أصبح واضحا أن الملف المتعلق بالتنظيم الإخواني، وكل مشتقاته السياسية والاعتبارية وامتداداته الإقليمية، لم يعد يحتمل مزيدا من الالتفاف أو التدوير، فالأردن وهو يدخل عاما جديدا، يقف أمام سؤال دولة لا سؤال سياسة عابرة، سؤال يتعلق بعلاقته مع التنظيمات الآيديولوجية العابرة للحدود، وفي مقدمتها التنظيم الإخواني، لا بوصفه حزبا أو معارضة تقليدية، بل بوصفه بنية ممتدة، متعددة المستويات، قادرة على التكيّف، وعلى إعادة إنتاج نفسها كلما تغيّرت الظروف وتبدلت الموازين.
ولم يعد الحديث هنا عن تنظيم يعمل داخل المجال السياسي فقط، بل عن شبكة تعرف كيف تتحرك بين السياسة والمال والعمل الاجتماعي، وحين تفرض اللحظة ذلك، بين السلاح والفوضى، فهذا التنظيم راكم خبرته عبر عقود طويلة، وتعلم كيف يبني مساحات موازية للدولة، ثم يعود ليطالب بالشرعية حين تتغير الظروف، وفي كل مرة يبدل لغته وخطابه، لكنه يحتفظ بالجوهر نفسه وبالمنطق ذاته.
وفي الأردن، لم تبدأ العلاقة بصدام، بل بتعايش محسوب، إذ رأت الدولة أن التنظيم في لحظة تاريخية مكون يمكن استيعابه، وربما توظيفه في مواجهة تيارات أخرى، وفي المقابل رأى التنظيم في الدولة مساحة آمنة للتمدد البطيء داخل المجتمع، والتعليم، والنقابات، والعمل الخيري، من دون كلفة سياسية مباشرة، وهكذا تشكلت منطقة رمادية، لا مواجهة فيها ولا حسم، بل إدارة مؤجلة للملف.
لكن مع الزمن تغيرت المعادلة، ومع الانفتاح السياسي في أواخر الثمانينات خرج التنظيم من الهامش إلى اختبار المركز، فتحول البرلمان من منصة تمثيل إلى أداة ضغط، وتحول الشارع من مساحة تعبير إلى ورقة تفاوض، ثم جاءت اضطرابات الإقليم بعد 2011، فزاد منسوب الثقة داخل التنظيم، وبدأ يتصرف وكأن لحظته التاريخية قد حانت، وكأن الدولة يمكن دفعها إلى شراكة مفروضة لا إلى تفاهم متوازن.
وردّ الدولة جاء، ولكن بشكل متدرج وحذر، فكان هناك تفكيك قانوني في مكان، وتشجيع لانقسامات في مكان آخر، ومحاولات لإعادة ضبط العلاقة من دون إعلان قطيعة كاملة، وكان الهدف واضحا: تجنب فتح جبهة داخلية في لحظة إقليمية شديدة الاضطراب. غير أن ما لم يحسم في لحظة هدوء، يعود دائما في لحظة ضغط، ولكن بكلفة أعلى وبشروط أصعب.
واليوم تغير السياق بالكامل، فالأردن لم يعد في مرحلة إدارة أزمات فقط، بل دخل مرحلة مشروع، مشروع تحديث اقتصادي وسياسي، مرتبط بتكامل إقليمي واسع في الطاقة، والنقل، والاستثمار، وسلاسل الإمداد، وهذا النوع من المشاريع لا يحتمل أي اهتزاز داخلي، ولا يقبل ازدواجية في مراكز التأثير، ولا يسمح بوجود أي تنظيم يعمل بعقلية الدولة داخل الدولة.
التحديث لا يبنى في بيئة رمادية، ولا ينجح في ظل تنظيمات آيديولوجية ترى الدولة مرحلة لا إطارا نهائيا
وفي مثل هذه اللحظة، يصبح السؤال مختلفا، ليس: هل نحتوي؟ بل: هل نقرر؟ لأن التحديث لا يبنى في بيئة رمادية، ولا ينجح في ظل تنظيمات آيديولوجية ترى الدولة مرحلة لا إطارا نهائيا، وأي اهتزاز سياسي اليوم لا يربك الحكومة وحدها، بل يضرب ثقة الشركاء، ويضع علامات استفهام حول قدرة الدولة على حماية مسارها الاقتصادي والسياسي.
وفي الخلفية، يبرز بُعد أكثر تعقيدا، فالتنظيم الإخواني لم يعد يتحرك منفردا، بل ضمن شبكة علاقات إقليمية متشابكة، وفي قلبها علاقته بـ"حماس"، التي تمثل الذراع المسلحة الأبرز للتنظيم في الإقليم، وحين تتداخل السياسة مع العسكرة، يصبح الفصل بين العمل الحزبي والعمل المسلح مجرد خطاب، لا واقعا، وهذه العلاقة لم تكن هامشية يوما، بل كانت جزءا من معادلة أوسع، ترى في الصراع وسيلة دائمة لإعادة إنتاج الشرعية والتعبئة.
وإلى جانب ذلك، لا يمكن تجاهل تقاطعات التنظيم مع إيران، لا بوصفها حليفا آيديولوجيا، بل بوصفها مظلة وظيفية لقوى التعطيل المسلحة في الإقليم، حيث تلتقي المصالح عند نقطة واحدة، وهي إضعاف الدولة الوطنية، واستنزافها، وإبقاؤها في حالة توتر دائم، وفي هذا السياق لا تقاس العلاقات بالنوايا المعلنة، بل بالنتائج، وكل مسار يؤدي إلى تعطيل الاستقرار يصب في الخانة نفسها، مهما اختلفت الشعارات أو تبدلت الخطابات.
وهذا التداخل بين التنظيمات الآيديولوجية، والحركات المسلحة، والدول الراعية للفوضى، يفسر إلى حد كبير إعادة تموضع التنظيم إقليميا، فالسودان تحول إلى ساحة "إخوانية" مفتوحة لإعادة البناء، لا عبر السياسة، بل عبر التغلغل في مؤسسات ضعيفة، والاستفادة من الفوضى، وتأمين ملاذات مالية ولوجستية، بعيدا عن الرقابة الصارمة، بينما بقيت سوريا ساحة انتظار طويلة، بفوضاها المزمنة وتعدد مناطق النفوذ فيها، أما ليبيا، فهي الأخطر، لأنها دولة بلا مركز قرار موحد، ومليئة بالسلاح، ومفتوحة على شبكات تمويل وتهريب، حيث يختلط التنظيم بالميليشيا، وتتشابك السياسة مع الاقتصاد الأسود.
وكل ذلك يُقرأ جيدا في العواصم الكبرى، وخصوصا في واشنطن، حيث لا ينظر إلى التنظيم من زاوية شعاراته أو خطابه العلني، بل من زاوية أثره العملي، هل يضيف استقرارا أم يراكم مخاطرة، والتجربة هناك واضحة، فالتنظيم لم يتحول إلى حزب مدني تقليدي، ولم يفصل نفسه عن شبكاته العابرة للحدود، ولم يقدم ضمانات حقيقية لاحترام منطق الدولة الوطنية.
لا يحمل عام 2026 في الأردن رمزية رقمية بقدر ما يحمل تقاطعا حساسا، بين إعادة ترتيب إقليمي، ومراجعات دولية للدور الأميركي، وضغوط داخلية مرتبطة بالاقتصاد والهوية السياسية
وفي هذه القراءة، لا ينظر إلى الأردن بوصفه دولة هامشية يمكن اختبارها، بل بوصفه ركيزة استقرار، ولذلك فإن أي عودة إلى تسويات رمادية مع هذا النوع من التنظيمات ستتم قراءتها كإشارة ضعف لا مرونة، وفي المحصلة فإن المطلوب ليس الصدام، بل وضوح الخطوط، وحدود المشاركة، ومكان الدولة. من هنا فإن عام 2026 لا يحمل رمزية رقمية بقدر ما يحمل تقاطعا حساسا، بين إعادة ترتيب إقليمي، ومراجعات دولية للدور الأميركي، وضغوط داخلية مرتبطة بالاقتصاد والهوية السياسية، وفي مثل هذه اللحظات، لا تدار الدول بالمسكنات، بل بالقرارات.
والتنظيم يعرف ذلك، ولهذا يلعب على الوقت، فيهدّئ هنا، ويصعّد هناك، بانتظار ثغرة ملائمة للولوج ثم التموضع وبعدها التوسع الممول والهادئ. أما الدولة، فهي أمام خيار واحد، إغلاق هذا الفصل بهدوء وحزم، أو تركه مفتوحا ليعود في لحظة أكثر تعقيدا وأعلى كلفة.
وفي المحصلة، لا يحتاج الأردن إلى معركة، لكنه يحتاج إلى قرار، قرار يُنهي مرحلة الالتباس، ويعيد تعريف العلاقة بين الدولة والعمل السياسي، بلا استثناءات آيديولوجية، وبلا تنظيمات فوق وطنية، لأن التاريخ لا يعاقب من يخطئ فقط، بل يعاقب من يتأخر في الفهم أيضا.