الإغلاق الحكومي في أميركا... الأزمة التي يمكن أن تتجدد

في معظم الحالات، تضر حالات الإغلاق الحكومي الحزب الحاكم في البيت الأبيض

رويترز
رويترز
مبنى الكابيتول بواشنطن العاصمة، الولايات المتحدة

الإغلاق الحكومي في أميركا... الأزمة التي يمكن أن تتجدد

في الثاني عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، وقع الرئيس دونالد ترمب قانوناً يسمح بتمويل مؤقت للحكومة الاتحادية ينتهي بنهاية شهر يناير/كانون الثاني المقبل، بدلاً من التمويل السنوي المعتاد الذي ينتهي أوتوماتيكيا بنهاية شهر سبتمبر/أيلول. أنهى هذا التوقيع معركة سياسية حادة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، أشارت استطلاعات رأي مختلفة إلى أن الجمهوريين بوصفهم الحزب الحاكم يخسرونها شعبيا، ويمكن أن يؤثر استمرارها عليهم سلبيا في الانتخابات النصفية للكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني من العام المقبل. كان هذا أطول إغلاق حكومي في تاريخ الولايات المتحدة إذ استمر 43 يوما، من دون أن ينهي التوقيع على التمويل المؤقت أصل الصراع بين الحزبين الرئيسين، وإنما اكتفى بتأجيله شهرين ونصف الشهر، ما يثير احتمالات الذهاب إلى إغلاق حكومي آخر في حال فشل الطرفين التوصل إلى حل وسط بحلول شهر فبراير/شباط المقبل.

تدور نقطة الخلاف الرئيسة حول رفض إدارة الرئيس دونالد ترمب ومُشرعّين جمهوريين كثيرين استمرار تمويل أجزاء مهمة من قانون الرعاية الصحية الذي شرعته إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما في عام 2009، المعروف بأسم "أوباما كير".

بدأت حالات الإغلاق الحكومي في عام 1980، في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، في الأشهر الأخيرة من ولايته الوحيدة

يمكن لرفض التمويل هذا أن يؤثر على الرعاية الصحية التي يتلقاها الآن ملايين الأميركيين (تختلف التقديرات بخصوص العدد الحقيقي على أساس نوعية الاستقطاعات التي يريد الجمهوريون إجراءها على البرنامج، لكن يمكن أن يكون الرقم الأعلى أكثر من 24 مليون شخص في حال إلغاء كل الاستقطاعات المرتبطة بهذا البرنامج المعقد الذي يستفيد منه الكثيرون من ذوي الدخل المحدود). يطالب الجمهوريون بإدخال إصلاحات على هذا البرنامج، كما في مكافحة الهدر ورفضهم عمليات إجهاض تحدث في ظله وأشياء أخرى.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوقع على مشروع قانون التمويل لإنهاء إغلاق الحكومة الأميركية، في البيت الأبيض في واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة، 12 نوفمبر 2025

الإغلاق الحكومي الظاهرة "الجديدة" التي تزداد حدة

بدأت حالات الإغلاق الحكومي في عام 1980، في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، في الأشهر الأخيرة من ولايته الوحيدة، في شهر مايو/أيار من ذلك العام الانتخابي واستمر يوما واحدا فقط. بموجب هذا الإغلاق، توقف عمل نحو 1600 موظف اتحادي في هيئة التجارة الفيدرالية (Federal Trade Commission). كان سبب هذا الإغلاق الجزئي والقصير لهذه المؤسسة الفيدرالية المستقلة هو فشل الكونغرس حينها في تشريع صرف الأموال اللازمة لهذه الهيئة، في سياق جدل تشريعي بخصوص الصلاحيات الحقيقية لهذه المؤسسة. كان هذا التأخر في تشريع صرف الأموال اللازمة يحدث كثيرا في السابق وعلى مدى العقود، لكنه لم يسبق له أن أدى إلى إغلاق مؤسسة حكومية أو إغلاق الحكومة كلها، إذ كانت الحكومة أو المؤسسة المعنية تستمر في عملها حتى مع عدم وجود التخصيص الرسمي اللازم لها إلى أن يتم تمرير هذا التخصيص تاليا (عادة في خلال أيام أو أسبوع).

في اللغة القانونية الأميركية، يُسمى هذا التأخر في إطلاق الأموال الرسمية "فجوة التمويل" (funding gap). لم تَقد أي من فجوات التمويل هذه إلى إغلاق جزئي أو كلي للحكومة

في اللغة القانونية الأميركية، يُسمى هذا التأخر في إطلاق الأموال الرسمية "فجوة التمويل" (funding gap). لم تَقد أي من فجوات التمويل هذه إلى إغلاق جزئي أو كلي للحكومة، وحتى لم يلاحظ الرأي العام وجود هذه الفجوات أو يهتم لها. تغير الأمر على نحو تدريجي ومتصاعد عندما أصدر المدعي العام في إدارة الرئيس كارتر، بنجامين سيفليتي (Benjamin Civiletti) في أبريل/نيسان 1980 رأيا قانونيا ملزما، بموجبه أصبح لزاما على المؤسسات الرسمية الأميركية، غير الضرورية كالأمنية والخدمية الأساسية، أن تتوقف عن العمل والإنفاق في حال حصول فجوة التمويل. اعتمد هذا الرأي الذي أصبح مشهورا ومقبولا عبر الإدارات المتتابعة على إعطاء تفسير جديد ودقيق لقانون أميركي قديم ومهم يُطلق عليه قانون منع العجز المالي (Anti-Deficiency Act). شُرِّع هذا القانون في نسخته الأصلية في عام 1884، ليخضع لتعديلات كثيرة ومهمة على مدى الزمن، وصولا إلى عام 1990، حيث التعديل الأخير المهم للقانون (تواصلت التعديلات بعد هذا التاريخ لكنها كانت هامشية عموماً). بقي جوهر هذا القانون  في نسخته الأولى في 1884 وتعديلاته الكبرى اللاحقة واحدا: لا يُسمح للمؤسسات الفيدرالية أن تُنفق أموالا لم يخصصها الكونغرس لها. قبل إطلاق سيفليتي رأيه القانوني، اعتادت الإدارات الأميركية التساهل في تفسير القانون، فلم توقف عمل المؤسسات الحكومية في حال تأخر الكونغرس عن تخصيص الأموال اللازمة لها.

أ.ف.ب
زعيم الأقلية الديمقراطية في الولايات المتحدة، حكيم جيفريز، يتحدث إلى جانب أعضاء ديمقراطيين في مجلس النواب حول الرعاية الصحية والتصويت المُخطط لإنهاء الإغلاق الحكومي، خلال مؤتمر صحفي خارج مبنى الكابيتول في واشنطن، 12نوفمبر 2025

الإنفاق الفيدرالي في حلبة الصراع السياسي

بعد إمضاء رأي سيفليتي القانوني أصبح لزاما على الحكومة الاتحادية إعطاء إجازة إجبارية للموظفين الفيدراليين المَعَينين من دون راتب لحين إقرار الكونغرس الميزانية المخصصة لمؤسساتهم (تغير هذا الأمر في عام 2019، عندما ألزَم تعديل جديد على القانون الحكومةَ بدفع رواتب الموظفين في أثناء الإجازة الإجبارية). مع ذلك، بقيت حالات الإغلاق محدودة على مدى عقد الثمانينات وصولاً إلى منتصف التسعينات حيث الإغلاق الأول الكبير وشبه الشامل للحكومة في نهاية 1995 في سياق الصراع السياسي بين إدارة الرئيس بيل كلينتون والكونغرس الذي كان يسيطر عليه الجمهوريون وقتها ومنعوا تمرير الميزانية الاتحادية من دون إجراء تخفيضات كبيرة في برامج يعتبرها الديمقراطيون مهمة كتلك المتعلقة بالتعليم والبيئة والرعاية الصحية. استمر هذا الإغلاق  أقل من شهر بقليل على  نحو متقطع بين نهاية 1995 وبداية 1996 وانتهى بتراجع الجمهوريين عن معظم مطالبهم بعد أن اصطف الرأي العام مع إدارة كلينتون الديمقراطية (على الأكثر مهدت هذه الهزيمة الجمهورية السبيل لكلينتون كي يفوز في الانتخابات الرئاسية في نهاية عام 1996). حظي هذا الإغلاق بمتابعة واسعة في الأوساط الأميركية العامة وكان ظاهرةً جديدة على المستوى الشعبي. لكن كان الإغلاق الأوسع والأطول زمناً حتى ذلك الوقت في الرئاسة الأولى للرئيس ترمب بين نهاية عام 2018 وبداية 2019، إذ استمر نحو 35 يوما وشمل تسع وزارات حكومية، فضلا عن عشرات المؤسسات والوكالات الاتحادية. كان محور الخلاف هو رفض الديمقراطيين الذين كانوا يسيطرون على مجلس النواب تمويل بناء الجدار الحدودي مع المكسيك الذي أراده ترمب بشدة. أدت الضغوط الكثيرة التي تعرض لها ترمب إلى تراجعه عن موقفه حينها.

تخفيف الضرر من هذا الإغلاق الحكومي على غالبية الأميركيين، أمر يفيد الحزبين كمادة دعائية في الانتخابات النصفية المقبلة للكونغرس

في معظم الحالات وليس جميعها، تضر حالات الإغلاق الحكومي الحزب الحاكم في البيت الأبيض، إذ يميل الأميركيون العاديون، على نحو مفهوم ومتوقع، للوم الحكومة التي بيدها الإنفاق المالي على عدم صرف المستحقات لأصحابها، من دون إيلاء الكثير من الاهتمام للصراعات السياسية التي قادت إلى إيقاف الإنفاق أو ما أصبح يُعرف واسعا بإغلاق الحكومة.

المواجهة الجمهورية - الديمقراطية المؤجلة

في هذا الصراع الأخير بين الجمهوريين والديمقراطيين، ورغم أن استطلاعات الرأي كانت تميل عموماً إلى دعم الديمقراطيين ولوم الجمهوريين، كان ثمة خوف شعر به الجانبان من الاستمرار المفتوح والطويل لهذا الإغلاق، ليس بوصفه فقط الإغلاق الأطول زمنيا في التاريخ الأميركي، وإنما أيضا لسعته التي شملت أميركيين كثيرين من متلقي مختلف أنواع الدعم والتمويل الحكوميين كما في قطاع الزراعة وتلبية حاجات المحاربين القدامى وكثير من الإنفاق العسكري فضلا عن إعادة الجهاز الحكومي للعمل، إذ مُررَ الإنفاق على هذه البرامج حتى نهاية العام المالي بحلول أكتوبر/تشرين الأول 2026، فيما سُمح بإنفاق مؤقت، حتى نهاية يناير/كانون الثاني المقبل، للبرامج الخلافية. وتخفيف الضرر من هذا الإغلاق الحكومي على غالبية الأميركيين، أمر يفيد الحزبين كمادة دعائية في الانتخابات النصفية المقبلة للكونغرس. أيضاً لم يحصل الطرفان على ما يريدان في القضايا الأهم، خصوصاً تجديد الدعم للبرنامج الصحي، قرر الطرفان التهدئة المؤقتة على أمل حل خلافاتهما في خلال الشهرين والنصف المقبلة بعد أن أصبح الأمر، كما في حالات إغلاق سابقة، أشبه بلعبة عض الأصابع غير مضمونة النتائج: أي الطرفين يصرخ قبل الآخر ويتنازل. في ظل التسوية الحالية التي أعادت فتح الحكومة حصل الديمقراطيون على وعد جمهوري، وليس ضمانا، بتصويت مقبل على تجديد الدعم المالي لبرنامج "أوباما كير" الصحي.

أ.ف.ب
متطوعون يوزعون مواد غذائية مجانية في فعالية توزيع طعام من السيارة، في أعقاب إغلاق الحكومة الفيدرالية الذي تسبب في تأخير صرف إعانات برنامج SNAP/CalFresh الغذائية، في 20 نوفمبر 2025 في كاليفورنيا

وفي حال عدم توصل الطرفين إلى اتفاق يسمح باستئناف جدي لتمويل هذا البرنامج حتى مع تقديم الديمقراطيين بعض التنازلات الجانبية لإمضاء هذا البرنامج المهم سياسياً لهم ولجمهورهم الانتخابي، فإن احتمالات عودة الإغلاق الحكومي عالية بعد شهرين. السابقة التاريخية قد تقوي موقف الديمقراطيين بهذا الصدد، ففي عام 2013  أصر الجمهوريون في الكونغرس على عهد الرئيس باراك أوباما على إغلاق الحكومة لمدة 16 يوماً لإيقاف تمويل البرنامج الصحي نفسه، لكنهم في آخر المطاف اضطروا للتراجع بسبب ضغط الرأي العام الذي كان سلبيا نحوهم.

تقف الآمال والسوابق التاريخية إلى جانب الديمقراطيين في هذا الصراع المحتمل إذا تُرجمت إلى اتفاق يمنع عودة الإغلاق الحكومي، لكن الإرادة الصلبة لرئيس عنيد ومتقلب المزاج مثل دونالد ترمب قد تطيح باحتمالات اتفاق كهذا وترسل البلد في طريق إغلاق حكومي آخر...

font change