يعود "داعش" للظهور من جديد بعد حادثة سيدني التي يبدو أنها نفذت بذئاب "داعشية" منفردة، تلقت تدريباً خارج أستراليا. وفي وقت سابق كان التنظيم الإرهابي قد قام بقتل جنديين أميركيين ومترجم في سوريا، ما دفع الرئيس الأميركي دونالد ترمب ليلوح بالرد الذي لم يـتأخر ونفذ يوم الجمعة الماضي، وأعلن لاحقا أنه استهدف قائد خلية "داعشية" في منطقة دير الزور، وهي حسب البيان الأميركي، الخلية المسؤولة عن الطائرات المسيرة في التنظيم الإرهابي.
هذا التصعيد في المواجهة الأميركية التي جرت بشراكات إقليمية، وموافقة سورية على عملية "عين الصقر" التي نفذتها الولايات المتحدة وحلفاؤها داخل الأراضي السورية للرد على تصعيد تنظيم "داعش" الأخير، ومحاولة تعقبها في أكثر من سبعين هدفا وسط سوريا في مناطق من ريف حمص ودير الزور والرقة، إقرار واضح بخطورة التنظيم وعدم موته. إذ إن "داعش" وفقاً لرصد الأجهزة الأمنية والاستخبارية الإقليمية والدولية والمعاهد المتخصصة التي كانت تراقب حركات التنظيم، أكدت محاولاته المضي بالتجنيد والاستقطاب لعناصر جديدة، قد تقوم بالمزيد من العمليات الإرهابية.
الهجوم "الداعشي" داخل الأراضي السورية، كان واضحا منه رائحة الغضب الذي عبر عنه "داعش" بفعل انضمام سوريا الجديدة- عقب زيارة الرئيس أحمد الشرع للولايات المتحدة قبل نحو شهر- إلى التحالف الدولي لمحاربة التنظيم الذي تأسس عام 2014 والذي ألحق هزيمة كبيرة بالتنظيم، وقدم دعما مسانداً للجهود الوطنية والإقليمية في الأردن والعراق وسوريا لمكافحة التنظيم، والذي انتهى بسقوط آخر معاقله في منطقة باغوز في سوريا خلال مارس/آذار 2019.
تكمن أهم معضلات مواجهة تنظيم "داعش"، في تحدي إزالة الإرث الفكري للتنظيم الذي بات قابلا للاستعادة عند بعض المجتمعات، وفي تحقيق العدالة ورفع التهميش فيها
لكن السقوط العملياتي لم يكن يعني نهاية الآيديولوجيا المتطرفة للتنظيم التي تساوقت مع آيديولوجيات متطرفة أخرى لدى جماعة "الإخوان المسلمين" التي رفضت إدانة "داعش" وكل من يتخذ الإرهاب سبيلاً لتحقيق أهدافه، وكذلك الحال مع إيران كآيديولوجيا متطرفة في المنطقة، وتحارب باسم الدين ونشر التشيّع. مغلفة ذلك بخطاب مقاومة أميركا، للاستمرار بسياساتها البشعة في المنطقة والمتمثلة في ضرب استقرار الدول.
وفي العراق، ظلّت للتنظيم جذوره الفكرية المتشددة، وبخاصة في المناطق الغربية والشمالية الغربية منه في محافظات ديالى والأنبار وصلاح الدين وبعض أنحاء محافظة نينوى، وللأسف يغلب على هذه المحافظات المكون السني، ففي دراسة لمعهد واشنطن للسياسات قدم الباحث عمر ضبيان- في نشرة شهر أبريل/نيسان 2024- تحليلا واضحا لبقايا التنظيم وعوامل بقائه، وأشارت الدراسة إلى أسباب نمو الفكر المتطرف والسياسات المحلية الحاكمة والمظالم التي أثرت سلباً على السكان. ما أوجد فراغا كبيرا بعد زوال التنظيم، وهنا تكمن مشكلة تأهيل المجتمع بعد الاستشفاء من المرض الصعب الذي ضرب قواعده الثقافية والفكرية ومرجعياته. وفي العامين 2022-2023 كان أكثر البلدان تعرضا لعمليات "داعش" هي العراق وغرب أفريقيا وسوريا، ما يؤكد غياب الاستقرار والبديل المكافئ لمواجهة التطرف "الداعشي".
تكمن أهم معضلات مواجهة تنظيم "داعش"، في تحدي إزالة الإرث الفكري للتنظيم الذي بات قابلا للاستعادة عند بعض المجتمعات، وفي تحقيق العدالة ورفع التهميش فيها، وبخاصة في مناطق غرب العراق، وفي رفع القدرات الأمنية وقدرات الجيش السوري، ما يجعل التنبه السوري خاصة في منطقة الجزيرة بعامة ومناطق الريف منها بخاصة، في أفضل حالاته، بعد إسقاط النظام السوري البائد. وتبدي القيادة السورية كل تعاون مع الأطراف الدولية المشاركة بالتحالف الدولي لمحاربة التنظيم.
الخطر الذي تمثله أفكار "داعش" النائمة التي تنتظر الأوامر في أي لحظة، لا يقل عن خطر أي عملية معلن عنها، ولا حل إلا باستعادة الدولة الوطنية في العراق وسوريا
لذلك، يجب تبديد خطاب التنظيم في تبنيه شعار حماية حقوق السنة في العراق عبر "إدارة التوحش" كما صاغها أحد منظري السلفية الجهادية أبو بكر ناجي ونفذها مؤسس التنظيم أبو بكر البغدادي، ودفع منظومة العمل الأمني السوري والقدرات العسكرية لإعادة تنظيمها وتسليحها بأسلحة نوعية خاصة في مناطق الحدود السورية-العراقية ومناطق الجزيرة السورية. ويجب تنظيم المزيد من دورات التدريب للقوات السورية بهدف الحدّ من قدرات التنظيم العسكرية، وللأسف مرة أخرى تدفع المنطقة ضريبة كبيرة، جراء الانسحاب الأميركي من العراق وإطلاق يد إيران فيه.
وكما أن مخيم الهول الذي تشرف عليه "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) هو ندبة في وجه الاستقرار السوري المنشود، ويمثل تحديّا بسبب نوعية المجاميع الساكنة فيه من عائلات مقاتلي "داعش" المتعطشين للدماء بآيديولوجيا قروسطية، إلا أن الفاعل الأميركي لا بديل عنه في المواجهة، وفي الضغط المطلوب على قوات "قسد" لتكون في صف الدولة السورية واستقرارها، ذلك أن خطر تنظيم "داعش" يمثل قنبلة ساكنة في الشرق الأوسط كله.
ختاما، إن الخطر الذي تمثله أفكار "داعش" النائمة التي تنتظر الأوامر في أي لحظة، لا يقل عن خطر أي عملية معلن عنها، ولا حل إلا باستعادة الدولة الوطنية في العراق وسوريا، وفي تعظيم القدرات الوطنية، وإيجاد خطاب وطني للجميع، وتحقيق العدالة في التنمية وفي التمثيل السياسي بما يعزز المنعة الوطنية في الدول المهددة أو التي يجد فيها "داعش" منفذا لبث سمومه، فصحيح أن التنظيم قد يبدو مشلولا مالياً بفعل التتبع لمصادر التمويل وتجفيفها، ومراقبة عملية نقل الأموال، إلا أنه ما زال حياً فكرياً وثقافياً.