على الرغم من الجهود الدبلوماسية الحثيثة التي يبذلها رئيس الولايات المتحدة دونالد ترمب للتفاوض على تسوية سلام دائمة لأوكرانيا، ما زالت آفاق تحقيق اختراق حقيقي تبدو قاتمة بسبب تعنت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
بعد أيام من المحادثات المكثفة بين مسؤولين أميركيين وأوكرانيين في جنيف في وقت سابق من هذا الشهر، سادت داخل إدارة ترمب مشاعر متزايدة بالثقة في أن الطرفين توصلا أخيرا إلى اتفاق يمكن أن يحظى بقبول كل من كييف والكرملين.
جاء العرض الأخير في صورة نسخة منقحة من الاتفاق الأصلي المكوّن من 28 بندا، الذي طرحه ترمب أساسا بوصفه إطارا لاتفاق سلام، عقب محادثات بين ستيف ويتكوف، المبعوث الخاص للرئيس، وكيريل ديميترييف، رئيس صندوق الثروة السيادية الروسي الذي يؤدي دورا مشابها نيابة عن بوتين.
لاقى المقترح الأول لترمب انتقادات واسعة من القادة الأوروبيين ومن أوكرانيا، إذ رأى هؤلاء أن التنازلات الإقليمية المعروضة على موسكو تعادل مكافأة بوتين على ارتكاب أعمال عدوان عسكري ضد أوكرانيا، لا محاسبته عليها.
ومع أن التفاصيل الدقيقة للعرض المجدد لم يُكشف عنها، يسود إجماع عام على أن التدخلات الأوروبية والأوكرانية عدلت عرض السلام الذي قدمه ترمب إلى حد أصبح معه مقبولا على نطاق واسع في كييف، حتى لو ظلت هناك قضايا عدة تحتاج إلى معالجة دقيقة.
بعد ترتيب الموقف مع الأوكرانيين، سافر ويتكوف وجاريد كوشنر، صهر ترمب، إلى موسكو هذا الأسبوع لإجراء محادثات مباشرة وجها لوجه مع بوتين في الكرملين، على أمل تحقيق اختراق نهائي في مسار تفاوضي بدأ أول مرة بعد عودة ترمب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني.
لم يُظهر بوتين قبل محادثات موسكو أي بوادر على التراجع عن مطلبه بأن تقدم أوكرانيا تنازلات مؤلمة، بينما ندد بالرئيس زيلينسكي واصفا إياه بزعيم غير شرعي لا يستطيع إبرام اتفاق معه
ورغم ذلك، ظل الجمود الدبلوماسي بشأن أوكرانيا قائما على الرغم من جولات سابقة من المحادثات في إسطنبول، وقمة في أغسطس/آب في ألاسكا جمعت ترمب وبوتين، إضافة إلى خمس زيارات سابقة إلى موسكو قام بها ويتكوف.
في مقابلة حديثة مع موقع "بوليتيكو"، سعى نجم التلفزيون الموالي للكرملين وعضو مجلس الدوما يفغيني بوبوف إلى تبرير موقف الكرملين المتصلب، إذ قال إن "أي قرارات لن تُتخذ إذا كانت تقوض أمن روسيا. يجب فهم ذلك بوضوح".
ويبدو أن ذهنية عدم المساومة هذه ظلت حاضرة خلال اجتماع الثلاثاء بين الوفد الأميركي وبوتين، إذ انتهى اللقاء، على الرغم من استمراره خمس ساعات، من دون أية إشارة إلى أن بوتين يميل إلى الموافقة على وقف إطلاق نار في وقت قريب. بل إن لغة جسد بوتين قبل بدء المحادثات أعطت انطباعا واضحا بأنه لا يضمر أي نوايا حقيقية للتوصل إلى تسوية.
وفي حين انتظر ويتكوف وكوشنر عن قصد لساعات عدة قبل انعقاد الاجتماع، وجد بوتين وقتا لعقد مؤتمر صحافي وجّه خلاله تهديدا جديدا إلى القادة الغربيين بشأن العواقب التي قد يواجهونها إذا واصلوا دعمهم لأوكرانيا. وقال: "نحن لا نخطط لشن حرب على أوروبا، لكن إذا قررت أوروبا أن تبدأ حربا، فنحن مستعدون الآن".
وسبق أن اتهم بوتين أوروبا بتخريب علاقات روسيا مع الولايات المتحدة، من خلال طرح مطالب لا تستطيع موسكو قبولها وبعرقلة مسار السلام.
علاوة على ذلك، لم يُظهر بوتين في الأيام التي سبقت محادثات موسكو أي بوادر على التراجع عن مطلبه بأن تقدم أوكرانيا تنازلات إقليمية مؤلمة، بينما ندد بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي واصفا إياه بزعيم غير شرعي لا يستطيع إبرام اتفاق معه.
لذلك لم يكن مستغربا أن يجيء العرض الروسي لنتائج المحادثات مع ويتكوف وكوشنر متشائما، حتى لو كان كيريل دميترييف، الذي حضر الاجتماع، وصف اللقاء بأنه "مثمر". ووصف يوري أوشاكوف، مستشار بوتين للسياسة الخارجية الذي شارك أيضا في الاجتماع، المحادثة لاحقا بأنها "مفيدة وبناءة وعميقة للغاية". لكنه أضاف أن أمام الجانبين "الكثير من العمل" بعد. وقال: "نحن لسنا أبعد عن السلام، هذا مؤكد".
وأوضح أوشاكوف أن بوتين أبلغ الأميركيين بأن روسيا يمكن أن توافق على بعض أجزاء الخطة الأميركية لكنها تعترض على أجزاء أخرى. وأضاف: "الرئيس لم يخف موقفنا النقدي، بل والسلبي، من عدد من المقترحات". وأشار إلى "الإجراءات الهدامة من الجانب الأوروبي"، في إشارة إلى أن بوتين قد يسعى إلى تحميل الاتحاد الأوروبي مسؤولية أي فشل في التوصل إلى اتفاق سلام، علما أن الاتحاد استُبعد بشكل لافت من الاجتماع.
وبعيدا عن الخلافات الإقليمية، يشكل مطلب أوروبي أساسي عقبة أخرى كبرى أمام بوتين، إذ تصر أوروبا على السماح لأوكرانيا بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي بعد انتهاء النزاع، بوصفه وسيلة لضمان أمن كييف في مواجهة أي أعمال عدوان روسية مستقبلية. وتعارض روسيا هذا المقترح بشكل قاطع، وأكد أوشاكوف أن احتمال انضمام أوكرانيا إلى "الناتو" كان "سؤالا رئيسا" جرت مناقشته في موسكو.
وعلى الرغم من حالة الجمود، أعربت روسيا عن استعدادها لمواصلة التفاوض، إذ وصف مسؤول في الكرملين القضايا الإقليمية بأنها "المسألة الأهم". وقال أوشاكوف إن الإعداد لا يجري في الوقت الراهن لعقد لقاء بين بوتين وترمب، مؤكدا أن انعقاد مثل هذا الاجتماع يعتمد على مدى التقدم في التوصل إلى تسوية سلمية.
في المقابل، يبدو أن إدارة ترمب عازمة أيضا على متابعة جهودها لإنهاء النزاع في أوكرانيا، إذ أجرى مسؤولون أميركيون وأوكرانيون محادثات في فلوريدا لمناقشة نتائج اجتماع الكرملين ومحاولة رسم الخطوات التالية.
وأكد ترمب أن المحادثات كانت "جيدة إلى حد معقول". لكنه أضاف أن الوقت ما زال مبكرا للحكم على ما سيحدث، "لأن الأمر يتطلب طرفين للرقص على التانغو". وعندما سأله أحد الصحافيين عما إذا كان ويتكوف وكوشنر يعتقدان أن بوتين يرغب حقا في إنهاء الحرب، أجاب ترمب أن بوتين "يود إنهاء الحرب. هذا كان انطباعهما".