالف مع تركيا كبديل عن التابعية لإيران. أيضا، الحديث هنا ليس عن خيارات، بين شرق وغرب، أو معسكر اشتراكي ورأسمالي، فهكذا مفاضلات انتهت منذ اختفى الاتحاد السوفياتي وخروج روسيا من عباءة الاشتراكية إلى رأسمالية مشوهة، علما أن الصين ذهبت أيضا باتجاه الرأسمالية.

فقط مسألة إسرائيل تبقى معضلة في السياسات والخيارات السورية في الحقبة الجديدة، مع ذلك فإن ما يخفف الأمر أولا واقع انتفاء خيار الصراع العسكري لعدم توفر معطياته الموضوعية والذاتية، مع إمكان الاحتفاظ بالحقوق، والبحث عن خيارات أخرى. وثانيا، إمكان تطوير ومراكمة معطيات عربية ودولية تدفع بإمكان تغيير مكانة إسرائيل في المنطقة وفي العالم، بما يسمح بتوفير شرط عربي ودولي لصالح الشعب الفلسطيني.

سوريا، طوال ستة عقود، وبناء على التجربة المرة والباهظة، معنية باستعادة ذاتها الوطنية، بعد أن تم تغييبها واستنزافها سلطويا بدعوى أدوار تاريخية وقومية وخارجية، لذا فهذه الذات بحاجة إلى الدولة، وإلى تحويل السوريين إلى شعب من مواطنين أحرار ومتساوين.

font change