تراجيديا نظريات المؤامرة في "بوغونيا" لانثيموس

بين حدي الكوميديا السوداء والمأساة

AFP
AFP
لانثيموس وإيما ستون

تراجيديا نظريات المؤامرة في "بوغونيا" لانثيموس

في أحدث أفلام المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس، وفي تعاونه الرابع مع النجمة إيما ستون، يقدم قصة حول رجلين، أحدهما مؤمن بالعديد من نظريات المؤامرة، وقريبه المتوحد الذي يتبعه طواعية في كل مخططاته. يقرر هذان الرجلان اختطاف الرئيسة التنفيذية لإحدى شركات الأدوية في مدينتهما، اعتقادا منهما بأنها كائن فضائي مرسل لتدمير الأرض. يستلهم الفيلم أحداثه من الفيلم الكوري الصادر في 2003 "أنقدوا الكوكب الأخضر" Save the Green Planet. بالإضافة إلى إيما ستون، الفيلم يضم جيسي بليمونز وايدن ديلبيس (في أول أدواره) وستافروس هالكياس.

أعلن لانثيموس توقفه مؤقتا بعد إتمام فيلم "بوغونيا"، فهذا الفيلم يعتبر ثالث أعماله في ثلاث سنوات متتالية، بداية من "كائنات مسكينة" Poor Things في 2023، تبعه "أنواع اللطف" Kinds of Kindness في 2024. يترك اليوناني الساحة مؤقتا بعد ثلاثة أفلام يمكن وصفها بالعديد من الكلمات، لكنها لانثيموسية قبل أن تكون أي شيء آخر.

شخصيات تحت العدسة

مع التنوع الشاسع في أفلامه، فإن ما يربطها جميعا هو قدرته على إيجاد أكثر المناطق غرابة سرديا والقدرة على تصويرها بصريا. لا ننسى أثر عمله مع المصور السينمائي روبن راين في فيلم "كائنات مسكينة" من خلال استخدام عدسات غير مناسبة للكاميرات لإيجاد زوايا تصوير جديدة وفريدة.

تستمر النبرة البصرية الفريدة في "بوغونيا"، فحينما يصور الفيلم تيدي ودون (بليمونز وديلبيس)، يبدو أنه يصور نمط حياتهما ويدرسه بغرض التوثيق، كأنهما في مختبره الخاص وتحت عدسته المكبرة الخاصة، مع ملاحظة أنه عندما يبدأ بمقارنة حياتهما مع حياة ميشيل (إيما ستون)، فهناك اختلاف واضح في لون الصورة. فالصورة في منزل تيدي ساطعة ومفعمة بألوان طبيعية، هناك فوضى عارمة تروي قصة حياة كاملة عيشت في هذا المنزل، بينما الصورة عند ميشيل، لا عوائق بصرية أمامها، لكنها خالية من الألوان.

يجد لانثيموس توازنا بارعا في نبرته السردية في هذا العمل، فهو يتنقل ما بين كوميديا سوداء ودراما حقيقية وملحمة سوريالية أوبرالية

يجد لانثيموس توازنا بارعا في نبرته السردية في هذا العمل، فهو يتنقل ما بين كوميديا سوداء ودراما حقيقية لشريحة مجتمعية موجودة وما بين ملحمة سوريالية أوبرالية. هذا ما أقصده حينما أقول إن أعماله لانثيموسية، فحتى باختلاف القصص والحقب الزمنية التي يتناولها، يظل قادرا على أن يجد صوته بدقة ويجعل أعماله فريدة وأصلية من جهة، وتمتلك الصوت والتوجه نفسهما من جهة أخرى.

مشهد من فيلم "بوغونيا"

ينتهي المشهد الكوميدي المتمثل في صراع تيدي ودون مع ميشيل في منزلها وهما يحاولان اختطافها بسقوطها على الأرض متأثرة بحقنة مخدرة، ومع هذا السقوط تقتحم الموسيقى الملحمية المشهد بكل ضراوة، وكأنها تذكرنا بجدية ما نراه أمامنا وواقعيته، فالكوميديا السوداء لا تعني أن العواقب لن تكون وخيمة، وطرافة الموقف لا تعني أنه لا يتضمن ضررا جسيما.

ديناميكية

بعد نجاح الاختطاف، يعتمد الفيلم كثيرا على الديناميكية التي تجمع جيسي بليمونز وإيما ستون. تيدي الذي يحقق معها على أنها كائن فضائي جاء لتدمير الأرض، وميشيل وهي تحاول مسايرة هذا الشخص المجنون في هلوساته الذي أخبرها في أول ليلة بأنه من المفترض أن يبقر بطنها عوضا عن إبقائها حية.

كلا الشخصيتين يمتلك أبعادا مختلفة: إيما ستون بدور الرئيسة التنفيذية تستلهم العديد من التصرفات من رؤساء تنفيذيين حقيقيين، لغة الخطابة التي تحاول مراعاة احتياجات الموظفين الإنسانية، وفي الوقت نفسه تمتلك رسائل مبطنة عن أهمية وضع العمل كأولوية قصوى. تصميم وصرامة يبدوان صادرين عن آلة وليس بشرا، ومن ثم محاولات خجولة لإلقاء نكتة أو الظهور بمظهر شخص طبيعي يمكن الموظفين الارتباط به على مستوى شخصي.

مشهد من فيلم "بوغونيا"

جيسي بليمونز يقدم أداء معقدا ومركبا، ما بين هزلية الشخصية التي تؤمن إيمانا كاملا بنظريات المؤامرة المجنونة، وماضيها الحزين والمعقد الذي يتضمن وقوعه ضحية تحرش جنسي محتمل ووالدته المدمنة العقاقير. هناك انتقال جزئي مهيب يتسرب جزئيا من خلال أدائه طوال الفيلم ويتحول من المهووس ومصدر الكوميديا السوداء الأول في الفيلم إلى أداء مأسوي مفعم بالصدمات العاطفية الكفيلة بدفع أي شخص إلى حافة الجنون.

بسبب فيلموغرافية يورغوس لانثيموس، يتخطى الفيلم كونه قصة اختطاف عادية ويمتد إلى ما هو أبعد من ذلك. الغرابة التي يحملها في طيات أفلامه تجعلنا نستمر بالتشكيك في ما يحصل أمامنا، وهل هي عملية اختطاف رئيسة تنفيذية على يد شخص مجنون، أم أننا فعلا أمام كائن فضائي؟ بالإضافة إلى اختيارات لانثيموس البصرية رفقة الثقة التي يتحدث بها تيدي (بليمونز) عن اعتقاداته في شأن الكائنات الفضائية التي غزت الأرض، وأداء إيما ستون الروبوتي البارع. تبدو الصورة واقعية وطبيعية حتى يقدم لانثيموس تدريجيا لحظات من ماضي تيدي، في هذه المشاهد التي كانت بالأبيض والأسود يثبت المخرج اليوناني أنه لا يحتاج سوى مشاهد عدة حتى تقشعر أبداننا ويصدمنا إلى درجة تجبرنا على مواجهة ما نراه.

جيسي بليمونز يقدم أداء معقدا ومركبا، ما بين هزلية الشخصية التي تؤمن إيمانا كاملا بنظريات المؤامرة المجنونة، وماضيها الحزين والمعقد


الديناميكية التي جمعت ستون وبليمونز، سيطرت على إيقاع الفيلم، بالرغم من تصوير العديد من المشاهد في قبو موحش، إلا أن الشد والجذب بين الشخصيتين، محاولات تيدي لكشف حقيقة ميشيل واستخدام طرق تعذيب واستجواب صارمة، ومحاولات ميشيل للتأثير على قريبه دون، الذي يبدو رافضا ما يحصل أمامه من انتهاكات، جعلتنا أمام إيقاع سردي سريع وتبدل مستمر للشخص المسيطر على زمام الأمور.

تحت الطبقة الوسطى

من جهة أخرى، يضع الفيلم فئة مجتمعية – هي محل سخرية في الكثير من الأحيان - تحت المجهر ويدرسها بشكل جدي حتى في الإطار الكوميدي العام. تيدي يبدأ الفيلم كأي شخص لم يكمل تعليمه ويقبع تحت الطبقة المتوسطة، مؤمن بالعديد من نظريات المؤامرة، في مقدمها الأرض المسطحة والكائنات الفضائية المخترقة لسكان الأرض، ويبدو عندما يتحدث، مجنونا تماما وهو يسرد العديد من الترهات التي يعاملها على أنها حقائق مثبتة علميا. جيسي بليمونز يتألق هنا في جعل درجة الجنون التي وصلتها شخصيته طبيعية وتلقائية، يبدو وهو يسرد معلوماته كأنه للتو قرأها من مرجع علمي معتمد.

مشهد من فيلم "بوغونيا"

لكن المأساة في قصة تيدي هي وقوعه وعائلته ضحية لشركة دوائية ضخمة تعتبر المصدر الأول للوظائف في مدينتهم الصغيرة، ووقوعهم ضحايا للعقاقير التي توفرها هذه الشركة وأخطاء تجاربها السريرية، هو مجرد حدث روتيني كفيل بإنهاء حياتهم كما عرفوها سابقا، ولكنه يظل روتينيا بالنسبة إلى الشركة ولا يتطلب سوى دفع مصاريف بسيطة تضمن بقاء أم تيدي في منشأة طبية لرعايتها في غيبوبتها حتى تموت. يقبع تيدي وقريبه دون في منزل منزوٍ على أطراف البلدة، حيث يمكن السكان أن يتجاهلوا مأساتهم كليا.

خصوصية لانثيموس

حتى وهو يقتبس عملا آخر، يستطيع لانثيموس إضفاء طبقة سخية من شخصيته وهويته حتى يبدو الفيلم نصا أصليا: التنقل السلس بين الكوميديا السوداء والكوميديا الجسدية للممثلين، طريقة التصوير الخاصة به التي تعطينا انطباعا بأنه يشاهد هذه الشخصيات تحت مجهر في مختبر طبي، والموسيقى الملحمية التي تقتحم الفيلم باستمرار حتى تضيف نبرة من الجدية والواقعية على عبثيته السردية.

 يقرر لانثيموس أن يقدم الشعرية في السينما قبل التفكير، ويفضل أن يجعل مشاهديه يستشعرون ما يحصل أمامهم بدل انتقاده أو تفسيره

يشرع الفيلم في مشهده الأخير بابا يقبع خلفه العديد من الأسئلة، ويحتفظ لانثيموس بأكبر مفاجآته حتى النهاية. عوضا من أن يترك النهاية مفتوحة ويعطي حرية التفسير لمشاهديه، يتخذ القرار نيابة عنهم ويعطيهم الإجابة صريحة، كل ذلك في سبيل تقديم مشهد شعري أخير، لا نستطيع التحديد بالضبط لماذا هو شعري وماذا يعني تفسيره، ولكن اختيار الأغنية والمونتاج الذي يعرض، يتركنا نشعر بهشاشة الحياة وسرعة تلاشيها. وخلف هذا الجواب الصريح الذي يقدمه، نقف حائرين أمام أسئلة أخرى.

في سبيل ثورته على طرق السرد التقليدية، يقرر لانثيموس أن يقدم الشعرية في السينما قبل التفكير، ويفضل أن يجعل مشاهديه يستشعرون ما يحصل أمامهم بدل انتقاده أو تفسيره.

font change

مقالات ذات صلة