بعد عقود من وضع سوريا بالأسر لصالح مفاهيم بالية وشعارات لم يدفع ثمنها سوى السوريين دون أن تعود بالنفع على أحد سوى نظام الأسدين، تتجلى أهمية التحولات الكبيرة التي رافقت سقوط نظام بشار الأسد، تحولات تبدو بحجم التحولات التي مر بها أحمد الشرع نفسه في رحلته من إدلب إلى دمشق وصولا إلى الرياض وأنقرة وباريس وموسكو وواشنطن وغيرها وقريبا بكين ولندن.
في تعليقه على زيارة الشرع إلى واشنطن ولقائه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ذكر المبعوث الأميركي إلى سوريا توم باراك في بيان أن الزيارة تمثل نقطة تحول حاسمة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وفي "التحول الملحوظ الذي شهدته سوريا من العزلة إلى الشراكة". كما أكد باراك في بيانه على ضرورة "الإلغاء الكامل لقانون قيصر لإعطاء سوريا فرصة حقيقية والسماح للشعب السوري وجيرانه الإقليميين ليس فقط بالبقاء، بل بالازدهار أيضا".
رغم الانفتاح العربي والإقليمي والغربي على سوريا الجديدة، ورغم الخطوات التي تتخذها حكومة الشرع في الاتجاه الصحيح وليس آخرها الانضمام إلى التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، إلا أن العقوبات المفروضة بموجب "قانون قيصر" لا تزال عائقا أمام قيام شراكة مستدامة في شتى المجالات الاقتصادية والتي على ما يبدو تأخذ الحيز الأكبر من اهتمام الشرع ولقاءاته ووزرائه في زياراتهم ولقاءاتهم مع المسؤولين العرب والأجانب.
ويبدو أن سوريا أمام أسابيع حاسمة تتعلق بالتصويت على إلغاء قانون قيصر، ولكن إن كنت من مؤيدي الشرع أو معارضيه لا يمكن إلا أن ترى أن حجم التغيرات التي حصلت في سوريا كبيرة وكان بعضها يبدو شبه مستحيل بالنسبة لكثيرين، على الصعيد الخارجي أن تسبق زيارة واشنطن ولقاء ترمب زيارة إلى موسكو التي لجأ إليها بشار الأسد والاستقبال اللافت الذي حظي به من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ليس بالأمر الهامشي.
وصحيح أن بوتين شريك بالدم السوري، فكيف سيكون شريكا أو صديقا لسوريا ما بعد الأسد؟ يدرك الشرع أهمية العلاقات المتوزانة، هو لا ينتقل بسوريا من محور إلى محور بل يقوم بخطوات يرى أنها تصب في مصلحة سوريا المستقبل رغم الماضي الأليم جدا الذي جمع سوريا مع روسيا.
أن تأتي زيارة وزير الخارجية اليوم إلى الصين على أن يزورها الشرع في وقت لاحق أيضا ليس بالأمر العادي، في أقل من عام تمت زيارة أو الإعلان عن نية زيارة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن.
اليوم قبل الغد يجب استكمال المجلس التشريعي وانطلاق عجلة التشريعات والقوانين التي تحتاجها سوريا في رحلتها نحو المستقبل
ما تشهده سوريا ليس فقط كتابة التاريخ بل صناعة المستقبل، وصناعة المستقبل الذي يليق بسوريا وتاريخها وموقعها، ولكن صناعة المستقبل لا تتم فقط بالانفتاح على الشرق والغرب ولكن بالانفتاح على السوريين أولا.
اليوم قبل الغد يجب استكمال المجلس التشريعي وانطلاق عجلة التشريعات والقوانين التي تحتاجها سوريا في رحلتها نحو المستقبل، نحتاج إلى تشكيل لجنة من الخبراء الدستوريين والقانونيين والبدء بكتابة دستور دائم للبلاد، سوريا تحتاج إلى أن ينغمس جميع أبنائها وينشغلوا في إعادة بنائها.
ما تحقق خلال الأشهر الأحد عشر الماضية يبدو كحلم ولكنه حقيقة، قبل 11 شهرا عدت إلى بيتي في طرطوس للمرة الأولى بعد غياب قسري لمدة 19 عاما، كان التيار الكهربائي متوفرا لمد 45 دقيقة كل 24 ساعة، اليوم أكتب من طرطوس وقد مر على وجودي فيها 20 ساعة كانت الكهرباء متوفرة طيلة الوقت، العودة حلم تحقق والكهرباء أيضا تحسنت، ولكن هذا لا يكفي، ما زال الكثير والكثير من العمل أمام السوريين إنجازه، وأقول السوريين وليس الحكومة فقط لأن الشراكة بإعادة بناء سوريا حق- وليس فقط واجب- للسوريين.
والعودة والكهرباء والبناء والانفتاح، ورغم أهمية كل بند من هذه البنود، فإن "العدالة" هي الأساس، مسار العدالة الانتقالية هو الأكثر أهمية، هو أساس المصالحة الوطنية المجتمعية وتحقيق الأمن، هو حق للضحايا وعائلاتهم، وهو ضرورة لمنع أي عابث من استغلال غياب العدالة لتحقيق غايات لا تصب في مصلحة سوريا ووحدتها.