حلب وحضرموت... تذكير بما لم يجرِ

بينما تبدو النزعات الفيدرالية واضحة في العراق يسير الوضع في لبنان إلى نوع من الفيدرالية غير المعلنة

حلب وحضرموت... تذكير بما لم يجرِ

استمع إلى المقال دقيقة

هل يمكننا، من دون افتعال وتصنع، إقامة رابط بين تصاعد التوتر في اليمن ضمن من يفترض أنهم في خندق واحد ضد الحوثيين وجولات القتال المتقطع التي تشهدها سوريا بين "قوات سوريا الديمقراطية" ووحدات الجيش السوري؟ وهل من تشابه بين الحرب المتمادية في السودان وبين انسداد العملية السياسية في ليبيا وتكريس الانقسام بين شرق البلاد وغربها؟

على الصورة هذه ينتهي العام الحالي في الدول العربية. فمن جهة، تحققت قفزات في جهود العثور على مواقع راسخة في التوازنات الدولية الجديدة وتغيير الطبيعة الاقتصادية للكثير من الدول والانتقال بها من الاستهلاك إلى الاستثمار، ومن جهة مقابلة، سيطر جمود قاتل على معضلات تجاوز عمرها عقودا عدة أبرزها الموقف من الدولة الوطنية وشرعيتها واتساع تمثيلها لما بات يُعرف بـ"المكونات" الطائفية والعرقية والجهوية.

النموذجان العراقي واللبناني لـ"الديمقراطية التوافقية" أي لتقاسم السلطة بين المكونات في ما يشبه الحكم الذاتي الخارج عن نطاق المحاسبة والعدالة والمواطنة وتقديم الهوية التوقيعية (بتعبير الباحث الراحل إيليا حريق) على الهوية الوطنية، أي إعلاء تعريف الفرد لنفسه كعضو في جماعة ذات صفات مميزة واقعية أو متخيلة، على الانتماء إلى دولة ذات دستور وقوانين وأنظمة ملزمة لكل الأفراد والجماعات بغض النظر عن خصوصياتها، لم يكونا (النموذجين) لا ناجحين ولا عادلين في توزيع السلطة بين الجماعات التي لجأ بعضها إلى السلاح والعنف بذرائع مختلفة كمواجهة "داعش" في العراق أو مقاومة إسرائيل في لبنان للاستيلاء على الدولة بأسرها وتطويعها خدمة لمشروعيه المحلي والإقليمي اللذين أفضيا إلى أزمتين سياسيتين في البلدين المذكورين.

أما الأطراف الداعية إلى وحدة الدولة ومركزيتها، فلا تبدو بقادرة على التعامل السلمي والندي مع "المكونات" ما لم تتدخل قوى إقليمية وازنة في وساطات معقدة ومكلفة. هذا ما نراه على سبيل المثال في اليمن في الشهور القليلة الماضية، وفي السودان. فلا مخارج من الحرب الأهلية والانقسام في لغة الطرف الداعي إلى مركزة السلطة، سوى المخارج المؤقتة والآنية التي يتهرب أصحابها من الاعتراف بعمق الانقسامات الأهلية وفشل تجارب الوحدة والحكم المركزي.

لا مخارج من الحرب الأهلية والانقسام في لغة الطرف الداعي إلى مركزة السلطة، سوى المخارج المؤقتة والآنية التي يتهرب أصحابها من الاعتراف بعمق الانقسامات الأهلية وفشل تجارب الوحدة والحكم المركزي

وبينما تبدو الاتجاهات الفيدرالية واضحة في العراق حيث بات إقليم كردستان حقيقة لا يمكن تجاوزها على الرغم من المناكفات الدائمة حول الموازنات والمناطق المتنازع عليها مثل كركوك والأزمة الدورية التي تعقب كل انتخابات تشريعية حول تشكيل حكومة تعكس "التوازنات" أو بكلمات واضحة، حدود الدورين الإيراني والأميركي معا، يسير الوضع في لبنان إلى نوع من الفيدرالية غير المعلنة، حيث تتساكن الحرب الإسرائيلية على الجنوب وبعض البقاع مع حركة سياحية ناشطة واستقرار أمني نسبي في الجبل والشمال و"مدينة مفتوحة" في العاصمة بيروت. ثلاثة أنواع من السلطة التي تنتظر "شيئا ما" غير محدد أو مفهوم بالنسبة إلى الأكثرية اللبنانية. هل هو توقف الحرب الإسرائيلية وعودة النازحين إلى قراهم المدمرة وإعادة إعمار هذه الأخيرة؟ هل هو الإصلاحات الاقتصادية والمالية التي تشترط المؤسسات الدولية تحقيقها قبل تقديم المساعدة لترميم البنية التحتية المتهالكة واستعادة دور القطاع المصرفي الذي أدى دورا كارثيا في الانهيار الذي أصاب لبنان في 2019؟ إلى جانب الكثير من المعضلات المتعلقة برؤية كل جماعة لدورها في حاضر ومستقبل لبنان. 
ولعل ما جرى في حلب وحضرموت خلال الأيام والأسابيع القليلة الماضية كان التذكير الأخير في السنة التي تقارب على الانتهاء، بأن مسألة الدولة والشرعية والحكم والتفويض والتمثيل والمشاركة السياسية والاعتراف بالهويات المتعددة والحقوق الثقافية، لم تتقدم تقدما يذكر وأن اللجوء إلى السلاح لتسوية هذه المعضلات لا يزال خيارا مفضلا عند كثيرين وأن الخارج ليس دائما صديقا أو حليفا موثوقا. 
كل هذا يدور ضمن تصور مفاده أن الدولة كشكل للاجتماع السياسي لا يزال قابلا للحياة، وهو ما يحتاج إلى بحث طويل.

font change