ميخائيل نعيمة المتعدد

ميخائيل نعيمة المتعدد

استمع إلى المقال دقيقة

ميخائيل نعيمة (1889-1988)، قامة شاهقة في تاريخ الأدب اللبناني والعربي، عاش مائة عام، وكان أسفه الوحيد في آخر أيامه أنه لم يعُد قادرا على حمل القلم لأن يديه كانتا ترتجفان. هذا ما قاله في حديث تلفزيوني، ردا على سؤال: "على ماذا تأسف اليوم بعد هذا العمر الطويل؟"، لم يشكُ "أمراضه" أو ضعفه أو هرمه، بل عجزه عن الكتابة.

إنه ميخائيل نعيمة، المتعدد اللغات: العربية والإنكليزية والروسية، واسع الثقافة، مفكر وقاص وروائي وشاعر ومن رواد دعاة النقد الحديث، وعلماني يؤمن بالسلام العادل والمساواة بين الشعوب. غزير الإنتاج، وأعماله ومتعددة، "كان يا ما كان"، "جبران خليل جبران"، "صوت العالم"، "الغربال"، "كرم على درب"، "في مهب الريح"، و"مرداد".

تميز بحكمته العميقة وتأملاته الروحية، شرقا وغربا. آمن بالحرية التي يعتبرها "ثمرة نادرة تنبت على شجرة نادرة". وهو من مؤسسي "الرابطة القلمية" مع جبران خليل جبران في المهجر. اختار العزلة في بلدته الجبلية الشخروب، وكأنه التزم الصوفية كحالة معيشة داخلية لا كحالة أدبية محض كما فعل بعض الشعراء. فهو أحد المجددين الكبار في عصر النهضة. وإذا كان جبران صديقه، فهو يختلف عنه في الأسلوب، إذ إنه يكتب ببساطة، بعيدا عن كتاب تلك المرحلة، متميزا عن الذين كانوا غارقين في البلاغة التزيينية، لذا كان رائدا في مجمل أعماله.

هو الوحيد بين أقرانه الذي اعتنق الصوفية لا في مجال الكتابة فحسب، بل في نموذجه وأسلوب حياته، وأهمية الصوفية تكمن في الممارسة أكثر مما في الأفكار. وكلنا نتذكر أن موجة شعرية انطلقت في العالم العربي في ستينات القرن الماضي، كموضة لفظية باهتة، تفتقر إلى مقومات المعارضة التاريخية المبنية على أفكار لقي بعض من تبنوها القمع والقتل.

ويعتبر نعيمة أول ناقد عربي طليعي وعقلاني، وذلك من خلال مفهومه الخاص المنفتح على النصوص، بعيدا عن النقد الإنشائي الموروث من مرحلة الانحطاط ونقادها، مقاربا النصوص الأدبية بطريقة عقلانية، ومن أبرز أعماله النقدية كتابه عن جبران خليل جبران، فاصلا بين النقد والأسلوب الفضفاض والإنشائي.

هو الوحيد بين أقرانه الذي اعتنق الصوفية لا في مجال الكتابة فحسب، بل في نموذجه وأسلوب حياته

وقد سبق نعيمة الكثيرين من أهل الأدب، باعتباره أن الشكل الأدبي، يحدد نوع اللغة المستعملة، ليتناول مثلا مسألة اللغة العامية في المسرح الذي يرى أنه فن مستورد بالكلية من الغرب، وهو فن ناطق يعتمد على إلقاء الممثل، يجد كل كاتب يكتبه تناقضا حادا بين اللغة المحكية واللغة المكتوبة، فإذا أراد للمسرحية أن تقدم على خشبة المسرح، ليس عليه أن يكتفي بقراءتها كأثر فكري أو حوارية رمزية. فالرواية (أي المسرحية) لا تستطيع أن تستغني عن اللغة العامية، وكلنا يعرف أن مسألة العامية والفصحى ما زالت مطروحة حتى اليوم، كسؤال لم يجد جوابا حاسما.

وعندما نشر الشاعر خليل مطران ترجماته لمسرحيات شكسبير، انتقد نعيمة لغتها، "إما أن المعرَب، عربي يكتب بالعربية، ولا حاجة له في تفسيرها، أو أنه يخاطب أبناء اللغة العربية بلغة أعجمية، والأولى كان يجب أن يخاطبهم بلغة مفهومة"، وليس كلغة أدبية غامضة. فشكسبير وضع مسرحية للتمثيل، وعلى كل من يترجمها أن يترجمها بلغة قابلة للتمثيل ومرنة في اللفظ والتعابير المختلفة.

وهنا، كان نعيمة أول من يفصل بين اللغة المسرحية والأدبية، باعتبار أن اللغة المسرحية في ما مضى كانت مجرد قراءة لا مادة مفتوحة على النبرات المعبرة، بحسب مواقف الشخصيات. فاللغة المسرحية في القرن العشرين تحول النص الأدبي إلى دلالات ومفاهيم ورؤى المخرج لا الكاتب. وهكذا جعل اللغة وسيلة لا غاية، سواء في الشعر أو في النثر. من هنا ركز نعيمة على وضع فضاء خاص للأدب، فعصارة الكلام أن القصد من الأدب هو الإفصاح عن عوامل الحياة كلها كما تنتابنا من أفكار وعواطف، وأن اللغة ليست سوى وسيلة من وسائل كثيرة اهتدت إليها البشرية للإفصاح عن أفكارها وعواطفها، وأن للأفكار والعواطف كيانا مستقلا عن اللغة، فهي أولا واللغة ثانيا.

يختلف عن سواه بأنه رائد التعددية الثقافية والأدبية ككاتب وناقد ومفكر، هذه التعددية التي تحتاج إلى كاتب تنويري واسع الانفتاح ومتنوع التعبير

ولذلك تتقدم الفكرة عند نعيمة على اللغة. بمعنى آخر أنه يبتعد عن التزويق اللغوي، معتمدا البساطة والمرونة والواقعية، باعتبار أن بلورة الأسلوب تخضع للحالات الداخلية، وتتنوع بتنوعها، فهو مسح الأساليب المقعرة، والغموض، وكان في ما يكتبه يرصد الموضوع من أجل وضع بنية متوازنة، متكاملة منسجمة مع جوهر الفكرة وحتى مع الأحاسيس والمقامات.

من هنا نقول إن نعيمة يختلف عن سواه بأنه رائد التعددية الثقافية والأدبية ككاتب وناقد ومفكر، هذه التعددية التي تحتاج إلى كاتب تنويري واسع الانفتاح ومتنوع التعبير. من هنا تميزه عن سواه من الكتاب الذين اختاروا نمطا أو نمطين واشتغلوا عليهما.

font change