وثيقة الأمن القومي... أميركا في حِلٍ من حلفائها

ن تتورط الولايات المتحدة في صراعات دولية لا تشكل تهديدا مباشرا لأمنها القومي

وثيقة الأمن القومي... أميركا في حِلٍ من حلفائها

استمع إلى المقال دقيقة

استراتيجية الأمن القومي الأميركي لعام 2025 من الوثائق التي تكرس الاتجاه الجديد في السياسة الدولية وفي الشرق الأوسط. فهي تعلن من دون لبس أن الولايات المتحدة تخلت عن دورها كقاطرة للأمن والاقتصاد والاستقرار العالمي، وستقبل بدور "أول بين متساوين" يبرزون اليوم على الساحات العالمية وخصوصا الصين.

الشرق الأوسط لم يحظ باهتمام خاص، وهو مسار مستمر منذ أن أعلن الرئيس الأسبق باراك أوباما "التحول الكبير نحو آسيا" في 2011، بالتزامن مع سحب الجزء الأكبر من القوات الأميركية من العراق في ذلك العام الذي مهد لتغيرات عميقة في المنطقة.

الاستراتيجية الجديدة تعزز الوجهة هذه وتؤكد أن الصادرات النفطية من الشرق الأوسط قد تراجعت أهميتها بالنسبة إلى الاقتصاد الأميركي، لكن من المهم للأمن القومي حماية الممرات البحرية والدفاع عن إسرائيل ودعم الحلفاء.

النفط والطاقة عموما والعلاقة مع الحلفاء من المسائل الرئيسة. فالنفط والغاز الأميركيان صنفتهما الوثيقة "حجر زاوية" الأمن القومي وشددت على ضرورة تعزيز دورهما على حساب الطاقة المتجددة وقليلة الانبعاثات على الرغم من أنها أصبحت ركنا من أركان الأمن الصيني، حيث تعتمد بكين على استيراد كميات ضخمة من النفط ما يشكل نقطة ضعف قاتلة في حال اندلاع أي نزاع، فيما تشعر واشنطن بأنها في مأمن من هذا الخطر. بل إن الطاقة البديلة بحسب الوثيقة قد تسببت في عدد من الانتكاسات في أوروبا وشكلت عنصرا من عناصر أزمتها الاقتصادية المزمنة.

الأهم أن الولايات المتحدة تدعو حلفاءها إلى المزيد من الاعتماد على الذات وتعلن بصراحة أن مجال تركيزها سيكون النصف الغربي من الكرة الأرضية حيث ستزيد إنفاقها العسكري والاستخباري. ولن تتورط الولايات المتحدة في صراعات دولية لا تشكل تهديدا مباشرا لأمنها القومي الذي اتسع تعريفه– بالمناسبة– في الوثيقة الجديدة ليشمل حماية الهوية الثقافية ومنع الهجرة.

ليست جديدة النظرة الدونية التي تنظر بها إدارة ترمب إلى أوروبا والعداء الصريح للاتحاد الأوروبي باعتبار أنه يمثل النقيض التام لكل ما يؤمن به ترمب من دور للدول في الاقتصاد والرقابة والتدخل في الشأن العام

أما أوروبا فظهرت بمظهر الصديق الذي لا يؤمل في الكثير من صداقته. فهي تعاني من "أزمة هوية وشيخوخة وهجرة" وعليها أن تقف على قدميها بمفردها وأن لا تنتظر أن تهب الجيوش الأميركية للدفاع عنها ما لم تكن المصالح الأميركية معرضة لخطر واضح.
وليست جديدة النظرة الدونية التي تنظر بها إدارة الرئيس دونالد ترمب إلى أوروبا والعداء الصريح للاتحاد الأوروبي باعتبار أنه يمثل النقيض التام لكل ما يؤمن به ترمب ومَن حوله من دور للدول في الاقتصاد والرقابة والحق في التدخل في الشأن العام. بيد أن النظرة تلك تنطوي أيضا على إعلان النهاية العملية للتحالف الذي نشأ أثناء الحرب العالمية الثانية وتعزز إبان الحرب الباردة وهو ما سيترك الأوروبيين من دون الجزء الأهم من دفاعاتهم في وقت يرون أن "التهديد الروسي" آخذ في التصاعد مع استمرار الحرب في أوكرانيا. 
وهذا ما كان محور اللقاء الذي عقده رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني فرديريش ميرتس في لندن (وشارك فيه عن بُعد مسؤولون في دول أوروبية أخرى) بعدما أبدى ترمب "خيبة أمل صغيرة" من موقف زيلينسكي من الخطة الأميركية المقترحة لوضع حد للحرب بين أوكرانيا وروسيا. 
أما الأوروبيون الذين يرون أن لا مجال للتراجع أمام التقدم الروسي استنادا إلى تجارب تمتد من أوائل القرن التاسع عشر واحتلال باريس بعد هزيمة نابليون بونابرت في 1814 وصولا إلى دخول القوات السوفياتية إلى برلين في 1945، فسوف تدفعهم وثيقة الأمن القومي الأميركي إلى مستوى جديد من الاضطراب حيث تفتقر القارة (ومن ضمنها بريطانيا على الرغم من خروجها من الاتحاد الأوروبي) إلى القيادة والمشروع والرؤية الكفيلة بمواجهة روسيا أو بالتوصل إلى تسوية تاريخية جديدة معها لا تكون الولايات المتحدة رافعتها الرئيسة. 
عليه، يجوز وضع الوثيقة كواحدة من العلامات على الطريق الذي يسير فيه عالم اليوم الذي لا ينقصه الغموض والتوتر والخشية من المفاجآت الكارثية. 

font change