حيثيات وحدود التعارض بين إسرائيل والولايات المتحدة

تراجع القدرة على اللعب في الهامش الأميركي

رويترز
رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب (يسار) يتحدث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البرلمان الإسرائيلي، الكنيست، في القدس في 13 أكتوبر 2025

حيثيات وحدود التعارض بين إسرائيل والولايات المتحدة

يجدر التأكيد بداية على أن العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل وطيدة وقوية وعميقة من مختلف النواحي، رغم ما يظهر من خلافات أو تعارض في الأولويات والرؤى والمصالح بينهما بين فترة وأخرى، وهذا ينطبق على التجاذبات الحاصلة الآن، ما يفترض عدم المراهنة أو التعويل عليها، وفقا للظروف والمعطيات الدولية والإقليمية الراهنة والمنظورة.

ما يجب إدراكه، أيضا، أن الولايات المتحدة هي الطرف الأقوى، بما لا يقاس، وهي المقرر من كل النواحي، ما يفترض تجنّب تفسير تلك العلاقة بالمؤامرة الكونية، أو بقدرات قدرية للوبي اليهودي في الولايات المتحدة، مثلما يفترض تجنّب الحديث عن أن إسرائيل مجرد دولة تابعة للولايات المتحدة أو بمثابة حاملة طائرات برّية لها.

في هذه المرحلة، تواجه إسرائيل كثيرا من المشكلات أو الأزمات الداخلية والخارجية، رغم قوتها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، ورغم ما ظهر من جبروتها في الشرق الأوسط، وفي مقدمتها على الصعيد الخارجي، أولا، انحسار مكانتها، وانكشاف صورتها كدولة استعمارية وعنصرية وكدولة إبادة جماعية، وتاليا تموضعها في مسارات النبذ، ونزع الشرعية، في الرأي العام الدولي، وعلى صعيد المجتمعات والحكومات، على غرار ما حصل مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا سابقا. ثانيا، تصدع علاقتها بيهود العالم، إذ تلاشت صورتها كملاذ آمن لليهود، كما انحسرت وكالتها كممثلة لضحايا "الهولوكوست" من اليهود، وهو ما ينعكس على تصدع الإجماعات الداخلية فيها أيضا. ثالثا، تموضعها كدولة تابعة للولايات المتحدة، أكثر من أي مرحلة مضت، فهذه باتت تقرر مسارات الحرب أو وقفها، وطبيعة اليوم التالي في غزة، وهي التي تقرر في شكل الكيان السياسي الفلسطيني، وفي مسألة الدولة الفلسطينية، وفوق كل ذلك فهي التي تتحكم بشكل هندسة المشرق العربي، وشكل العلاقات العربية-الإسرائيلية مستقبلا.

يهمنا هنا التركيز على التغيرات في العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة، التي باتت تأخذ الأمور بيدها، في شأن غزة، ومستقبل الفلسطينيين، وفي شأن الهندسة الإقليمية في المشرق العربي، ما قد ينجم عنه وضع إسرائيل عند حجمها، السياسي والاقتصادي والعسكري، والذي من شأنه كشف محدودية قواها، وإمكانياتها، في الشرق الأوسط.

ويلخص الصحافي الإسرائيلي اليساري جدعون ليفي ذلك في الآتي: "الإسرائيليون والفلسطينيون يمرّون بعملية متسارعة من تدويل الصراع، مجلس الأمن يتخذ قرارا يحدد اتجاها صحيحا، إسرائيل تعود بسرعة إلى حجمها الحقيقي، ومصير الفلسطينيين يُنتزع، شيئا فشيئا، من سيطرتها الحصرية... القوة العظمى عادت إلى كونها قوة عظمى، والدولة التابعة لها عادت إلى مكانها الطبيعي... لقد انتهى جنون العظمة، وتوقّف جنون الكبرياء لدى الدولة التي كانت تعتبر نفسها قادرة على كل شيء... هذا انتهى". ("هآرتس"، 20/11/2025).

أدت عملية "طوفان الأقصى"، إلى إرساء مسارين متناقضين، فهي من جهة بيّنت العطب في قوة إسرائيل ومحدودية قدراتها، ومن الجهة الأخرى كشفت أن فاعلية إسرائيل على مستوى المنطقة بحاجة إلى دعم الولايات المتحدة الأميركية

بين الدورين الإسرائيلي والإيراني

كانت إسرائيل، بعد حرب يونيو/حزيران (1967)، تبدو أكبر من حجمها، ما عزز مكانتها في السياسة الأميركية في المنطقة، لكن تلك المكانة، وبما يخص التحكم في الشرق الأوسط، تراجعت بعد صعود دور إيران، بخاصة إثر الغزو الأميركي لأفغانستان (2001) ثم للعراق (2003)، مع إسقاط نظام صدام حسين (2003). وقد نجم عن ذلك تبلور وجهة نظر في الإدارة الأميركية تفيد بإمكان الاستثمار في سياسات إيران، في زعزعة بني الدولة والمجتمع في بلدان المشرق العربي، عن طريق الميليشيات المسلحة، وعبر إثارة النزعة الطائفية، وتاليا ابتزاز الدول العربية بالخطر الإيراني، وهي أهداف تتقاطع مع مصالح إسرائيل.

ومعلوم أن هذا الميل الأميركي بالتخفّف من الدور الإسرائيلي، وإعطاء مساحة أكبر للدور الإيراني، أتى بعد الانتهاء من عالم القطبين، والحرب الباردة، وتاليا هيمنة الولايات المتحدة على النظامين الدولي والإقليمي، وهي التحولات التي فتحت على إرساء نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، وعقد مؤتمر مدريد لـ"السلام" (1991).

تأسيسا على ذلك، فقد أدت عملية "طوفان الأقصى" (أواخر 2023)، إلى إرساء مسارين متناقضين، فهي من جهة بيّنت العطب في قوة إسرائيل، ومحدودية قدراتها، ومن الجهة الأخرى كشفت أن فاعلية إسرائيل، على مستوى المنطقة، بحاجة إلى دعم الولايات المتحدة الأميركية، وتغطيتها لها، ماليا وتكنولوجيا واستخباراتيا وعسكريا وسياسيا.

أيضا، في حين أن أحد ارتدادات تلك العملية تمثل بتعزيز مكانة إسرائيل إقليميا، أو كاللاعب الرئيس في الإقليم، نتيجة تحجيم نفوذ إيران في بلدان المشرق العربي، وإعادتها إلى حجمها، خلف حدودها، فإنها أضعفت مكانتها في السياسة الخارجية الأميركية، لصالح الدول العربية، التي باتت أكثر حرية في خياراتها، وفي مساومة الولايات المتحدة على مصالحها، بعد زوال خطر التغول الإيراني في المنطقة، كما أن هذه التطورات عززت مكانة تركيا على الصعيد الإقليمي على حساب إسرائيل.

هكذا باتت إسرائيل، بحسب الصحافية الإسرائيلية آنا برسكي، "قواعد لعب في الشرق الأوسط الجديد... الدول العربية المعتدلة تعمق علاقاتها مع الولايات المتحدة وتكيف نفسها مع مبنى أمني إقليمي جديد. وفي الوقت الذي تغرق فيه إسرائيل في أزمات سياسية مستمرة وفي جدالات داخلية... ألا تزال واشنطن ترى في إسرائيل ذخرا استراتيجيا لا بديل له، أم كدولة مهمة– لكنها لم تعد مركز ثقل السياسة الأميركية في المنطقة؟ في نظر الإدارة الأميركية الحالية، ربما يعد استقرار السعودية والتعاون معها وكبح أي نفوذ إقليمي آخر، أمرا مهما اليوم... الولايات المتحدة تعمل انطلاقا من رؤية استراتيجية شاملة للشرق الأوسط، وليس انطلاقا من زاوية النظر الإسرائيلية فقط". ("معاريف"، 19/11/2025).

ما بين أميركا وإسرائيل

إذن، إلى جانب مخاوف إسرائيل الناجمة عن مسار نزع الشرعية عنها، ثمة مسار آخر، لا يقل خطورة عليها، يتمثل في تآكل استقلاليتها، وتراجع قدرتها على اللعب في الهامش الأميركي، كما اعتاد نتنياهو على الفعل، بعد أن باتت تظهر كعبء أمني وسياسي ومالي وأخلاقي على الغرب، وضمنه على الولايات المتحدة، وحتى على المجتمعات اليهودية في الغرب، من كونها باتت تتحدى قيم الحرية والديمقراطية والكرامة للمجتمعات الغربية، بفرض ذاتها كاستثناء على تلك القيم، وادعائها أنها وكيلة ضحايا "الهولوكوست"، ما يمنحها استثناء بانتهاكها حرية الفلسطينيين وكرامتهم، إلى درجة قيامها بحرب إبادة جماعية وحشية ضدهم، طوال عامين، وأيضا، بمحاولتها التحكم بحدود حرية الرأي في الغرب، بحجة أن أي انتقاد لها هو نوع من اللاسامية، ومعاداة اليهودية، وهي الادعاءات التي أدت إلى زعزعة مكانة إسرائيل، وصورتها، كما زعزعت مكانتها كممثلة ليهود العالم، وكملاذ أمني لهم.

كيتلين أوكس- رويترز
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال كلمته في الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، الولايات المتحدة، في 26 سبتمبر

حتى في الولايات المتحدة ثمة ما يفيد بوجود تطورات، أو تحولات، في إدراكات الأميركيين، ناجمة عن انكشاف إسرائيل كدولة استعمارية وعنصرية، وتستخدم القوة المفرطة لتكريس احتلالها لأراضي الفلسطينيين، والسيطرة عليهم، من دون مبالاة بالمصالح الأميركية في الشرق الأوسط، وبالقيم المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ويأتي ضمن ذلك تراجع نسبة التأييد لإسرائيل في المجتمع الأميركي، لا سيما في الأوساط المؤيدة للحزب الديمقراطي، بخاصة في أوساط الشباب.

إضافة إلى ما تقدم، ثمة قلق في إسرائيل من ميل متزايد في الولايات المتحدة لأخذ حلفائها العرب بخاصة مصر والسعودية، والإقليميين بخاصة تركيا، بعين الاعتبار في سياساتها الشرق أوسطية، وهو ما كان واضحا في خطة ترمب، بشأن وقف حرب الإبادة في غزة، وبإدخال البعد الفلسطيني في الهندسة المستقبلية للمنطقة، بعد إدخال إصلاحات على السلطة الفلسطينية، وهذا ينطبق على إشراك تركيا في القوات اللازمة لليوم التالي في غزة، وتسليح السعودية، وإقامة علاقات متميزة معها، على نحو ما ظهر بشكل لافت، وغير مسبوق، في زيارة ولي عهد المملكة العربية السعودية إلى واشنطن، مؤخرا.

حتى في الولايات المتحدة ثمة ما يفيد بوجود تطورات، أو تحولات، في إدراكات الأميركيين، ناجمة عن انكشاف إسرائيل كدولة استعمارية وعنصرية، وتستخدم القوة المفرطة لتكريس احتلالها لأراضي الفلسطينيين

ويرصد الصحافي الإسرائيلي أفنير غولوب تلك التطورات في الآتي: "يرى المحافظون... ومؤثرون من اليمين الأميركي أن إسرائيل في عيدها الثمانين ليست إسرائيل السابقة في الثمانينات من القرن الماضي، فهي دولة قوية وغنية، وفي رأيهم من غير المنطقي أن تبقى "تحت الرعاية" الأميركية، وتحتاج إلى مساعدات قد تضرّ باستقلاليتها، ولا تقدم منفعة كافية لأميركا. وفي الجانب الديمقراطي، تراجعت شعبية إسرائيل بشكل كبير خلال الحرب، ومعها تراجعت أيضا الرغبة في تجديد المساعدات من دون ربطها بتغيير السياسة الإسرائيلية بشأن الساحة الفلسطينية... "أسهم" إسرائيل آخذة في التراجع، كما أن خسارة إسرائيل مكانتها، كموضع إجماع بين الحزبين لمصلحة جبهة معادية عابرة للأحزاب تتألف من تقدميين انفصاليين وشبان، تهدد بجعل إسرائيل قضية خلافية على أبواب سنة انتخابية مزدوجة، وأن عزلة إسرائيل الدولية تعمّق تبعيتها الاستراتيجية للولايات المتحدة، فضلا عن أن الضرر الذي لحِق بمكانتها الإقليمية جرّاء الحرب أدى إلى تهميش مكانة تل أبيب، كبوابة  إلى واشنطن، بالنسبة إلى الدول العربية. ("يديعوت"، 19/11/2025).

عقدة غزة

لعل التدخل الأميركي المتزايد في قطاع غزة، مع أثره على مستقبل الفلسطينيين، أكثر ما يثير القلق لدى إسرائيل، إذ بدا الرئيس ترمب كصاحب القرار بوقف حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، وإفراج "حماس" عن الأسرى الإسرائيليين في غزة، وكصاحب المبادرة المتعلقة باليوم التالي، المتضمنة وقف الحرب وإدخال المساعدات وإعمار غزة والوعد بدولة فلسطينية، وهو الذي جلب لها موافقة الأطراف العربية والإقليمية والدولية المعنية، وضمنها السعودية ومصر والأردن وقطر وتركيا وإندونيسيا وباكستان، في حين بدت الحكومة الإسرائيلية كطرف ثانوي، رغم تضمين تلك الخطة معظم مطالبها.

بل إن ترمب بات هو المتحكم في هندسة النظام الإقليمي، من دون الصلة تماما بحسابات إسرائيل، إذ إن وقوف الولايات المتحدة مع إسرائيل هي التي مكنتها من تقويض "حماس" و"حزب الله"، في لبنان، وصولا إلى إضعاف نفوذ إيران في المشرق العربي، وإعادتها خلف حدودها، بتدخلها في الحرب ضدها، وضد منشآتها النووية (يونيو 2025)، وهي المعادلات التي أدت إلى انهيار النظام السوري بطريقة مفاجئة (أواخر 2024)، بمعنى أن كل تلك التغييرات الإقليمية، وإن تقاطعت في معظمها مع سياسات إسرائيل، فإنها بينت حدود قوتها، ثم إنها تحققت بقوة الولايات المتحدة، السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية. والاستخباراتية. وكان ترمب قد صرح مرارا، متفاخرا، بأن "ولايته الثانية أعادت تشكيل المنطقة خلال أقل من عام، عبر إضعاف إيران، وضرب قيادة "حزب الله"، ورحيل بشار الأسد وصعود حكومة سورية جديدة". ("التايم"، 22/10/2025). 

بات ترمب هو المتحكم في هندسة النظام الإقليمي، من دون الصلة تماما بحسابات إسرائيل

وفي التفاصيل، أيضا، بدا إن إسرائيل باتت تفقد السيطرة في غزة، طبعا لصالح الولايات المتحدة، ومشروعها بشأن "ريفييرا"، غزة، ومحاولتها الوجود الميداني في القطاع، بخاصة مع إنشاء واشنطن قاعدة عسكرية ضخمة، باسم "مركز التنسيق المدني-العسكري" فيه، في كريات غات جنوب إسرائيل، بقيادة قائد الجناح البري للقيادة المركزية الأميركية، الفريق باتريك فرانك، ومع توالي زيارات الوزراء الأميركيين، ومبعوثي الرئيس ترمب، إلى إسرائيل، كنائب الرئيس جيه دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، والمبعوثين ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، لإبقاء الضغط على إسرائيل، والتأكد من التزامها بخطة ترمب. (موقع "معهد القدس للاستراتيجية والأمن"، 11/11/2025). وما يزيد من الطابع الدراماتيكي لهذا التطور إعلان الرئيس ترمب، مرارا، اعتزامه ترؤس "مجلس السلام"، المزمع تشكيله قريبا للإشراف على وضع غزة مستقبلا. ("التايم"، 22/10/2025). وفي هذا السياق بدا لافتا حديث الرئيس ترمب عن أن قرار إطلاق الأسير السياسي الفلسطيني مروان البرغوثي يعود له، وعن تحذيره بنيامين نتنياهو من الاستمرار في الحرب، محذرا إياه من مواجهة عزلة عالمية.

REUTERS
صورة جوية لخيام نازحين قرب مبانٍ مدمرة في غزة بعد انسحاب القوات الإسرائيلية، أكتوبر 2025

السياق التاريخي للخلافات

منذ إقامة إسرائيل (1948)، بدعم من الدول الغربية، مر على الولايات المتحدة 15 رئيسا، قدم جميعهم كل أشكال الدعم، السياسي والاقتصادي والأمني لإسرائيل، لضمان أمنها وتفوقها النوعي على جوارها.

بيد أن تلك العلاقة الخاصة والفريدة، من نوعها، إلى درجة اعتبار البعض أن إسرائيل بمثابة الولاية الأميركية الـ51، مع امتيازات لها أكثر من معظم الولايات، ومع اعتماديتها على الولايات المتحدة، اقتصاديا وماليا وتكنولوجيا واستخباراتيا وعسكريا، إلا أنها ظلت في بعض المحطات تحاول الخروج عن السياسة الأميركية الشرق أوسطية، أو معاندتها.

هذا يفيد بأن إسرائيل ليست دولة تابعة للولايات المتحدة، بمعنى الكلمة، ولا مستقلة بسياساتها، تماما، وهي معادلة معقدة، بحكم تداخل كثير من الاعتبارات السياسية والثقافية والدينية، والمداخلات الإقليمية والدولية. 

وكانت علاقات إسرائيل، منذ قيامها، والولايات المتحدة قد شهدت كثيرا من التوترات، بسبب إدراك إدارة البيت الأبيض أن إسرائيل لا تسهل عليها سياساتها في الشرق الأوسط، أو أنها تتصرف بشكل غير مسؤول بما يهدد أمن إسرائيل، وتاليا استقرار المصالح الأميركية.

حصل ذلك حين أجبرت الولايات المتحدة إسرائيل على الانسحاب من سيناء ومن قطاع غزة (1956)، بعد العدوان الثلاثي على مصر، وذلك في ظل إدارة دوايت أيزنهاور (1953–1961)، الذي يعتبر أول رئيس اصطدم مع سياسات إسرائيل.  كما حصل لدى عقد "اتفاق كامب ديفيد" مع مصر (1978)، في ظل إدارة الرئيس جيمي كارتر (1977–1981)، الذي ضغط على مناحيم بيغن للانسحاب من سيناء وتفكيك المستوطنات منها.

وقد تكرر ذلك، في عهد الرئيس بوش الأب (1989-1993)، عندما شنّت الولايات المتحدة الحرب لإخراج الجيش العراقي من الكويت "1991"، وممانعتها أي تدخل من إسرائيل، التي قصفت من قبل الجيش العراقي، وهو مؤشر على استغناء الولايات المتحدة عنها، لصون الاستقرار في المنطقة. وأيضا، عندما أجبر الرئيس بوش إسحق شامير، رئيس وزراء إسرائيل، حينها، على المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام "1991" برغم معارضته له، وتحت التهديد بوقف ضمانات القروض، علما أن الرئيس بوش ووزير خارجيته جيمس بيكر اصطدما كثيرا مع حكومة "الليكود" في إسرائيل على خلفية الموقف من المستوطنات.

إسرائيل ليست دولة تابعة للولايات المتحدة بمعنى الكلمة، ولا مستقلة بسياساتها تماما، وهي معادلة معقدة بحكم تداخل كثير من الاعتبارات السياسية والثقافية والدينية والمداخلات الإقليمية والدولية

تجلى ذلك، أيضا، في ظل إدارتي باراك أوباما (2009–2017)، ثم في ظل إدارة جو بايدن (2021-2025)، إذ شهدت العلاقات مع إسرائيل في ظل تلك الإدارات أعلى درجات التوتر، في مواجهة حكومة نتنياهو، الذي كان يلعب على الخلافات الداخلية الأميركية، بين الديمقراطيين والجمهوريين، وكانت تلك الخلافات تتمحور حول طلب تجميد الاستيطان، ووقف التغيير الديموغرافي والعمراني في القدس والضفة الغربية، وحول الاتفاق النووي مع إيران 2015 الذي عارضته إسرائيل بشدة، وهي زادت في عهد بايدن، الذي عارض التعديلات القضائية داخل إسرائيل، ومحاولة نتنياهو تغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية على طابعها كدولة ديمقراطية، مع سعيه تهميش السلطة القضائية، والتحكم بكل السلطات في إسرائيل.

أما في عهد ترمب، ففي ولايته الأولى (2017-2021) تميز بدعمه المطلق لإسرائيل من كل النواحي، وصولا حتى لسحب رعاية الولايات المتحدة للسلطة الفلسطينية و"اتفاق أوسلو"، وشرعنة المستوطنات، وضم الجولان، وإغلاق "منظمة التحرير" في واشنطن، ووقف دعم "الأونروا".

وفي ولايته الثانية، قدم ترمب دعما عسكريا وتكنولوجيا واستخباراتيا وسياسيا وماليا هائلا لإسرائيل، فقط بعد تغير الوضع الإقليمي.

وبعد انهيار محور "المقاومة والممانعة"، وضمنه إضعاف نفوذ إيران الإقليمي بعد حرب الـ12 يوما (يونيو 2025)، وتاليا صعود دور المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا، بدأت التوترات بين الطرفين، ولكن هذه المرة لم يستطع نتنياهو التمرد على ترمب، الذي لجمه تماما.

REUTERS/Amir Cohen
مشهد للجزء الجنوبي من الضفة الغربية المحتلة والجدار الفاصل كما يظهر قرب كيبوتس لهاف جنوب إسرائيل، 23 يناير 2025

بين ترمب ونتنياهو

بيد أن ما يفترض ملاحظته هنا، أولا، أن السياسة الأميركية باتت أكثر تحررا في سياساتها في المنطقة، بعد ضمانها أمن إسرائيل، على المدى الاستراتيجي، وبعد ظهور حلفاء جدد لها في المنطقة.

ثانيا، إن تضاؤل مكانة إسرائيل في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، بدأ بعد انتهاء عالم الحرب الباردة، وعالم القطبين، أي بعد هيمنة الولايات المتحدة على النظامين الدولي والإقليمي، والذي تواكب مع الغزو العراقي للكويت، وذلك في ظل ولاية بوش الأب. ثالثا، إن الخلافات الأميركية-الإسرائيلية، المحدودة والمسيطر عليها، ولكن المهمة، شملت الإدارات الديمقراطية والجمهورية (أيزنهاور وبوش الأب وترمب حاليا)، أي إن تلك العلاقات ليست مطلقة أو مخلدة، وإنما هي ترتبط برؤية الولايات المتحدة لمصالحها وأولوياتها وصورتها الدولية والإقليمية، علما أن أول قرار صدر عن مجلس الأمن الدولي بشأن حق الفلسطينيين بإقامة دولة لهم حصل في ظل إدارة الرئيس بوش الابن (القرار 1397، صدر في 12/3/2002).

رابعا، يلفت الانتباه أن الخلافات الإسرائيلية الأميركية تصاعدت باضطراد منذ مجيء نتنياهو إلى رئاسة حكومة يمينية متطرفة، من اليمين القومي والديني، منذ عام 2009، أي منذ 16 عاما، وهي متطرفة في اتجاهين، خارجي، ضد الفلسطينيين، وضد التحول إلى دولة عادية في المنطقة، تبعا لرفضها حتى فكرة السلام مقابل التطبيع (رفض المبادرة العربية للسلام في مؤتمر القمة في بيروت 2002)، وسعيها إلى فرض "السلام بالقوة"، ومصادرة حقوق الفلسطينيين حتى في الأراضي المحتلة (1967)، بالتوازي مع تطرفها بسعيها تحويل إسرائيل إلى دولة دينية وقومية يهودية على حساب طابعها كدولة علمانية وديمقراطية، مع مصادرة السلطة القضائية، والتحلل من قيم الحداثة الغربية، بتأكيد طابعها كدولة يهودية عنصرية، وشنها حرب إبادة ضد فلسطينيي غزة، وسعها إلى التضييق على فلسطينيي الضفة.

الآن، يبدو أن ترمب، يستثمر في التطورات الدولية والإقليمية والعربية، لفرض بصمته، وتاليا لفرض رؤيته لهندسة المنطقة، والتي لا تتقاطع بالضرورة مع ما تريده حكومة المتطرفين في إسرائيل، في مؤشر آخر، على تضاؤل مكانة إسرائيل على الصعيد الدولي، وفي ذهنه مصلحة الولايات المتحدة أولا، قبلنا، وقبل أي أحد آخر.

font change