"أرض الصومال"... نجوم "الواقعية السياسية" تتألق عندما يخدم ذلك مصالح الدول

تتزايد النقاشات داخل مراكز الأبحاث والأوساط الدبلوماسية حول الانهيار المحتمل للحكومة الاتحادية الصومالية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رجل يحمل علم أرض الصومال أمام نصب هرجيسا التذكاري للحرب هناك، 7 نوفمبر 2024.

"أرض الصومال"... نجوم "الواقعية السياسية" تتألق عندما يخدم ذلك مصالح الدول

البيان الأخير للورد البريطاني كيم داروك، السفير السابق لدى الولايات المتحدة ومستشار رئيس الوزراء، الذي دعا فيه إلى الاعتراف باستقلال "أرض الصومال" (صومالي لاند)، لا يُعدّ حادثة منفردة من وحي الخيال السياسي، ولا هو مجرد رأي شخصي لدبلوماسي متقاعد.

اللورد داروك، من منطقة حدائق كيو في لندن، شخصية ذات صلة مباشرة بالمؤسسة السياسية في المملكة المتحدة. وهو خبير في قضايا الأمن والاستقرار الدولي وبناء المؤسسات في مناطق الصراع، كما يشغل عضوية مجلس "تشاتام هاوس" للعلاقات الدولية.

وتُعزز مجموعة أرض الصومال البرلمانية المشتركة والتي يترأسها وزير الدفاع السابق السير غافين ويليامسون، موقفه. ففي يونيو/حزيران 2025، نشرت المجموعة تقريرا بعنوان "خارطة الطريق نحو الاعتراف" والذي طرح الحجج الاستراتيجية والاقتصادية والأخلاقية لاستقلال أرض الصومال.

وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، أصبحت القضية مدرجة أيضا على جدول الأعمال في الولايات المتحدة. إذ يروّج كتيّب متداول داخل الكونغرس- يشارك فيه أعضاء من الكونغرس وشخصيات من الجالية الصومالية- لفكرة الاعتراف بأرض الصومال بوصفها "استثناءً ناجحا" مقارنة بحالة الضعف المزمن التي تعاني منها الحكومة الاتحادية في مقديشو، وباعتبارها رافعة جيوسياسية محتملة لتعزيز الاستقرار في البحر الأحمر وباب المندب.

منذ عام 1991، سعت أرض الصومال إلى الوجود ككيان مستقل عن الصومال. واليوم، تعمل فعليا كدولة موازية لمقديشو

وفي يونيو 2025، قدّم النائب سكوت بيري مشروع القانون "H.R-3992"، المعروف باسم "قانون استقلال جمهورية أرض الصومال"، والذي يدعو إلى الاعتراف الرسمي بأرض الصومال كدولة مستقلة ومنفصلة.

في الوقت نفسه، تدعو مراكز الأبحاث، مثل مجلس الأطلسي ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إلى تبنّي نهج حذر ومدروس دون أن تبلغ حدّ الاعتراف الصريح.

دولة بلا اعتراف.. دولة بلا سيادة

منذ عام 1991، سعت أرض الصومال إلى الوجود ككيان مستقل عن الصومال. واليوم، تعمل فعليا كدولة موازية لمقديشو، محافظةً على مستوى من الاستقرار النادر في بقية أنحاء البلاد، ومُظهِرة مجموعة متكاملة من السمات شبه المؤسسية للدولة.

أ.ف.ب
الطلاب يلوحون بالعلم الصومالي خلال مظاهرة لدعم الحكومة الصومالية في أعقاب اتفاق الميناء الموقع بين إثيوبيا ومنطقة أرض الصومال الانفصالية في استاد إنج ياريسو في مقديشو في 3 يناير 2024.

في عام 2024، أُجريت في أرض الصومال انتخابات رئاسية أسفرت عن انتقال سلمي للسلطة. ويعمل برلمانها وسلطاتها البلدية وقضاؤها على نحو مستقل عن مقديشو، الأمر الذي يضمن إدارة الشؤون الداخلية بفعالية. وبينما انهار نظام التوازن القبلي في جنوب الصومال، لا يزال هذا النظام قائما ومتوقَّعا ومُدمجا مؤسسيا في أرض الصومال.

ويعمل الجيش والشرطة وأجهزة الأمن تحت قيادة موحَّدة، ويحافظون على سيطرة إقليمية كاملة، ويديرون حملة مستدامة ضد "حركة الشباب".

وراء مظاهر الاستقرار النسبي في أرض الصومال، تتقاطع مصالح مشروعي نفوذ خارجيين مختلفين في طبيعتهما واتجاهاتهما

يُعد ميناء بربرة مركزا إقليميا، وتساهم الجمارك والتجارة في توليد مصادر مستقلة للإيرادات. ويقوم نظام مصرفي يعمل بكفاءة، مدعوما بالقوة الاقتصادية للمغتربين، بدعم الاقتصاد المحلي على نحو فعال. تُعزّز الوزارات والدوائر الداخلية وسلطات المالية والضرائب الاستقلال الاقتصادي والإداري.

في الوقت نفسه، تتزايد النقاشات داخل مراكز الأبحاث والأوساط الدبلوماسية حول الانهيار المحتمل للحكومة الاتحادية الصومالية. وتتعرض مقديشو لانتقادات متكررة بسبب عدم الاستقرار المزمن، والفساد المستشري، والاعتماد المفرط على المانحين الأجانب، وعجزها عن مواجهة الجهات الفاعلة المسلحة غير الحكومية. وفي هذا السياق، لا تبرز أرض الصومال فحسب، بل كذلك أرض البنط وجوبا بوصفها "جزر استقرار" وسط فوضى وطنية واسعة النطاق.

مراكز المصالح الخارجية

وراء مظاهر الاستقرار النسبي في أرض الصومال، تتقاطع مصالح مشروعي نفوذ خارجيين مختلفين في طبيعتهما واتجاهاتهما.

تستخدم الصين وبعض الدول الإقليمية أدوات النفوذ الاقتصادي بوصفها الآلية الأساسية للتأثير. فقد استثمرت الإمارات بكثافة في قطاع الموانئ والخدمات اللوجستية، حيث تتولى شركة موانئ دبي العالمية إدارة محور ميناء بربرة الحيوي. أما الصين، فتنفذ ما يمكن وصفه بـ"أجندة الاستقرار الواسع" في إطار مبادرة "الحزام والطريق"، موجّهة تمويلها لمشاريع البنية التحتية والطاقة. وتتمحور أولويات المملكة العربية السعودية حول التجارة، وخاصة صادرات المواشي، إلى جانب تمويل البرامج الإنسانية والاجتماعية. ورغم التقاء المصالح الاقتصادية لهذه القوى، فإن غياب التنسيق بينها يمنع تبلور أي نهج مشترك.

رويترز
حاملة الطائرات الاميركية "يو إس إس إنتربرايز" وطراد الصواريخ الموجهة "يو إس إس فيكسبيرغ" يعبران مضيق باب المندب في هذه الصورة المنشورة في 7 أبريل 2012، مقدمة من البحرية الأميركية

الدافع الأساسي الذي يحرك هذه القوى واضح: ضعف مقديشو، وشرعيتها الاسمية، وهشاشة وحدة الأراضي الصومالية، كلها عوامل تخلق بيئة مواتية للتوسع الاقتصادي. غير أن الاعتراف الرسمي باستقلال أرض الصومال، على جاذبية الاستثمار هناك، قد يجرّ اضطرابات مكلفة ويهدد استقرار سوق عقود البنية التحتية على مستوى البلاد.

في المقابل، تتحرك تركيا وقطر والمملكة المتحدة ضمن كتلة أكثر اندفاعا وطموحا، وتراهن على ترسيخ الانفصال المؤسسي لأرض الصومال بوصفه "واقعا قائما لا بد من التعامل معه". وتعمل هذه الكتلة على بناء مجال نفوذ في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، مستفيدة من القدرات اللوجستية التي توفرها أرض الصومال، بما يمكنها من إعادة تشكيل السياسات الإقليمية وتحدي اللاعبين التقليديين، ومن ضمنهم الولايات المتحدة والإمارات والسعودية والصين.

غياب الاعتراف الرسمي لا يغيّر الواقع القائم، فأرض الصومال تعمل كدولة بحكم الأمر الواقع، بجيشها وأجهزتها الأمنية وإدارتها المحلية ونظامها الاقتصادي، كل ذلك من دون أي سند قانوني دولي

وتعمد هذه الدول، بشكل منهجي، إلى دفع عملية الانفصال عبر بناء بنية تحتية سياسية وعسكرية وإدارية وبشرية لأرض الصومال، مستخدمة قنواتها الدبلوماسية وأجهزتها الأمنية وأدوات الضغط الاقتصادية والقوة الناعمة. وتعتمد المملكة المتحدة على الروابط التاريخية والدعم الدبلوماسي وعلى نفوذها في الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية. فيما تعزز تركيا حضورها من خلال مشاريع الموانئ والمطارات، والتعاون العسكري والتدريب، والتوسع الثقافي والديني. وتستخدم قطر الاستثمار في البنى التحتية والبرامج الإنسانية، إضافة إلى نفوذها الإعلامي ودورها التفاوضي، لبناء شبكة دعم داخل الأوساط السياسية والعشائرية في مقديشو.

وتجذب هذه الكتلة الناشئة معها إثيوبيا التي ترى في الوصول إلى البحر الأحمر مسألة وجودية، بعدما شكل فقدانه عقب استقلال إريتريا كارثة استراتيجية. وتمثل أرض الصومال بالنسبة إليها المنفذ البحري الواقعي الوحيد، ما يجعل أديس أبابا مستعدة لدعم الاعتراف بها مقابل الحصول على حق استخدام ميناء بربرة.

رويترز
صراف يحسب أوراق العملة المحلية في مكتب محلي حيث يتم استبدال 100 دولار أميركي بـ 750 ألف شلن صومالي في هرجيسا، 19 مايو 2015.

هذا التوجه يثير مخاوف عميقة لدى مصر، الداعم الرئيس لمقديشو في تنافسها مع أديس أبابا، كما يثير مخاوف جيبوتي التي يتهددها فقدان أكثر من 1.5 مليار دولار من إيرادات تجارة العبور الإثيوبية.

أما الولايات المتحدة، فتتعامل مع هذه التهديدات الإقليمية بمنطق برغماتي يوازن بين الانخراط والابتعاد، معتمدة سياسة ما تسميه "الغموض الاستراتيجي" لإبقاء الخيارات مفتوحة. وهي تفضل الحفاظ على أرض الصومال بوصفها ورقة استراتيجية تُستخدم عند الحاجة، خصوصا في المنافسة مع الصين وتركيا، فيما يبقى أمن باب المندب أولوية أعلى بكثير من القتال ضد "حركة الشباب" في الصومال. وتوظف واشنطن إمكان الاعتراف بأرض الصومال كأداة ضغط على مقديشو، مع إبقاء قنوات الاتصال الاقتصادية والعسكرية مفتوحة مع هرجيسا عبر طرق غير رسمية تتجاوز الحكومة الاتحادية. وأي صراع بين القوى الإقليمية من شأنه أن يضعفها ويمنح واشنطن هامشا أوسع للتحكم في المآلات النهائية.

الاعتراف: تأخر محسوب وسابقة مكلفة

يبدو الاعتراف الرسمي بأرض الصومال، في المدى المنظور، غير مرجح لعدة أسباب جوهرية:

تفادي صدام مباشر مع الحكومة الاتحادية في مقديشو.

الخشية من ردود فعل دولية سلبية، بما في ذلك مواقف الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والمنظمات الإقليمية التي ترفض المساس بالسلامة الإقليمية للدول.

القلق من "تأثير الدومينو" وما قد يستتبعه الاعتراف من سوابق تشجع الأقاليم شبه المؤسسية الأخرى على السير في الاتجاه ذاته.

ومع ذلك، فإن غياب الاعتراف الرسمي لا يغيّر الواقع القائم: فأرض الصومال تعمل عمليا كدولة بحكم الأمر الواقع، بجيشها وأجهزتها الأمنية وإدارتها المحلية ونظامها الاقتصادي، كل ذلك من دون أي سند قانوني دولي.

ما يسمى "الصوملة"، أي التفكك البنيوي، ليس انهيارا عفويا ولا مسارا طبيعيا ولا وليد الصدفة، بل حصيلة ضعف داخلي يتزايد بفعل التدخل الخارجي

إن فتح باب النقاش حول الاعتراف يخلق سابقة تحمل مخاطر واضحة. فإضفاء الشرعية على كيان واحد قد يمنح زخما لمطالب استقلال أخرى، ويسرّع من تفكك مناطق عديدة. ورغم أن ذلك ليس نتيجة حتمية، فإن احتمال حدوث تحول منهجي كبير يبقى قائما بقوة.

وتبدأ الشرعية الاستراتيجية بالتشكل حين تتحقق عناصر ثلاثة: استقلال مؤسسي فعلي، وسيطرة على الأرض، ودعم خارجي واضح.  فحين يمتلك إقليم ما بنى شبه حكومية مستقرة وقدرة على إدارة شؤونه، يصبح، حتى من دون اعتراف، مرشحا طبيعيا للدخول إلى الحيز الدولي.

ومجرّد الاعتراف باستقلال إقليم واحد كفيل برفع مكانة الكيانات الذاتية وشبه المستقلة الأخرى، وهي قائمة قابلة للاتساع بسهولة. فبدلا من تحقيق الاستقرار الذي يروّج له بعض الفاعلين، قد يقود الاعتراف إلى تسارع وتيرة التفكك الإقليمي، بما يشمل احتمالات جديدة للانقسام في السودان، وتدهورا إضافيا في شرق الكونغو، وانشطارات داخلية في الكاميرون، وربما موجة جديدة من النزاعات عبر دول الساحل.

رويترز
أفراد من جيش أرض الصومال يشاركون في عرض عسكري للاحتفال بالذكرى الثالثة والثلاثين لاستقلالهم في هرجيسا، أرض الصومال، 18 مايو 2024.

ولا تبدو إثيوبيا، رغم احتمال دعمها استقلال أرض الصومال، في منأى عن هذه التداعيات. فهي تواجه بدورها مطالب انفصالية في أوروميا وعفار وتيغراي، ما يجعل الاتحاد الإثيوبي بأكمله عرضة لخطر التفتت التدريجي. وهنا يتبدّى التناقض: فالسعي إلى توسيع النفوذ الخارجي عبر فصل إقليم آخر لا ينسجم مع الحاجة الملحّة للحفاظ على تماسك الدولة من الداخل.

الصراع بين المركز والأطراف بوصفه محركا أساسيا للتفكك

معظم النزاعات في أفريقيا تنبع من توتر اقتصادي بين السلطات المركزية والأقاليم الطرفية، ويتجلى ذلك في ديناميات واضحة:

  • تتركز عوائد الموارد في العواصم وتحتكرها النخب الحاكمة.
  • تعجز البنى المؤسسية عن الامتداد إلى الأطراف البعيدة.
  • تبقى شعوب الهوامش بلا نصيب يذكر في توزيع الثروة.

وفي غياب نزعة نحو الفدرلة الجزئية على الأقل أو إعادة توزيع عادلة للريع، يغدو تفكك الدولة مرجحا. عندها يظهر الانفصال في الأطراف لا كأيديولوجيا سيادية، بل كخيار بقاء.

آلية التدهور وصلف الواقعية السياسية

ما يسمى "الصوملة"، أي التفكك البنيوي، ليس انهيارا عفويا ولا مسارا طبيعيا ولا وليد الصدفة، بل حصيلة ضعف داخلي يتزايد بفعل التدخل الخارجي. فالقوى الخارجية لا تبتكر الأزمة، وإنما تركب موجتها، مستثمرة هشاشة البنى لتفتيت الدول الهشة وصناعة شركاء يسهل التحكم بهم.

يبدو إضفاء الشرعية على كيانات الأمر الواقع التي تشبه الدول مخرجا وحيدا من انهيار الحكومات المركزية، لكنه في الحقيقة طريق مسدود. فالدينامية هنا عالية الاحتمال ولا رجعة فيها

النظام لا ينهار من تلقاء ذاته، بل يفكك عبر هندسة سياسية تستغل هشاشته الداخلية. وهكذا يتشكل ما يشبه دورة مدارة للتدهور تقدم في صورة تطور طبيعي.

إنها صورة كلاسيكية للواقعية السياسية، حيث تتحول المصالح الخارجية في النتائج السلبية إلى عامل يزيد من احتمالها، فيحول السيناريو المحتمل إلى مسار لا رجعة فيه.

المجتمع الدولي كمتفرج سلبي

ازدواجية القانون الدولي، إذ يجمع بين مبدأ عدم المساس بالحدود وحق الشعوب في تقرير المصير، إلى جانب عجزه عن توفير آليات فعالة للحل، تجعل المجتمع الدولي ومؤسساته الكبرى في موقع المتفرج السلبي.

فالإصلاحات المؤسسية التي لا تتدخل مباشرة في السياسة الداخلية خشية انتهاك السيادة، تظل غير قابلة للتطبيق تقنيا. وفي الواقع، لا يملك المجتمع الدولي سلطة فعلية، لا يسيطر، ولا يفرض، ولا يمنع. أقصى ما يقدمه هو نصائح وتصريحات سرعان ما تهمل أو تفقد جدواها قبل أن تنفذ.

العواقب والسيناريوهات المحتملة

قد يبدو إضفاء الشرعية على كيانات الأمر الواقع التي تشبه الدول مخرجا وحيدا من انهيار الحكومات المركزية، لكنه في الحقيقة طريق مسدود. فالدينامية هنا عالية الاحتمال ولا رجعة فيها. مشاكل داخلية غير محلولة تحفز بتدخلات خارجية، فتطلق عملية تفكك لا مفر منها. وما إن يبدأ التقسيم الداخلي حتى تقل جدا شروط إعادة التوحيد.

التفكك لم يعد خطرا محتملا، بل واقع جارٍ. فأرض الصومال ليست سوى الإشارة الأولى إلى سلسلة تفكك قد تجتاح قسما كبيرا من القارة. والنتائج الأكثر ترجيحا تشمل: نشوء كيانات بحكم الأمر الواقع، وتفككا اقتصاديا ومؤسسيا، وتصاعد النزاعات المحلية، وتفقير الشعوب، وتآكلا متدرجا لسيادة الدولة المركزية.

font change