مشكلة إسرائيل أنها رغم جبروتها وتفوقها عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً في الشرق الأوسط، إلا أنها محدودة القدرة في محاولاتها فرض ذاتها، أي إلى الدرجة التي تمكنها من تثمير ما حققته من غلبة على محيطها، كانتصارات ناجزة.
لا تكمن محدودية قدرة إسرائيل في صغر حجمها وعدد سكانها فقط، بل تكمن بشكل أكبر، في أنها مدينة بشكل كبير، بعناصر قوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة الأميركية؛ إذ إنها بمعزل عن الدعم الأميركي اللامحدود لا تستطيع تحقيق ما حققته على مختلف الأطراف، ولا الاستمرار في حرب متواصلة لأكثر من عامين، ولا تحمل خسائر اقتصادية وبشرية باهظة، ولا حتى التملص من الضغط والإدانة الدوليين.
وعموما فقد كشفت تلك الحرب مدى أو عمق الاعتمادية الإسرائيلية على الولايات المتحدة وتبعيتها لها، إلى درجة تصاعد المخاوف في إسرائيل من خطر انتهاء أو تقلص استقلالية إسرائيل، وانتقال القرار بشأن الحرب والسلم إلى البيت الأبيض، وضمن ذلك التقرير في مكانة إسرائيل والفلسطينيين والدولة الفلسطينية.
ويأتي ضمن ذلك صعود أطراف أخرى عربية وإقليمية، مثل السعودية وتركيا، مقابل ضمور مكانة إسرائيل في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، بدليل اتكاء الولايات المتحدة عليهما في مسألتي غزة وسوريا، وبدليل عدم المبالاة بقصة التطبيع، بخاصة بعد انحسار نفوذ إيران في المنطقة.
وكل ما تقدم يؤسس مستقبلا ربما للتعامل مع إسرائيل كدولة مثل غيرها، من دون استثناءات خاصة.
أيضا تتكشف محدودية قدرة إسرائيل في انكشافها على حقيقتها، كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية، وكدولة تمارس الإبادة الجماعية ضد شعب آخر، ما أدى إلى خساراتها في ما جهدت تروجه عن ذاتها.
فقد خسرت إسرائيل ادعاءها احتكار مكانة الضحية، بعد أن باتت تنتهج سياسة الإبادة الجماعية الوحشية، وخسرت صورتها كدولة ديمقراطية، بانتهاجها سياسة عنصرية إزاء الفلسطينيين، وخسرت اعتبارها كدولة ضعيفة وحيدة مستهدفة من جيرانها، فإذا بها تتهددهم جملة وتفصيلا.
إضافة إلى هذا وذاك، أو كمحصلة له، فقد وجدت إسرائيل نفسها أمام خطر العزل والنبذ، وتاليا نزع أو فقدان الشرعية على الصعيد الدولي، ما يذكر بالمآلات أو الديناميات التي أدت إلى انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا سابقا.
ضمن تلك الأخطار أيضا يأتي خطر تصدع الإجماعات اليهودية، إذ باتت إسرائيل بمثابة عبء سياسي وأمني وعسكري ومالي وأخلاقي على المجتمعات اليهودية في الغرب، كما على الدول والمجتمعات الغربية، وذلك مع فقدانها مكانتها كملاذ آمن لليهود، إذ هي المكان الوحيد في العالم، الذي يشكل خطرا على حياة اليهود، بسبب سياسات حكام إسرائيل.
الحرب التي كشفت جبروت إسرائيل كشفت محدودية قدرتها وقوتها، مع استحالة القضاء على الشعب الفلسطيني، أو إزالة قضيته من جدول الأعمال الدولي والعربي
على الصعيد الدولي، وكحكومات ومجتمعات، باتت إسرائيل تتموضع كدولة ضد القيم والمعايير والقرارات الدولية، وكعبء أمني وسياسي ومالي، بل وباتت بمثابة مزعزع أو مهدد لقيم الحرية والمساواة، بمحاولتها الترويج لفكرة التماهي بين المعاداة لإسرائيل ومعاداة اليهودية، لفرض ذاتها كاستثناء من المحاسبة والمسؤولية.
هكذا فإن الحرب التي كشفت جبروت إسرائيل كشفت محدودية قدرتها وقوتها، مع استحالة القضاء على الشعب الفلسطيني، أو إزالة قضيته من جدول الأعمال الدولي والعربي، إذ إن تجبّر إسرائيل على الفلسطينيين، من دون أي قيود، أدى إلى هذا الانقلاب الدولي عليها.
المشكلة فلسطينيا، وكذلك عربيا، تكمن في العطب المعشعش في أوضاعنا الداخلية، والتفكك في القوى، والضعف في كل المجالات، عدا المساحة والسكان والثروات الطبيعية، إذ إن حال العطب والضعف والتفكك لا تسمح أو لا تمكن الاستثمار المناسب في التناقضات والمشكلات في إسرائيل. أي إن الحال من بعضه، إن جاز التعبير.