سينما المغربي علي الصافي... كيف تصبح الصورة ذاكرة مفتوحة؟

الأرشيف أداة سردية بديلة من الخيال

علي الصافي

سينما المغربي علي الصافي... كيف تصبح الصورة ذاكرة مفتوحة؟

يعد المخرج السينمائي وكاتب السيناريو المغربي علي الصافي (1963) الذي اختاره الفريق الفني لمهرجان السعيدية السينمائي على رأس لجنة تحكيم الدورة الأخيرة منه، في طليعة الوجوه السينمائية العربية التي استطاعت أن تضع بصمتها الخاصة في مجال السينما الوثائقية.

ذلك أن أفلامه تتيح للمشاهد فهم ما يجري على تضاريس صناعة الفيلم الوثائقي.

فمنذ البداية تحطم أفلامه كل اليقينيات التي كونها المشاهد حول الأفلام الوثائقية، بوصفها أفلاما تصور بعض الأحداث بطريقة تلقائية حيث تغدو الكاميرا عبارة عن كائن يتجول في متاهات الواقع، ملتهمة كل ما تجده أمامها من أحداث ومشاهد وأصوات وحركة، بغية تقديم صورة وثائقية مركبة، قد يستغرق التفكير في إعدادها وترويضها أكثر من المدة التي يصور فيها المخرج مشاهده ويقبض عليها داخل إطار بصري.

فهي صورة ذات خطاب بصري أصيل، ومبنية على أفكار في مجملها تحررية، إذ يشعر المشاهد أنه أمام أفلام وثائقية، تبعث برسائل عميقة الى المجتمع، بحكم ما تهجس به من رغبة دفينة في تفكيك التاريخ وإدانة الواقع بكل ما يحبل به من قبح وهشاشة.

وعي بصري مدهش

أدرك صاحب "دموع الشيخات" أن الوثائقي، يعتبر أحد أخطر الأشكال الفيلمية، فهو أصعب من الفيلم التخييلي، وذلك لكونه يفرض على المخرج أن يجمع مادته ويوضب صوره ومشاهده، حتى يقدم شريطا وثائقيا له القدرة على تفجير بعض الظواهر الاجتماعية والوقائع السياسية التي يحفل بها المجتمع، لا سيما أن هناك وثائقيات تأخذ من المنهج الاستقصائي الحفري أداة للكشف عن العيوب والمآزق والتصدعات، حين يتعلق الأمر بالوطن والمال العام والتجسس وغيرها من الموضوعات التي تشكل مادة خصبة للفيلم الوثائقي.

بهذه الطريقة يغدو الوثائقي في تجربة علي الصافي، عبارة عن مختبر بصري قادر على خلق نوع من التجريب تجاه الواقع، إذ تغدو الصورة السينمائية عبارة عن أداة للقبض على التجارب الإنسانية وتحويلها إلى ذاكرة بصرية لا تتوقف عن نزيف التذكر والنوستالجيا. إننا أمام صورة تفكر وتنتقد وتكشف وتظهر وتسعى قدر الإمكان إلى توسيع مفاهيم النظر والتأمل والتفكير، بغية تقديم مادة وثائقية أصيلة بقدر ما ما تلتحم بتحولات الذاكرة الجماعية، فإنها تنأى عنها أحيانا بسبب تفوق الواقع وفانتازيته على مفهم الخيال نفسه.

تغدو الصورة السينمائية عبارة عن أداة للقبض على التجارب الإنسانية وتحويلها إلى ذاكرة بصرية لا تتوقف عن نزيف التذكر والنوستالجيا

على هذا الأساس، تنزل المخرج علي الصافي مكانة بارزة داخل الساحة السينمائية العربية، بوصفه واحدا من المخرجين/ المفكرين الذين يقدمون في أفلامهم قضايا مجتمعية ويسعون بشكل سينمائي إلى تفكيك إشكالاتها وما تضمره من أهوال ومآزق وتصدعات. ورغم المكانة التي تحظى بها وثائقياته في المهرجانات العالمية، فإن حضورها داخل مهرجانات عربية يبدو قليلا. ففي الوقت الذي تحضر فيه أفلامه غربيا، يكاد المشاهد والمتردد على المهرجانات العربية لا يعثر على فقرة حول سينما علي الصافي أو "ماستر كلاس" أو حتى ندوة نقدية تشرح أفلامه وتظهر الإمكانات الجمالية التي تشتغل عليها وتجعل منها وسيلة للتفكير وأداة للتوغل في متاهات الواقع ومسارب الذاكرة.

ذلك أن أفلاما من قبيل "قبل زحف الظلام" و"دموع الشيخات" عبارة عن وثائق تاريخية بصرية قوية تعطي الباحث إمكانات مذهلة للتفكير مع المخرج في إعادة كتابة تاريخ المغرب المعاصر، انطلاقا من الأرشيف السينمائي الذي يجعل منه صاحب "الباب السابع" المنطلق الجمالي لبناء مفهوم الوثائقي وجعله وسيلة لإدانة الحاضر وفداحته.

التاريخ والسينما

تطرح أفلام علي الصافي أسئلة فكرية عميقة، لكونها لا تقدم فرجة سينمائية قوامها الترفيه، كما غدت تطالعنا الأفلام "التسجيلية" لكن الصافي يشتغل داخل مشروع سينمائي مركب يصبح فيه المونتاج اليد الثالثة التي تصنع وتظهر جماليات الفيلم الوثائقي ورغبته في تجاوز مفهوم الواقع، صوب الانغماس في التاريخ وذاكرته السياسية والاجتماعية والحياتية للأفراد. فأول سمة تنطبع بها أفلام الصافي تتمثل في تجذر مفهوم العلاقة بين السينما والتاريخ والذاكرة، بوصفها مفاهيم مركزية تلعب دورا كبيرا على مستوى صناعة الوثائقي، إذ تحول الصورة إلى مختبر بصري قادر على التفكير في قضايا تتصل بالفن والسياسة والمجتمع، وذلك بحكم الإمكانات التي يحبل بها براديغم الصورة السينمائية. فالسينما كما تقدمها أفلام علي الصافي، عبارة عن مشروع بصري يتصادى مع المادة التاريخية ويحولها إلى تخييل بصري يصعب القبض فيه أحيانا بين التاريخي والتخييلي. إنهما يشكلان معا خطابا سينمائيا مركبا يجد ملامحه الجمالية في عنصر المونتاج.

من أعمال علي الصافي

فهذا الأخير، يكاد يكون كل شيء بالنسبة إلى الصافي، متخذا شكل كتابة أولى وثانية، فإذا كان المونتاج عند دولوز هو "تلك العملية التي تعتمد على الصور/ الحركة لتستخلص كل شيء أي الفكرة والصورة الزمن" فإنه يغدو في تجربة الصافي ذلك النمط التكثيفي الذي يقف عند حدود اللحظات الأثيرة واللقطات المضيئة التي تظل عالقة في الذاكرة والوجدان على حد تعبير آيزنشتاين. وفق هذا المنزع الجمالي، يأخذ مفهوم تمثل المونتاج عند صاحب "الباب السابع" نزعة تفكيكية مكثفة، فهو يقوم على مبدأ التعارض في صوغ المشاهد، كما يتبدى ذلك في "قبل زحف الظلام" حيث يقف التحديث في وجه التقليد ونور الحداثة في وجه ظلمة ستزحف على المغرب الثقافي وتحوله إلى عبارة عن شبح مخيف.

إن هذا المونتاج التوليدي للصور كما نحته آيزنشتاين والقائم على التقابل البصري يوظفه علي الصافي بطريقة واعية لا تستنسخ النموذج السوفياتي، بقدر ما تعمل على تحديثه وفق آلية فكرية تتماشى مع طبيعة الصور وخصوصية المشاهد التي هي في مجملها عبارة عن أرشيف بصري يتأرجح بين الفيديو والصور.

أفلام فكرية

على هذا الأساس، يحرص الصافي على أن يكون الأرشيف بمثابة الإطار الفكري البصري الذي يظلل سيرة الصورة الوثائقية ويجعلها مفتوحة على جماليات الواقع ومتاهات الذاكرة. وقد نجح الصافي في توسل أرشيف سينمائي مغربي منسي وتوظيفه بصريا في عملية بناء سردية بصرية حقيقية تظهر التناقض الذي يعيشه المغرب اليوم أمام ماض ثقافي أصيل يجعل من الفكر الملتزم علامة مضيئة في تاريخ المغرب المعاصر.

يحرص الصافي على أن يكون الأرشيف بمثابة الإطار الفكري البصري الذي يظلل سيرة الصورة الوثائقية ويجعلها مفتوحة على جماليات الواقع ومتاهات الذاكرة

لذلك يتبدى للمشاهد أن طريقة الصافي في الاشتغال على الوثائقي أشبه بعمل المؤرخ، فهو لا يتعامل مع الواقع بطريقة مباشرة، وإنما يروم إلى البحث عن القصص والحكايات والصور والشرائط المصورة والملصقات والأغلفة ومقاطع الفيديو وتصريحات الناس وغيرها من العناصر التي يدمجها الصافي ضمن وحدة بصرية تركيبية، إذ على الرغم من تباين المادة الأرشيفية واختلاف سياقاتها "التاريخية" ومرجعياتها الفكرية، فإن علي الصافي وفق إلى حد كبير في عملية اختيار المادة "التاريخية" ووضعها في قالب سينمائي يداعب الصور ويفكك الزمن ويجعل ديمومة المشاهد خاضعة لما يريد المخرج قوله وإظهاره للمشاهد عن حقبة تاريخية لها أثرها البالغ في تاريخ الثقافة المغربية المعاصرة، بحكم ما عرفته تلك المرحلة الذهبية من ثورة ثقافية احتفى بها الصافي في فيلمه مثل المجلات كـ"الثقافة الجديدة" و"لاماليف" و"أنفاس" والمجموعات الغنائية مثل "ناس الغيوان" و"جيل جيلالة" و"السهام" والأفلام السينمائية وقاعاتها والموسيقى الشعبية وجمالياتها.

من فيلم "قبل زحف الظلام"

منظور بصري مختلف

يرى المؤرخ الفرنسي مارك فيرو أن التطورات التي عرفها مجال الصورة والتصور خلال القرن التاسع عشر، بعدما تجاوزت التقنية ذاتها وبدأت تنسج أواصر صداقة تجاه الواقع، بدأت تتبدى جيدا تلك الرغبة المدهشة في اجتياح الواقع والتعامل معه وفق منظورات مختلفة، كانت الغاية منها، محاولة تملك ذلك الواقع الذي عبرت عنه الرواية الفرنسية الحديثة بطرق مختلفة من التصوير الأدبي. ورغم التأثير الذي مارسته الفوتوغرافيا على الواقع باعتبارها صورة صامتة، فإن الأثر الذي تركته السينما يظل كبيرا سيما في اللحظة التي اقتحمت الفوتوغرافيا فأضافت إليها بعض العناصر المتصلة بالحركة والصوت.

ومنذ تلك اللحظة المبكرة في نظر فيرو، بدأت السينما تخرج من كونها مجرد تقنية، صوب التعامل مع نفسها على أساس أنها تصلح للتفكير، لذلك بدأت الصورة السينمائية تدين فداحة الواقع وترصد الأحداث وتتعامل مع التاريخ بمنطلق تخييلي مدهش. من هذا المنطق، يعتبر صاحب "السينما والتاريخ" (1977) أن السينما تعد وثيقة تاريخية مهمة، فهي تقدم للمؤرخ إمكانات ثرة وغنية للتعامل مع مفهوم الحدث، خاصة حين يتعلق الأمر ببعض الفترات التاريخية التي لم تظهر وثائقها بعد. إن السينما وهي تنقب في الأحداث الاجتماعية والوقائع التاريخية تخلق لنفسها أفقا مغايرا للاشتغال، إذ على الرغم من حرص المخرج السينمائي على عنصر الابداع (الخيال)، مقاربة بالمؤرخ الذي تهمه المعرفة (العلم) فتظل هناك دائما حدود للتقاطع والتلاقي بين المؤرخ والسينمائي، ما داما يتأملان التاريخ ويحفرانه في وثائقه وأرشيفاته وغيرها من الوثائق التي تجدد صنعة المؤرخ وتدفع بالمخرج السينمائي إلى البحث عن حكايات جديدة بها يضيء صوره ومشاهده.

على الرغم من حرص المخرج السينمائي على عنصر الابداع (الخيال)، مقاربة بالمؤرخ الذي تهمه المعرفة (العلم) فتظل هناك دائما حدود للتقاطع والتلاقي بين المؤرخ والسينمائي

حين يتعامل علي الصافي مع التاريخ، لا تهمه أحداثه ووقائعه إلا باعتبارها ذات دلالة بالواقع. إن المخرج يبلور لا شعوريا ذلك المفهوم الذي اجترحه المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل حول المدة الطويلة حيث يقيم الصافي مسافة بين الحدث التاريخي وما يريده من هذا الحدث. ونظرا لحجم الوثائق البصرية التاريخية المستخدمة في فيلمه "قبل زحف الظلام" فإن ذلك يعطيه شرعية "علمية" لكونه لا يطرق باب الخيال، بقدر ما يظل يقف سامقا أمام عتبة التاريخ، عاملا على تشريحه وتأمله والتفكير فيه على أساس أنه تاريخ لم ينته بعد.

font change

مقالات ذات صلة