قطعت وثيقة "استراتيجية الأمن القومي الأميركي" الجديدة قول كل خطيب. حيث تفصح هذه الوثيقة عن اتجاهات إدارة الرئيس دونالد ترمب في السياسة الخارجية والدفاع والاقتصاد كما لم يحدث من قبل منذ تنصيبه في يناير/كانون الثاني الماضي.
أولوياتٌ جديدة غير مسبوقة، وفي مقدمتها مواجهة الهجرة غير النظامية وتهريب المخدرات، في حين أن الصين هي التي كانت في هذه المرتبة في "وثيقة الاستراتيجية" السابقة. هذه هي الأولوية الأولى من بين أربع أولويات تحددها الوثيقة وهي حسب ترتيبها: الأمن الداخلي والحدود، ونصف الكرة الغربي، والأمن الاقتصادي، ثم الصين ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وواضح مدى الارتباط الوثيق بين الأولويتين الأولى والثانية. فحماية الأمن الداخلي والحدود، ومن ثم مكافحة الهجرة غير النظامية وتهريب المخدرات، تتطلبان اهتماما خاصا بأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي التي تدخل جغرافياً ضمن نصف الكرة الغربي. لذا فليس غريبا أن يُشار في الوثيقة إلى استحداث نسخة جديدة من "مبدأ مونرو" الذي يعتبر أميركا اللاتينية والكاريبي بمثابة الحديقة الخلفية للولايات المتحدة. وهكذا تعيد وثيقة "استراتيجية الأمن القومي" الجديدة عقارب الساعة إلى الوراء مئتي سنة ويزيد، عندما أعلن الرئيس جيمس مونرو هذا المبدأ في خطاب حالة الاتحاد السنوي أمام الكونغرس عام 1823. يُعاد إحياء "مبدأ مونرو"، إذن، ولكن بهدف مختلف تماما. فالهدف الآن هو درء الهجرة غير النظامية التي يدخل أغلبها عبر الحدود الجنوبية مع المكسيك، ومكافحة تهريب المخدرات الذي تُتهم فنزويلا ونظام الحكم فيها بتشجيعه، ومنع قوى معادية من إيجاد موطئ قدم لها قريبا من حدود الولايات المتحدة. والمقصود بهذه القوى في الأساس إيران التي تدعم نظام الرئيس نيكولاس مادورو في فنزويلا.
ولكن الرسالة موجهة أيضا إلى الصين وروسيا رغم أنهما لم تُعدّا قوتين معاديتين حسب هذه الوثيقة بخلاف سابقاتها. أما الهدف قبل مئة عام فكان التصدي لمحاولات قوى أوروبية للسيطرة على أميركا اللاتينية وتعزيز هيمنة الولايات المتحدة في حديقتها الخلفية حسب هذا المبدأ.
وهكذا تفيد وثيقة استراتيجية الأمن القومي الجديدة بأن استقرار محيط الولايات المتحدة الإقليمي ضروري لأمنها القومي، وتضعه في صدارة أولوياتها. لذا يدعو معدوها إلى توسيع الحضور العسكري والاستخباراتي والاقتصادي فيه. وهذا يفسر التصعيد الأميركي غير المسبوق ضد فنزويلا وصولا إلى التهديد بالتدخل العسكري لتغيير نظام الحكم فيها بعد اتهامه بتشجيع تجارة المخدرات وتوفير نقطة ارتكاز لإيران في المنطقة التي باتت في صدارة الأولويات الأميركية متقدمة بذلك على القوى الكبرى الأخرى وسابقةً الصين رغم كل ما لها من أهمية قصوى في سياسة الولايات المتحدة الخارجية اقتصاديا وتجاريا، وسياسيا أيضا بطبيعة الحال.
واتصالا بهذه الأولوية الجديدة تدعو الوثيقة إلى إعادة ضبط الوجود العسكري الأميركي للتعامل مع التهديدات العاجلة في نصف الكرة الغربي، والابتعاد عن المسارح التي تراجع تأثيرها النسبي على الأمن القومي الأميركي في الفترة الأخيرة.
وهذا جديد فاق التوقعات بشأن مدى التغيير الذي تحدثه الإدارة الأميركية الحالية في سياسات الولايات المتحدة وتوجهاتها. فلم تعد الصين تعتبر التهديد الرئيس أو التحدي الأكبر والأكثر خطورة، بخلاف الحال في وثائق الأعوام الماضية. فالصين في الوثيقة الجديدة، منافس اقتصادي واستراتيجي يجب ردعه، وشريك تجاري ينبغي تعزيز العلاقات معه بما يحقق المصالح الأميركية. كما تُعتبر الصين، في هذه الوثيقة، قوة عسكرية ينبغي العمل على منعها من تحقيق الهيمنة الإقليمية في محيطها في شرق آسيا.
ولم تفت معدّي الوثيقة في هذا المقام مطالبةُ حلفاء الولايات المتحدة الآسيويين بزيادة إنفاقهم العسكري والقيام بدور أكبر في الدفاع المشترك لمواجهة محاولات الهيمنة الصينية. كما يدعو معدو الوثيقة حلفاء واشنطن الآسيويين إلى استمرار العمل لإعادة التوازن في العلاقات التجارية مع الصين على أساس من المعاملة بالمثل، وتقليل الاعتماد على سلاسل التوريد الصينية ضمن اتجاه استراتيجي أوسع لإبادة بناء الصناعة الأميركية، والدفع لأن تقود التكنولوجيا والمعايير الأميركية العالم خصوصا في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية. والملاحظ أن الوثيقة تعامل الصين، على هذا النحو، باعتبارها منافسا يتعين التفوق عليه، وليس عدوا أيديولوجياً تجب هزيمته.
لا يخفي معدو الوثيقة دعم واشنطن لأحزاب اليمين المتطرف لأنها في تصورهم القادرة على تغيير مسار أوروبا الانحداري الحالي
وينسجم ذلك مع الاتجاه العام الجديد في هذه الوثيقة وهو نزع العامل الأيديولوجي في العلاقات الدولية. فهي تخلو مما حفلت به الوثائق السابقة بشأن صراع الديمقراطية ضد الاستبداد، ومعركة القيم، وما إلى ذلك. ويوضح معدوها أنها ليست مبنية على الأيديولوجيا وأن واشنطن لن تفرض النظام الديمقراطي على أحد.
ولعل هذا يفسر أيضا النقد اللاذع الذي يوجهه معدو الوثيقة إلى أوروبا، التي تُصور كمنطقة فقدت بوصلتها، وهُمشت مؤسساتها المجتمعية الأساسية مثل الأسرة، وخسرت هويتها الثقافية أو كادت بسبب فتح أبوابها أمام المهاجرين إلى حد أنه قد يصعب التعرف على الحضارة الأوروبية خلال عقدين من الزمن، وكذلك نتيجة اتباع سياسات اقتصادية وُصفت بأنها يسارية مما أدى إلى تراجع إسهامها في الناتج المحلي الإجمالي في العالم وفقد مكانتها وتأثيرها.
وخصّ معدو الوثيقة الاتحاد الأوروبي بحصة معتبرة من هذا النقد بدعوى أنه يُقوّض الحرية والسيادة ويتبع سياسات هجرة تُغيّر القارة وتخلق اضطرابات داخلية. ولا يخفي معدو الوثيقة دعم واشنطن لأحزاب اليمين المتطرف لأنها في تصورهم القادرة على تغيير مسار أوروبا الانحداري الحالي.
ومثل هكذا أولويات جديدة تنقل مركز الصدارة في "استراتيجية الولايات المتحدة" من الصين التي كانت المصدر الأول للتهديد، ومن أوروبا التي كانت الحليف الاستراتيجي الموثوق، إلى أميركا اللاتينية والكاريبي، مع استمرار الاهتمام بمختلف مصادر التهديد في أنحاء العالم.