حطمت حرب غزة أوهام الاستقرار الإقليمي وكشفت عن مدى الهيمنة الإسرائيلية والأميركية. ومع ذلك، بين أنقاض هذا الدمار ثمة واقع إقليمي ناشئ، واقع يشير إلى ما يبدو أنه إعادة اكتشاف للفاعلية العربية.
لم ينشأ هذا التحول من فراغ ولم يأت من العدم، بل جاء تتويجا لعقود من الضغوط المتراكمة، من نهاية الحرب الباردة إلى اضطرابات "الربيع العربي"، والآن الصراع الممتد في غزة الذي استمر من عام 2023 إلى عام 2025.
وما بدأ كرد فعل على توغل "حماس"، تطور إلى تصفية حسابات عميقة، أجبرت العالم العربي على مواجهة سلبيته التاريخية واستعادة قدر من الاستقلال الاستراتيجي.
في هذا التأمل الموسع، نغوص عميقا في الأسس التاريخية، والتفكك متعدد الجوانب للنظام القديم، والدور المحفز لحرب غزة، وإخفاق الهيمنة، وإعادة اكتشاف الدبلوماسية العربية، وصعود القوى المتوسطة، والتحولات العالمية، وعودة بروز القضية الفلسطينية والاعتراف بأهميتها، والمعضلات الاستراتيجية التي تواجه إسرائيل، والدروس المستفادة للعالم العربي، ومعالم النظام الإقليمي الناشئ في الشرق الأوسط. وتحت عدسة المجهر تبرز حرب غزة، كأمل ساطع في نهاية نفق مظلم، فهي لم تحمل في طياتها المأساة وحسب، بل كانت المرجل الذي يعيد تشكيل هوية المنطقة ومكانتها في العالم.
تفكك النظام القديم
كان الشرق الأوسط طيلة فترة ما بعد "الحرب الباردة"، نظاما تديره الولايات المتحدة إلى حد كبير. وقد حققت المظلة الأمنية لواشنطن، التي تدعمها تحالفاتها الإقليمية، استقرارا وعرا انتهج سياسة الاحتواء بدل تقديم حلول حقيقية. وأكدت حرب الخليج عام 1991، التفوق الأميركي في المنطقة، بعد أن طرد تحالف بقيادة الولايات المتحدة القوات العراقية من الكويت، الأمر الذي أرسى سابقة للتدخل تحت راية التحالفات الدولية. وعززت هذه العملية، التي شاركت فيها أكثر من 30 دولة محققة ذروة أهدافها بانتصار سريع، فكرة أن الولايات المتحدة بمقدورها أن تملي شروطها في العالم العربي، من فرض للعقوبات إلى مناطق حظر الطيران. بيد أن التصدعات كانت واضحة حتى آنذاك: تركت الحرب نظام صدام حسين سليما معافى، زارعة بذور انعدام الاستقرار المستقبلي.

كان غزو العراق عام 2003 كارثيا في تنفيذه وتداعياته، إلا أنه عزز في البداية هيمنة الولايات المتحدة. وقد جرى تصويره على أنه مهمة لنزع أسلحة الدمار الشامل (التي ثبت عدم وجودها) وتعزيز الديمقراطية. لقد أطاح الغزو بالدكتاتور صدام حسين، غير أنه أطلق العنان للفوضى الطائفية والتمرد، وصعود الجماعات المتطرفة مثل "داعش". وكانت التكلفة البشرية باهظة: مئات الآلاف من القتلى وملايين النازحين، أما العبء المادي فقد فاق تريليون دولار على الولايات المتحدة وحدها. وفي الوعي العربي، جسد هذا الغزو مخاطر التدخل الخارجي: غطرسة قوة عظمى انتهت بانقسام إقليمي. وتآكلت الثقة أيضا في النوايا الأميركية، حيث فتحت وعود التحرير الباب للاحتلال وفضائح "أبو غريب".





