نقاش في خلافات السوريين حول الدولة والفيدرالية

لا يوجد حل أمني للقضايا التي تمس إدارة المجتمع

نقاش في خلافات السوريين حول الدولة والفيدرالية

بات الصراع الداخلي في سوريا بين القيادة الانتقالية والأطراف المعترضة عليها، بعد انهيار نظام الأسد، يتمحور حول طبيعة النظام السياسي، وبشكل خاص حول المركزية أو اللامركزية، أو حول الدولة المركزية والدولة الفيدرالية.

وهنا بعض ملاحظات أساسية، رغم مشروعية تلك المسألة، كمساهمة في النقاش.

الملاحظة الأولى، تفيد بأن طرح قضية اللامركزية أو الفيدرالية يحجب، أو يوارب، على حقيقة مفادها أن الغرض الأساسي من الاستقطاب حول هذا الموضوع يعود إلى غلبة الطابع الهوياتي، الإثني والطائفي والمناطقي، على الصراع الداخلي الدائر في سوريا اليوم، على حساب الطابع السياسي، بالنظر إلى أن الأطراف المتصدرة في القوى المتصارعة هي من الطبيعة الهوياتية، أو التي تعلي من شأن الهوية الطائفية والإثنية والمناطقية، أكثر بكثير من كونها تمثل قوى أو أحزابا سياسية أو طبقية.

الملاحظة الثانية، التي يجدر لفت الانتباه إليها، تفيد بأن القوى التي تصارع من أجل الدولة الفيدرالية، أو اللامركزية، تقدم ذلك في أولوياتها على مسألة الديمقراطية، لأن القوى المعنية ("قسد"، و"تيار الهجري" في السويداء، والقوى المتضررة من انهيار نظام الأسد في الساحل) هي قوى غير ديمقراطية، أصلا، تبعا لمواقفها وسياساتها وخياراتها، وتبعا لعلاقتها مع الفئات التي تدعي تمثيلها، مع ملاحظة أن تلك القوى لم تكن تعبر عن ذاتها، في ظل سلطة نظام الأسد، ولم تكن تطرح تلك المسألة بهذه الحدة.

أما الملاحظة الثالثة، وربما الأهم، فتفيد بأن تغليب تلك القوى الصراع على مكانة الهوية في دولة الفيدرالية يحجب، أو يسبق، طلبها على إقامة الدولة والمواطنة، علما أنهما الركنان الغائبان، في حقبة الأسد (54 عاما)، وأنهما أكثر ما يحتاجه السوريون في كامل جغرافيا البلد، سيما في الظرف الراهن، أي ظرف استعادة الدولة، كدولة مؤسسات وقانون، وظرف تمكين المواطن، كي يصير السوريون شعبا بمعنى الكلمة، في واقع مواطنين أحرار ومتساوين.

على ذلك نحن هنا إزاء مشكلتين أساسيتين، أولاهما، أن نظام الأسد البائد نجح في تقويض إجماعات السوريين والتشويش عليها، ووضعهم في صورة نمطية وفقا لانتماءاتهم القَبْلية (الطائفية والمذهبية والإثنية والمناطقية والعشائرية)، وحشدهم في مواجهة بعضهم، وفق سياسة "فرق تسد". المشكلة الثانية ناجمة من واقع تعذّر قدرة السوريين على السيطرة على أحوالهم، إلى درجة بات معها التقرير بشأن سوريا المستقبل شأنا من شؤون القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة الأميركية وأطرافا إقليمية، على حساب السوريين. وهذا هو حال الصراعات الهوياتية، بخاصة التي تتخذ شكل الصراع المسلح، أو الميليشيات المسلحة.

الفيدرالية لا تعني تقسيم أي بلد، بل هي شكل أصوب لتنظيم وحدته، والحؤول دون تغوّل المركز على الأطراف في شؤون المكانة والسيادة والموارد، وهو ما يضمن توسيع المشاركة في الحكم على أساس الثقة المتبادلة

في هذا الإطار، تتحمل القيادة الانتقالية السورية، وباقي أطراف المعارضة السورية، مسؤولية الجدل بخصوص الفيدرالية واللامركزية الناشئ عن تخبّطها أو عدم توضيحها ماهية النظام السياسي القادم، وما هو مناسب لصوغ إجماعات جديدة من عدم ذلك، وضمن ذلك ما يسهم في الحؤول دون إعادة نظام أو علاقات الاستبداد والتهميش.

وفي الواقع، فإن رفض المحسوبين على القيادة الجديدة، والمحسوبين على المعارضة السورية التقليدية لفكرة الفيدرالية، إنما يصدر عن تسرّع ورؤية عاطفية وعصبية قومية وعن تحيّزات مسبقة، في حين يفترض بهذه الأطراف أن تفتح النقاش لا أن تغلقه، وأن تطرح كل الأسئلة، لا أن تشكك بها، لأن مستقبل سوريا مطروح للنقاش، ولأن السوريين كلهم معنيون بهذا النقاش والمساهمة بتقديم إجابات بخصوصه.

وبشكل أكثر تحديدا، في ما يخصّ الجدل حول فكرة الفيدرالية واللامركزية، يفترض إدراك أن الفيدرالية لا تعني تقسيم أي بلد، بل هي شكل أصوب لتنظيم وحدته، والحؤول دون تغوّل المركز على الأطراف في شؤون المكانة والسيادة والموارد، وهو ما يضمن توسيع المشاركة في الحكم على أساس الثقة المتبادلة.

لا يوجد حل أمني للقضايا التي تمس إدارة المجتمع لأن أي حل أمنى لا يجلب إلا التصدعات للجغرافيا وللمجتمع وللسيادة والدولة أيضا

ويستنتج مما تقدم أن الفيدرالية تعني تقاسم الصلاحيات لا تقسيمها، فثمة مركزية بما يخص شؤون الدولة السيادية إزاء الخارج وشؤون الدفاع والإدارة العامة للاقتصاد، وهذه كلها من شأن البرلمان الموحد والحكومة المركزية. أما إدارة الأمن الداخلي والتعليم والصحة وشؤون التنمية المحلية، فهي من اختصاص الولايات أو الحكومات المحلية.

النقطة الأهم هنا، وهي التي يمكن أن تخفف مخاوف البعض، فتفيد بأن الفيدرالية تقوم على أساس جغرافي (المحافظات مثلا)، وليس على أساس إثني/قومي، أو ديني/طائفي، لأنها في أي من حالات الهوية تخل بطابعها الديمقراطي، وتحول دون تمكين حقوق المواطنة المتساوية ودولة المواطنين، وهو ما حصل في لبنان وما يحصل في العراق.

طبعا، ثمة مشكلة في الخلط بين الدولة اللامركزية، وهي تتعلق بالشأن الإداري، في مجالات عديدة، وبين الدولة الفيدرالية التي تتقاسم السلطات، وفقا للدستور، كما أن ثمة تخبطا أو مغالطة في اعتبار الدولة الفيدرالية حالة انفصالية، في حين أنها غير ذلك، أو في حين تحتمل الدول المركزية الانفصال أكثر بكثير من الدول الفيدرالية، التي تتمتع بالمرونة، في الإدارة والتمثيل وتوزيع الموارد، علما أن أكبر وأقوى وأغنى الدول اليوم هي دول فيدرالية.

على ذلك لا ينبغي أن يذهب الخلاف مع أي جماعة هوياتية إلى خلط المفاهيم أو تشويهها، فانتهاج إسرائيل للديمقراطية، كنظام سياسي مثلا، لا ينبغي أن يحض على معاداة الديمقراطية. أيضا ملاحظتنا بشأن أن ثمة ظرفا غير مناسب لطرح معين، لا يعني عدم طرح هذا التصور للنقاش، لتطويره ووضعه في سياقاته التي تخدم صوغ إجماعات وطنية لقيام الدولة والمواطنة في بلد معين.

أخيرا، ثمة مسألتان يفترض إدراكهما في هذا المجال، وفي الشرط السوري تحديدا، الأولى أن الحديث عن سيادة دولة على الأرض يجب أن يتأسس على واقع من وحدة الشعب. والثانية، أنه لا يوجد حل أمني للقضايا التي تمس إدارة المجتمع لأن أي حل أمنى لا يجلب إلا التصدعات للجغرافيا وللمجتمع وللسيادة والدولة أيضا.

font change