الجغرافيا السياسية في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين

في نظر كثيرين في الجنوب العالمي فإن موقعهم في النظام الدولي شهد تحسنا

"المجلة" - أ ف ب ، رويترز
"المجلة" - أ ف ب ، رويترز

الجغرافيا السياسية في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين

هو ذا الربع الأول من القرن الحادي والعشرين يشرف على نهايته، فيما تتبدل ملامح السياسة العالمية مبتعدة كل البعد عمّا كانت عليه يوم استقبلت الشعوب الألفية الجديدة في ساحات العالم.

بالنسبة لكثيرين، خصوصا في الغرب، مثّل عام 2000 ذروة التفاؤل بالديمقراطية الليبرالية، قبل أن تهتز تلك الثقة تحت وقع صدمات كبرى مثل هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، والأزمة المالية العالمية، وصعود الشعبوية اليمينية. أما في نظر آخرين، لا سيما في أجزاء من الجنوب العالمي، فقد حملت الأعوام الخمسة والعشرون الماضية تحوّلا حظي بالرضا، إذ انزاحت موازين القوة الدولية عن الهيمنة الغربية التي أعقبت الحرب الباردة.

لكن إلى أي حد تغيّر العالم حقا؟ بالمقارنة، شهدت أرباع قرون سابقة تحولات أعمق وأكثر جذرية. فالحقبة الممتدة بين 1975 و2000 شهدت انهيار الاتحاد السوفياتي، وانتهاء الحرب الباردة، وسقوط الشيوعية كأيديولوجيا، وبروز عالم أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة ونظام الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية. أما الربع الأول من القرن العشرين، بين 1900 و1925، فقد حمل بدوره تحولات بنيوية هائلة، ودشّنت الحرب العالمية الأولى عصر الحروب الشاملة، وأفرزت دولا قومية جديدة من أنقاض الإمبراطوريات الألمانية والروسية والنمساوية المجرية والعثمانية، كما شهد العالم للمرة الأولى وصول الشيوعية إلى السلطة.

الولايات المتحدة ما زالت الدولة الأقوى، لكنها لم تعد بلا منافس. فقد بات اقتصاد الصين يعادل نحو ثلثي الاقتصاد الأميركي، وبلغ في عام 2020 ما يقارب ثلاثة أرباعه

في المقابل، تبدو التحولات بين 2000 و2025 أكثر دقة وتدرجا، أقرب إلى أرباع قرون "هادئة" مثل الفترة بين 1950 و1975. ورغم أن تغييرات ملموسة قد وقعت، فإن مراقبا من عام 2000 سيظل يجد عالم 2025 مألوفا إلى حد كبير. ومع ذلك، سيتناول هذا المقال بعض أبرز التحولات التي ميزت هذه الحقبة.

رويترز
أضاءت الأضواء على برج إيفل عبارة "العام 2000" في يوم رأس السنة الجديدة 1 يناير 2000. وتوافد أكثر من مليون شخص للاحتفال برأس السنة الجديدة على شارع الشانزليزيه وحول برج إيفل لرؤية الألفية الجديدة.

من الأحادية إلى التعددية القطبية

لعل أبرز تحول منذ مطلع الألفية هو انتهاء حقبة الأحادية القطبية وبروز عالم متعدد الأقطاب. فبعد نهاية الحرب الباردة، تمتعت الولايات المتحدة بما وصفه تشارلز كروتهامر بـ"اللحظة الأحادية"، حين كانت في ذلك الحين القوة العظمى الوحيدة بلا منازع. ومع حلول عام 2000، كانت واشنطن صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، ضعف حجم اقتصاد منافسها الأقرب، اليابان، فيما جاءت الاقتصادات الثلاثة التالية جميعها من حلفائها: ألمانيا وبريطانيا وفرنسا. هذا التفوق الاقتصادي والعسكري شجع الرؤساء الأميركيين المتعاقبين على محاولة إعادة صياغة النظام الدولي، سواء عبر "النظام العالمي الجديد" لجورج بوش الأب، أو "توافق واشنطن" في عهد بيل كلينتون، أو "الحرب على الإرهاب" التي أعلنها جورج بوش الابن. ورغم تفاوت النتائج، فإن غياب قوة منافسة بحجم الاتحاد السوفياتي جعل الهيمنة الأميركية شبه مطلقة.

أما اليوم، فالصورة مختلفة تماما. فالولايات المتحدة ما زالت الدولة الأقوى، لكنها لم تعد بلا منافس. فقد بات اقتصاد الصين يعادل نحو ثلثي الاقتصاد الأميركي، وبلغ في عام 2020 ما يقارب ثلاثة أرباعه. ومع صعود الهند إلى قائمة أكبر خمسة اقتصادات عالمية، ودخول روسيا ضمن العشرة الأوائل، تراجع التفوق الاقتصادي الأميركي وحلفائه عما كان عليه مطلع الألفية. وصحيح أن واشنطن ما زالت تنفق على جيشها أكثر مما تنفقه أربع عشرة دولة مجتمعة، فإن هذا التفوق لم يعد يترجم إلى الهيمنة العالمية نفسها التي عرفتها عام 2000. ولهذا يكاد يجمع المحللون على أن النظام الدولي في 2025 بات متعدد الأقطاب، وأن اللحظة الأحادية قد طويت صفحتها.

تخلّى بوتين عن الديمقراطية الوليدة في تسعينات ما بعد الاتحاد السوفياتي لصالح نظام استبدادي يرتكز على شخصه، وتنتشر فيه ممارسات الفساد على نطاق واسع

ويرتبط ذلك إلى حد كبير بتبدل الدور العالمي للولايات المتحدة. فقد شكّل غزو أفغانستان والعراق بين 2001 و2003، ثم الأزمة المالية العالمية عام 2008، محطات مفصلية. إذ أضعفت الأزمة الاقتصاد الأميركي لصالح الصين، وأثارت شكوكا حول جدوى الإنفاق الضخم على مغامرات خارجية. كما أن الاحتلال الطويل وغير المثمر للعراق وأفغانستان كشف محدودية قدرة القوة العسكرية الأميركية على تحقيق التحولات التي أرادها قادتها، وأسهم في دفع الرأي العام إلى معارضة التدخلات الخارجية. ومنذ ذلك الحين، وجد الرؤساء أنفسهم مضطرين إلى طمأنة الناخبين بوعود مثل "لا وجود لجنود على الأرض"، وهو ما قيّد قدرة واشنطن على استثمار تفوقها العسكري. ويكفي التذكير برفض دونالد ترمب إرسال قوات أميركية للمشاركة في قوة الاستقرار الدولية في غزة بوصفه مثالا واضحا على هذا التوجه.

العامل الثاني الذي عزز التعددية القطبية هو تبدل موقع الصين. ففي عام 2000، كانت العواصم الغربية لا تزال تؤمن بـ"الصعود السلمي للصين"، أي إن اندماجها المتزايد في الاقتصاد العالمي سيقودها في نهاية المطاف إلى تبني الديمقراطية الليبرالية الغربية والتحول إلى شريك لا منافس. لكن ذلك لم يتحقق. فما زال "الحزب الشيوعي الصيني" ممسكا بزمام السلطة، دون دلائل على تحولات ديمقراطية من فوق أو من تحت. ومنذ صعود شي جينبينغ عام 2012، ابتعدت بكين عن فلسفة دينغ شياو بينغ القائمة على "خفض الظهور"، لتتبنى قومية صينية أكثر حزما وصدامية. مبادرة "الحزام والطريق"، وتصاعد التهديدات ضد تايوان، والتوسع العسكري في بحر الصين الجنوبي كلها شواهد على هذا التحول، الذي أدخل الصين في مواجهة متزايدة مع الغرب. ومع سعيها إلى بناء شبكة من الحلفاء ونزع دول من المدار الأميركي، باتت بكين تُعد المنافس الأول لواشنطن على نحو لم يكن واردا قبل خمسة وعشرين عاما. ولا غرو أن بعض المراقبين يرون في هذا التوتر المتصاعد ملامح "حرب باردة جديدة".

لكن الصين ليست المنافس الوحيد للولايات المتحدة، ولا القوة العالمية الوحيدة التي أسهمت في ترسيخ التعددية القطبية. فروسيا بدورها باتت في موقع مختلف تماما. فعشية الألفية الجديدة، استقال الرئيس الروسي بوريس يلتسين وعيّن رئيس وزرائه، فلاديمير بوتين، رئيسا بالوكالة.

ولم يكن كثيرون يتوقعون أن يبقى هذا الرجل في السلطة إلى اليوم، وأن يقود تحولا جذريا في توجهات روسيا داخليا وخارجيا. فقد تخلّى بوتين عن الديمقراطية الوليدة في تسعينات ما بعد الاتحاد السوفياتي لصالح نظام استبدادي يرتكز على شخصه، وتنتشر فيه ممارسات الفساد على نطاق واسع. صحيح أن ذلك منح روسيا قدرا من الاستقرار الاقتصادي، لكنه ترافق مع تشديد القبضة الأمنية في الداخل وتوسع عسكري في الخارج. ويكفي أن نتذكر وصفه لانهيار الاتحاد السوفياتي بأنه "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن" لفهم رؤيته الساعية إلى إعادة إحياء قوة موسكو العالمية، بالدرجة الأولى عبر الوسائل العسكرية. فقد غزا جورجيا عام 2008، وضم القرم وأرسل قوات إلى دونباس عام 2014، وتدخل في سوريا عام 2015، ثم اجتاح أوكرانيا عام 2022، فضلا عن انخراطات محدودة في ليبيا والسودان وجمهورية أفريقيا الوسطى. ورغم أن روسيا لا تضاهي القوة العسكرية الأميركية، فإن هذا النشاط العسكري قوّض بشكل متزايد النظام الأحادي القطبية الذي قادته واشنطن بعد الحرب الباردة.

رغم أن الليبرالية كانت قد بدأت بالتراجع بعد 2005، فإن الأزمة المالية العالمية عام 2008 جاءت لتعجل هذا المسار. ففي الغرب، كان للأزمة أثر مزدوج

وإذا كانت الصين وروسيا أبرز القوى التي تحدت الولايات المتحدة، فإن التحول نحو التعددية القطبية تسارع أيضا نتيجة صعود "القوى الوسطى"، ولا سيما من خارج الغرب. فقد انضمت البرازيل والهند وجنوب أفريقيا إلى روسيا والصين لتشكيل مجموعة "بريكس" بين 2009 و2010، وهي تكتل يعرّف نفسه بصفته مجموعة غير غربية تضم أسواقا ناشئة وتعزز حضور الجنوب العالمي، مقدما بديلا عن مجموعة الثماني ثم السبع التي هيمنت عليها الولايات المتحدة. ومع توسع "بريكس" عام 2024 ليشمل ثلاث دول حليفة لواشنطن هي الإمارات ومصر وإثيوبيا، إضافة إلى إيران، وتوجيه دعوات إلى السعودية وتركيا، بدا واضحا حجم التحول في البيئة الدولية منذ عام 2000. فبينما كانت الولايات المتحدة مطلع القرن القوة العظمى الوحيدة، وكان الغرب يهيمن على مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد، لم تعد القوى الوسطى في عام 2025 تشعر بأنها مضطرة للانحياز الحصري إلى واشنطن، بل باتت تبني تحالفاتها وفق مصالحها في كل ملف على حدة.

رويترز
قادة مجموعة الثماني يلوحون في منتجع شاطئي بجزيرة أوكيناوا جنوب اليابان في 22 يوليو 2000 قبل بدء محادثات القمة

من العولمة الليبرالية إلى الشعبوية القومية

كان التحول الثاني البارز فكرياً وأيديولوجياً: تراجع الليبرالية المعولمة وصعود الشعبوية القومية. فمع نهاية تسعينات القرن الماضي، كان الليبراليون يحتفون بعقد بدت إنجازاته راسخة، إذ تبنت معظم دول أوروبا الشرقية الخارجة من إرث الشيوعية الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق العالمي. وبالتوازي، بدأت منذ سبعينات القرن موجة ابتعاد عن الأنظمة السلطوية المنغلقة في شرق آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، ما عزز شعورا عاما بالتفاؤل مع مطلع القرن الحادي والعشرين. بدا وكأن نبوءة فرانسيس فوكوياما قد وجدت طريقها إلى التحقق، حين رأى أن الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية تمثل الصيغة المثلى للحكم التي ستنتهي جميع الدول إلى تبنيها. غير أن تقارير مؤسسة "فريدوم هاوس" تشير إلى أن هذا المسار بلغ ذروته عام 2005، ومنذ ذلك الحين بدأ التراجع سنة بعد أخرى. فقد انزلقت دول ديمقراطية ناشئة نحو ممارسات أكثر سلطوية، فيما اختارت ديمقراطيات راسخة زعماء شعبويين قوضوا الحريات الراسخة وأضعفوا المؤسسات الديمقراطية. وترافق ذلك مع تنام متصاعد لموجات مناهضة للعولمة، تجلت أخيرا في سياسات دونالد ترمب الذي أقام جدارا من الرسوم الجمركية متحديا عقيدة التجارة الحرة التي مثلت ركيزة من ركائز السياسة الغربية لعقود.

ورغم أن الليبرالية كانت قد بدأت بالتراجع بعد 2005، فإن الأزمة المالية العالمية عام 2008 جاءت لتعجل هذا المسار. ففي الغرب، كان للأزمة أثر مزدوج. فهي أولا زعزعت ثقة الناخبين في التوافق الليبرالي الذي ساد بعد الحرب الباردة. فقبل 2008، كانت الأحزاب الغربية الكبرى تدافع عن فكرة أن السياسات النيوليبرالية و"اقتصاد التساقط" (أي انتقال الامتيازات التي يحققها الأغنياء من خلال الإعفاءات الضريبية إلى فوائد لعموم المجتمع الذي ستزداد فيه استثمارات الأغنياء) والعولمة ستعود بالنفع على الجميع، مع اتساع الاقتصاد العالمي وتنامي فرص العمل.

ولم يكن غريبا أن يعلن وزير المالية البريطاني، ولاحقا رئيس الوزراء، غوردون براون عام 1999 بثقة أن "أيام الرواج والكساد قد انتهت". لكن الأزمة كشفت هشاشة هذا الادعاء، وأفقدت قطاعات واسعة الثقة بالليبرالية الاقتصادية وبالأحزاب التي تبنتها، ما دفع الكثيرين إلى التحول نحو أحزاب شعبوية كانت يوما هامشية. وثانيا، فقد استغرقت اقتصادات غربية سنوات طويلة للتعافي من صدمة الأزمة ومن عمليات إنقاذ البنوك، وهو ما فتح المجال أمام الشعبويين لتقديم حلول مبسطة لمشكلات معقدة. بعض الناخبين توجهوا نحو الشعبويين اليساريين الذين حمّلوا الأثرياء مسؤولية الركود، لكن أغلبهم اتجه نحو اليمين، ملقيا اللوم على الأجانب والمهاجرين في أزمات بلدانهم. وقد أسهم ذلك في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016، وفي صعود الشعبويين في هولندا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال، وصولا إلى انتخاب دونالد ترمب عام 2016، ثم إعادة انتخابه عام 2024.

في زمن الهيمنة الأميركية، شهدت الأمم المتحدة نوعا من العصر الذهبي، إذ حظيت قيادة واشنطن بإجماع واسع داخل مجلس الأمن. ولم يتجاوز عدد القرارات التي استخدم فيها حق النقض خلال التسعينات ثمانية

أما خارج الغرب، فقد دفعت الأزمة إلى إعادة النظر في رؤية فوكوياما. وهناك دول كانت تسعى لتقليد النموذج الأميركي والغربي اكتشفت أن الواقع ليس بالضرورة على الصورة التي زُيِّنت لنا. وفي الوقت نفسه، قدمت الصين نموذجا آخر للتنمية يقوم على رأسمالية سلطوية تقودها الدولة، على خلاف النيوليبرالية الغربية و"توافق واشنطن" الذي رسم مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وطرح فلاديمير بوتين بدوره بديلا عن الديمقراطية الليبرالية تمثل في الاستبداد المنتخب، فيما شدد عدد من الزعماء الشعبويين قبضتهم في الداخل، مثل فيكتور أوربان في المجر، ورجب طيب أردوغان في تركيا، وبنيامين نتنياهو في إسرائيل، وناريندرا مودي في الهند.

ورغم أن الليبرالية، في بعدها السياسي والاقتصادي، لم تختف، فإنها فقدت هيمنتها التي تمتعت بها مطلع الألفية. ومع كون الولايات المتحدة والصين وروسيا تخضع اليوم لقيادة زعماء شعبويين قوميين يفضلون تدخلا أوسع للدولة في التجارة وتقييدا أكبر للعولمة، يبدو عام 2025 بعيدا جدا عن الحلم الليبرالي الذي بشّر به فوكوياما حول نهاية التاريخ.

رويترز
قادة مجموعة البريكس يقفون لالتقاط صورة جماعية خلال قمة البريكس في ريو دي جانيرو، البرازيل، في 7 يوليو 2025.

من التدخل الليبرالي إلى منافسة القوى الكبرى

شهدت طبيعة الصراع العالمي تحولا بارزا منذ عام 2000. ففي بدايات هذه الحقبة، كان المشهد مطبوعا بالتدخلات الليبرالية التي قادها الغرب. ورغم استمرار الحروب في مناطق مختلفة من العالم، فإن تسعينات القرن الماضي تميزت بجهود مكثفة للولايات المتحدة وقادة غربيين لإنهاء نزاعات طويلة الأمد، أبرزها في أيرلندا الشمالية والصراع العربي الإسرائيلي، وإن كان النجاح في الأولى أوضح من الثانية. وحين اندلعت حروب جديدة، كان القادة الغربيون في طليعة جهود الوساطة، وتعرضوا للانتقاد حين بدوا متقاعسين، كما حدث في رواندا والبوسنة. وقد دفع هذا السياق زعماء مثل توني بلير إلى التأكيد، في خطابه الشهير في شيكاغو عام 1999، أن التدخل العسكري مبرر لحماية الشعوب المستضعفة، مستشهدا بعمليات حلف "الناتو" في كوسوفو. مثل هذه الرؤية شكلت لاحقا أساسا لتدخلات عسكرية غربية، أبرزها غزو العراق عام 2003 والتدخل في ليبيا عام 2011. وفي عام 2005، أقر المجتمع الدولي مبدأ مسؤولية الحماية الذي يتيح للأمم المتحدة تفويض التدخل بدواع إنسانية.

لكن هذه الأفكار تبدو اليوم بعيدة جدا عن واقع عام 2025. فالثقة بالأمم المتحدة في أدنى مستوياتها. ففي زمن الهيمنة الأميركية، شهدت المنظمة الدولية نوعا من العصر الذهبي، إذ حظيت قيادة واشنطن بإجماع واسع داخل مجلس الأمن. ولم يتجاوز عدد القرارات التي استخدم فيها حق النقض خلال التسعينات ثمانية، اثنان لكل من روسيا والصين، وأربعة للولايات المتحدة. أما في العقد الأول من الألفية فقد ارتفع العدد إلى 14، ثم إلى 22 في العقد الثاني، وبلغ بالفعل 20 في العقد الثالث، مع تصاعد المواجهة بين موسكو وبكين وواشنطن. وهكذا تحولت الأمم المتحدة من منصة لإدارة النزاعات العالمية إلى ساحة صراع بين القوى الكبرى التي عادت لتطبع السياسة الدولية.

وقد انعكس هذا التحول على طبيعة الصراع. فالتدخلات ما زالت تقع، كما في التسعينات، لكنها باتت تُبرر بالمصالح الوطنية أكثر من الدوافع الإنسانية، كما يدل على ذلك استمرار معاناة غزة منذ عام 2023. والولايات المتحدة، مثلا، امتنعت عن التدخل في سوريا لحماية ناشطين عزل رغم ضغوط حلفائها، لكنها تدخلت عام 2014 حين هدد تنظيم الدولة الإسلامية مصالحها الإقليمية. أما روسيا فقد أرسلت قوات إلى سوريا لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط لا بدافع إنساني. وباتت القوى الإقليمية والدولية تنظر إلى الحروب الأهلية كفرص لتطويق منافسيها، لا ككوارث إنسانية يجب وقفها. وفي الوقت نفسه، وبعد تراجع الحروب بين الدول في التسعينات والعقد الأول من الألفية، عادت هذه النزاعات لتتصدر المشهد في السنوات الأخيرة: من حرب أوكرانيا ضد روسيا، إلى اشتباكات الهند وباكستان، إلى المواجهة المتصاعدة بين إسرائيل وإيران، وصولا إلى انتصار أذربيجان على أرمينيا. وهكذا باتت الحروب التقليدية بين الدول شائعة بقدر الحروب الأهلية، وهو ما لم يكن الحال عليه عام 2000.

من المحتمل أن تكون التطورات التي شهدها ربع القرن هذا، ذات أثر بالغ في المستقبل، وإن كان هذا الأثر مرشحا لأن يكون سلبيا

 دبلوماسية دونالد ترمب النشطة أخيرا فتشير إلى وجود رغبة عالمية في التوصل إلى اتفاقات سلام، لكنها تبدو أحادية أكثر بكثير من جهود التسعينات التي قادتها الأمم المتحدة، وأقرب إلى صفقات قائمة على المصالح الوطنية في بيئة تتصاعد فيها منافسة القوى الكبرى، لا إلى مبادرات تستند إلى قيم أو مبادئ مشتركة.

أ ف ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يسير مع الرئيس الكوري الجنوبي لي جاي ميونغ بعد حفل تقديم تكريم رفيع المستوى في متحف غيونغجو الوطني في غيونغجو في 29 أكتوبر 2025.

الارتدادات غير المرئية

رغم أن الاتجاهات الثلاثة السابقة هي الأكثر بروزا في المشهد الجيوسياسي خلال الأعوام الخمسة والعشرين الماضية، فمن المرجح أن يسلط مؤرخو المستقبل الضوء على عناصر أخرى حين ينظرون إلى هذه الحقبة بأثر رجعي. فما زال غير واضح، مثلا، حجم الأثر الذي سيتركه وباء "كوفيد - 19" بين عامي 2020 و2021 على السياسة العالمية في المدى البعيد، وكيف ستنعكس التحولات الاجتماعية التي أحدثها على مسارات السياسة. وينطبق الأمر ذاته على قضية التغير المناخي. فبرغم حضوره المستمر طوال هذه الفترة، لم يفض حتى الآن إلى تحولات جيوسياسية كبيرة. ومع ذلك، فمن المحتمل أن تكون التطورات التي شهدها ربع القرن هذا، ذات أثر بالغ في المستقبل، وإن كان هذا الأثر مرشحا لأن يكون سلبيا. وبالمقارنة مع عام 2000، تبدو السياسة الدولية اليوم أكثر تشاؤما بكثير.

ومع ذلك، تبقى الصورة نسبية. ففي نظر كثيرين في الجنوب العالمي، ورغم أن المشهد العام ليس مشرقا تماما، فإن موقعهم في النظام الدولي شهد تحسنا. أما في الغرب، فالقصة هي قصة تراجع شامل، سواء في النفوذ النسبي أو في هيمنة الأفكار الغربية مثل الليبرالية. وليس مستغربا، بالتالي، أن ينجح زعماء شعبويون في استثمار الحنين إلى الماضي ورفع شعار إعادة العظمة لتحقيق مكاسب سياسية.

font change

مقالات ذات صلة