"ديزل" ثاني السويدي

"ديزل" ثاني السويدي

استمع إلى المقال دقيقة

"الديزل" ليست مجرد نص، هي صفعة لا تنسى في الأدب الإماراتي، خرجت في تسعينات القرن الماضي بلا زينة ولا مهادنة ولا خوف، ولذلك هي رواية صادمة، بل ويصعب أن تتكرر صدمتها... فما هي "الديزل"؟

هي رواية قصيرة، أو نوفيلا، كتبها الشاعر الراحل ثاني السويدي، الذي غادر عالمنا مبكرا. عمل نادر من حيث جرأته اللغوية والنفسية والاجتماعية، نشر في بيروت في 1994، وأصبح علامة سرية يتداولها المبدعون أكثر مما تقرأ جماهيريا. أما لماذا تحدث الصدمة؟ فلأن السويدي كسر فيها ثلاث مناطق محرمة في الكتابة الإماراتية آنذاك.

المنطقة الأولى لغوية، فالرواية لم تكتب بالفصحى التقليدية، ولا بالعامية اليومية، بل هي خليط شعري متوتر، مرهق، لاهث.. لغة كأنها تسود الورقة بالدخان، لغة لا تبحث عن الرضا بل عن كشف الشرخ في الداخل.

والثانية نفسية، فالرواية تتمحور حول بطل يعيش على حافة الجنون، بدءا من انكسارات الهوية، إلى الشعور الدائم بأن الحياة ليست واقعية بما يكفي. فالسويدي كتب كأنه يشرح انهيارا ذهنيا لحظة بلحظة، والحقيقة أنه قدم صورة انهيار بشري كامل.

أخيرا، هناك المنطقة الاجتماعية، حيث تقترب الرواية من مناطق كان الأدب الإماراتي يتحسس منها، فثمة اغتراب داخل الوطن، مثل كل الأوطان العربية والشرقية، حيث العنف الخفي، والهشاشة الذكورية، والوحدة، والفقد، والتمرد المكبوت.. ولم يكن مجتمع التسعينات جاهزا لهذا الصوت، ولذلك بقي العمل نصا تحت الجلد.

الصدمة التي أحدثتها الرواية لا تتكرر، إذ كانت ابنة لحظة تاريخية فريدة، لحظة انفتاح اقتصادي وثقافي، مع بقاء البنى النفسية والاجتماعية المحافظة، فكانت لحظة خروج صوت فردي محترق من مراهق طيب، إلى "ديزل" يحتفى به.

"الديزل" لم تأت من مدرسة ولا من ورشة كتابة، ولا من مشروع مؤسساتي، بل جاءت من رجل يقف عند طرف النار، لتحتل مكانتها اليوم، بوصفها لحظة تأسيسية في رواية التجريب النفسي في الإمارات، وتعد واحدة من روايات قليلة صنعت أساسا عميقا لما سيأتي لاحقا في تجارب أدباء آخرين، بما فيها التجارب التي مزجت اليوميات بالتخييل. لكن "الديزل" تظل مختلفة، لأنها لم تكتب لترضي أحدا، بل لتغوص في الجرح الإنساني العميق الذي كثيرا ما يخفيه الإنسان، من وحدة وهشاشة، إلى الخوف من السقوط، من أن نكون غير مرئيين، ليفتح السويدي بابا على غرفة مهجورة في دواخلنا.

والسويدي كاتب لا يستعير قناعا، ولا يزين الألم، ولا يخبئ الهشاشة تحت البلاغة. لغته كتبت من مكان بين النوم واليقظة: جملة تتنفس، وأخرى تختنق، مشهد يولد من ومضة، وآخر ينهار فجأة. بينما الخيال عنده ليس زخرفة، بل طريقة للبقاء، كأنه يسند نفسه بالصور كي لا يسقط، أما حين يصل النص بنا إلى الجرح، فهذا شيء آخر، فهو جرح لم يتحول إلى نواح أو شكوى، بل إلى جمالية قاتمة، جرح يتحرك خلال شخصية تسير في ظلال المدينة، تتعثر بوجوه الآخرين كأنها تلمس جدارا من ضباب. ذات منفصمة عن محيطها، تبحث عن يقين صغير، عن حجر تطمئن إليه وسط عالم يتشقق.

عقل متوعك من ضجيج داخلي يسمع أكثر مما يرى، جعل "الديزل" نصا عن العطب الذي يخفيه الناس خلف صمتهم، عن الوجع الذي يتحرك في الأزقة، عن رجل يعرف أنه ينزلق في داخله، لكنه يبتسم للعالم كي يحتفظ بأدنى مظهر من ملامحه، واللغة التي عبرت عن هذا الكائن الحي في الرواية، تتسلل مباشرة إلى اللاوعي، منذ بدايات العجز الجسدي الرمزي إلى ديزل واقعي.

واحدة من روايات قليلة صنعت أساسا عميقا لما سيأتي لاحقا في تجارب أدباء آخرين، بما فيها التجارب التي مزجت اليوميات بالتخييل

كتب صاحب ديوان "ليجف ريق البحر" رواية "الديزل"، تجربته الروائية الوحيدة، في السابعة والعشرين من عمره، أما في بداية الألفية، فكان كل من يبحث عن "الديزل" لا يجدها، حتى قامت منشورات "غاف" الإماراتية بنشرها في كتاب يجمع أشعاره، وروايته التي وضعت في منتصف الكتاب، كتاب بعنوان: "عاشق البحر"، جمعه ووثقه صديقه الشاعر عادل خزام، بنصوص تكتب من منطقة لا يصلها كثيرون، بعد أن منحته الحياة هشاشة زائدة عن الحد، وشعرا يفيض، وروحا لم تعرف القشرة التي نحتمي بها عادة، لذلك جاءت لغته في "الديزل" كأنها جلد منزوع، انكشاف كامل، بلا خوف من أن يرى القارئ الداخل كما هو، نيئا، غير مكتمل، بلغة لا تخبر، بل تتنفس، كالنار تمشي على قدمين.

font change