ترفع الشعوب في الأزمات شعارات متنوعة، وتختلف الأيديولوجيات التي تعزز العقيدة القتالية التي تراها أجدر للدفع نحو تحقيق تلك المطالب، ففي الصين مثلا واجه الشعب الصيني الاحتلال الياباني الذي بدأ بغزو منشوريا سنة 1931 بفصائل متنوعة من اليمين إلى اليسار، من جماعات استلهمت قتالها بعقيدة دينية مثل "الجيش الحديدي المظفر" الذي قاده مسلم صيني يدعى "ما بن تشاي"، إلى قائد مثل ماو تسي تونغ الذي تزعم "الحزب الشيوعي الصيني"، حتى انضوى الجيش الحديدي تحت قيادة "الحزب الشيوعي" لتأسيس الصين الحديثة!
وفي روسيا مطلع القرن العشرين كان هناك فصائل متنوعة ثارت ضد القيصر الروسي، منها وحدات مسلمة، أخرى تعترف بالمسيحية، وأحزاب ليبرالية مثل "الحزب الدستوري الديمقراطي" وأحزاب يسارية مثل "الاشتراكيون الثوريون"، و"حزب العمل" الذي انقسم إلى مناشفة وبلاشفة، حتى تأسس الاتحاد السوفياتي بسيطرة البلاشفة على الحُكم، وفي مرحلة الثورة في إيران 1979 لم يكن الخميني وأنصاره هم وحدهم الذين يحركون الشارع، بل كانت هناك أحزاب تناقض الشعارات الخمينية، مثل "حزب تودة الشيوعي" الذي تأسس سنة 1941، وكان يُعد الحزب الأكثر تنظيما، وقد دعم الإسلاميين ظنا منه أنه سيصل إلى دولة اشتراكية بهذا، لكن الأحزاب الشيوعية تعرضت للقمع في الثمانينات حتى انفرد الخميني بالسلطة.
والشاهد في هذا أن الاختلاف في الأزمات في الرؤى السياسية والعقائد الأيديولوجية متوقع، وهو جزء من طبيعة الظرف السياسي الذي تنشأ فيه، ولذلك فإن سوريا ليست شيئا فريدا عن عالم الاضطراب والثورة في اختلاف الرؤى والصعوبات التي تواجه الدولة في تأسيسها، وفي سنة 2019 خلال المؤتمر الصحافي السنوي في موسكو تعرض الرئيس الروسي بوتين لشخصية لينين الذي قاد البلاشفة في مرحلة الثورة لتأسيس الاتحاد السوفياتي، فقال: "لم يكن لينين رجل دولة، إنما كان ثوريا"، وهذا بالضبط ما قاله الرئيس السوري أحمد الشرع وأعلنه على مسامع كثير من الجماعات التي انضوت تحت خط الثورة السورية بأن عهد الثورة انتهى، وبدأ عهد تأسيس الدولة.
ويبدو أن عددا من تلك الجماعات وأنصارها لم يستوعبوا ما يعنيه بكلامه، لذلك ما إن انضمت سوريا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش"، وحرصت على إقامة علاقات ودية مع الولايات المتحدة الأميركية، حتى بدأت أصوات من لا يزالون يعيشون في مرحلة "الثورة" أو قل: يعتاشون على خطابات تلك المرحلة! فوصل بعضهم إلى تكفير الحكومة السورية والرئيس السوري شخصيا، مواقع أطلقت فتاوى تحرم هذا الفعل، وأخرى تصفه بموالاة الكفار ونحو ذلك، وهي المصطلحات التي انتشرت بين عدد وافر من التيارات في مرحلة الثورة.
من أهم ما يمكن أن تستفيد منه سوريا اليوم الخبرة السعودية في التعامل مع الأفكار المتطرفة والجماعات التي تعيق تقدم المجتمع والدولة، سواء في إعداد المناهج والتعليم، أو في مواجهة الأفكار المتطرفة التي ترفع اليوم في وجه سوريا شعارات الحاكمية
على أن تمييز مرحلة تأسيس الدولة عن الثورة ضروري، وحين لم تستطع إيران أن تفرق بين مرحلة الدولة والثورة، وعملت على فكرة تصدير الثورة كانت قد وضعت نفسها في خيار سياسي مندفع أدخلها في دوامة من الحروب والصراعات دفعت ثمنها من مقدرات البلاد وشبابها كالحرب مع العراق، ثم تورطها في سوريا، وغير ذلك، وسوريا اليوم في موقف تمييز مرحلة الثورة عما بعدها، فلا تريد أن تتوقف البلاد عند نقطة محددة فحسب، ولا تريد أن تكون مثل كوبا التي بقيت إلى اليوم حبيسة لمرحلة السبعينات، باقتصاد متهالك وشوارع تشبه متحفا للسيارات القديمة، إذ أبقت على شعارات الثورة لمدة أطول من اللازم فتعطلت عن الحركة للأمام.
وفي مرحلة الثورة يختلط الثوري الحقيقي بأمراء الحرب، بالزعامات الانفصالية، لكن تتميز تلك الرؤى في مرحلة الدولة، وفي هذه المرحلة من تأسيس الدولة السورية، وإقامتها لعلاقاتها وحربها على الإرهاب وما يُهدد الاستقرار، فإنها في مواجهة واضحة مع تلك الشعارات التي تريد من سوريا أن تعلن حربا على العالم، وهي في الواقع لا تريد سوى جلب العالَم للحرب على سوريا! نعم تلك الشعارات انتهى عهدها، وكل القنوات التي أوصلت إليها ينبغي أن يعاد النظر فيها، مثل الإطلاقات التي اعتمدت عليها جماعات مثل "الإخوان المسلمين"، والفروع الجهادية التي تمثل الجانب العملي للشعارات النظرية الإخوانية.
وإن من أهم ما يمكن أن تستفيد منه سوريا اليوم الخبرة السعودية في التعامل مع الأفكار المتطرفة والجماعات التي تعيق تقدم المجتمع والدولة، سواء في إعداد المناهج والتعليم، أو في مواجهة الأفكار المتطرفة التي ترفع اليوم في وجه سوريا شعارات الحاكمية، وتحرف المواقف لتجعلها موالاة لغير المسلمين على المسلمين، ونحو ذلك. وهي الشعارات نفسها التي نجحت السعودية في القضاء عليها في التسعينات، وأكملت الإجهاز عليها مع مجيء الأمير محمد بن سلمان، لاستبدال كل الأطروحات التي تسللت في مرحلة الثورة بإنشاء عقائد قتالية مندفعة، لا تتناسب مع مرحلة تأسيس الدولة السورية حاليا.