إيبولا ... لماذا لم يحصن أميركا ضد كورونا؟

ما فشلت واشنطن في تعلمه من تقرير مجلس الأمن القومي عن الفيروس

إحدى عناصر شرطة ولاية نيويورك تتحدث إلى مريض عند مدخل مركز اختبار فيروس كورونا في كلية ليمان في نيويورك (غيتي)

إيبولا ... لماذا لم يحصن أميركا ضد كورونا؟

* اتضح لجميع الجهات التي كانت تحاول مواجهة تفشي الفيروس أن نظام الاستجابة للفيروسات في الولايات المتحدة والعالم قد ينهار إذا واجه سيناريو أشد سوءًا
* عندما ينتقل الفيروس لأي سبب من الأسباب، يساعد انتقاله الجوي عبر القارات على انتشاره بسرعة مذهلة
* سيلاحظ المؤرخون الذين ينظرون للفترة ما بين تفشي فيروس إيبولا وفيروس كورونا تسلسلا للأحداث 

كان تفشي عدوى فيروس الإيبولا بين عامي 2013 و2015 بمثابة اختبار واقعي لقدرة واشنطن على كشف واحتواء أمراض معدية تهدد الأمن العالمي. وأدرك حينها الخبراء الذين حاربوا تفشي الفيروس أن انتشاره كان سيتسبب بكارثة عالمية وشيكة. ولذلك بادر مجلس الأمن القومي بإجراء دراسة مفصلة حول إنجازات وإخفاقات الاستجابات الدولية والمحلية. وشاركت 26 وزارة وهيئة أميركية في بداية فبراير (شباط) 2015 في «دروس مستفادة» رأسها البيت الأبيض، وخلصت إلى تقرير من 73 صفحة يتضمن 21 نتيجة وتوصية. وترأست هذا الجهد تحت إشراف مستشارة الأمن القومي سوزان رايس ومنسق التحرك في مواجهة إيبولا رون كلاين. وكتبت تقرير مجلس الأمن القومي الذي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» مؤخرًا.
واتضح لجميع الجهات التي كانت تحاول مواجهة تفشي الفيروس أن نظام الاستجابة للفيروسات في الولايات المتحدة والعالم قد ينهار إذا واجه سيناريو أشد سوءًا. وكان السيناريو المطروح يتعلق بتوقيت حصول الأسوأ وليس بإمكانية ذلك. وخلص تقرير مجلس الأمن القومي إلى أن «الأوبئة في المستقبل ستكون أشد خطورة، وخاصة تلك التي تنتقل عن طريق الهواء وقبل ظهور الأعراض». وأوصى التقرير «بوضع معيار تخطيط حسب الحد الأدنى المناسب، لأن وباءً آخر قد يكون هائلاً من حيث الحجم والانتشار على نطاقٍ محلي».
وعلى الرغم من أن تكاليف الوباء الحالي لن تكون قابلة للقياس بشكلٍ كامل لبعض الوقت، فإن ما تم فعله وما لم يتم فعله في السنوات الأربع تقريبًا بين نهاية أزمة الإيبولا وظهور لفيروس كورونا المستجد بات معروفًا في المجال العام، وأصبح واضحًا تمامًا أين ومتى أخفقت الولايات المتحدة في الاستعداد بشكلٍ أفضل.
 
آخر انتشار لفيروس إيبولا
تصدرت أخبار فيروس إيبولا عناوين الصحف في الولايات المتحدة في صيف وخريف عام 2014. لأنه انتشر بشكلٍ لم يمكن السيطرة عليه عبر دول غرب أفريقيا. وكان توماس دنكان أول مصاب يموت بسبب الفيروس على أرض الولايات المتحدة. وفي النهاية، أودى إيبولا بحياة أكثر من 11 ألف شخص حول العالم، وشخصين في الولايات المتحدة. ولكن بحسب معظم الذين شاركوا في محاربة الفيروس فقد كان يمكن أن يكون أشد سوءًا بأضعافٍ مضاعفة.
حالفنا الحظ مرتين أثناء تفشي فيروس إيبولا؛ فلم تكن حمى الإيبولا النزفية الفيروسية المميتة تنتقل عبر الجو، وحدث التفشي في منطقة نائية من العالم تربطها خطوط قليلة بالمراكز السكانية في أفريقيا ولا توجد فيها خطوط جوية مباشرة إلى المدن العالمية. وعلمنا أيضًا أننا لن نكون محظوظين هكذا مرة أخرى. فبسبب التحضر وإزالة الغابات التي تجمع أنواع الحيوانات التي لا تتفاعل عادة و«الأسواق الرطبة» التي تبيع لحوم الحيوانات البرية عبر أفريقيا وآسيا، يتطور العالم بطرق تزيد بشكل كبير من احتمالية انتقال فيروس حيواني المصدر من مضيف حيواني إلى البشر. كما تعتبر الحوادث التي تحصل في مختبرات التكنولوجيا الحيوية والإرهابيين وبرامج الأسلحة البيولوجية الهجومية مصادر محتملة للعدوى الجماعية. وعندما ينتقل الفيروس لأي سبب من الأسباب، يساعد انتقاله الجوي عبر القارات على انتشاره بسرعة مذهلة.
ومع أن العدوى بفيروس الإيبولا أو انتقاله أصعب من فيروس كورونا المستجد (ومن الأسهل اختباره، فقد تم تطوير الاختبار بالفعل)، إلا أن الإيبولا كان معلّمًا قاسيا بحد ذاته. فمع تضاعف عدد المصابين كل ثلاثة أسابيع في ذروة تفشيه، كانت تفرض عقوبة شديدة على الذين لا يتحركون لاحتوائه. وكان لا بد من احتواء إيبولا في أسرع وقت حتى لا يتحول سريعًا إلى تهديد لأمن الشعب الأميركي والاقتصاد العالمي. وبالفعل أصدر الرئيس السابق باراك أوباما أمرًا بنشر 2800 جندي أميركي لدعم عشرات الآلاف من الأطقم الصحية في غينيا وليبيريا وسيراليون. وبنى الجنود عشرات الآلاف من الأسرّة في وحدات لعلاج إيبولا لعزل ورعاية المصابين ودعموا فرق تعقب الوباء للحد من انتقاله وقادوا حملات تثقيفية حول كيفية انتشار إيبولا. وهكذا، توقفت آخر سلاسل انتقال العدوى في نهاية 2015، بعد عام تقريبًا على نشر الجيش الأميركي.
ويستطيع الأميركيون أن يفخروا بالدور الذي لعبته دولتهم في أزمة هددت دول العالم. ولكن كشفت الاستجابة لفيروس إيبولا عن ثغرات في الاستعداد والقدرات الكامنة عند أجهزة الدولة المعنية بالصحة والأمن في الولايات المتحدة. وينطبق الأمر كذلك على النظام الدولي. فقد ظهر النقص عند هيئة خدمات الصحة العامة الأميركية التي تبين أنها لا تمتلك ما يكفي من لقاحات الحمى الصفراء لنشر العناصر في غرب أفريقيا وعند القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا التي لا تمتلك خطة محدثة للوباء. وفي أميركا، أغرقت حالتا إيبولا اللتان تم رصدهما في ولايتي نيويورك وتكساس أنظمة الصحة العامة والتخلص من النفايات الخطرة. وحصلت واشنطن على درجة من الكفاءة من منظمة الصحة العالمية بسبب قدرتها على الاستجابة للوباء الخطير - وهي درجة من الكفاءة تبين لاحقًا أنها لا تمتلكها. فبمجرد ظهور حجم الأزمة الكلي وهرع الولايات المتحدة وشركائها إلى غرب أفريقيا، أدى الفشل في تقديم قدرات اختبار كافية ومعدات الحماية الشخصية إلى الكوادر الطبية في الخطوط الأمامية إلى ظهور الأزمة الآن مع انتشار فيروس كورونا.

 

الطبيب كريج سبنسر يتحدث خلال مؤتمر صحافي يوم 11 نوفمبر 2014 في مستشفى بلفيو في نيويورك، بعد أن عولج من فيروس إيبولا (غيتي)​
 


 
ما بعد الإيبولا
وحتى قبل انتهاء وباء الإيبولا، بدأت الحكومة الأميركية تطبيق استراتيجية من ثلاثة محاور لاحتواء تفشي وباء قد يكون أكثر خطورة في المستقبل. وركزت في المحور الأول على أجندة الأمن الصحي العالمي، وهي مبادرة لتوسيع القدرات حول العالم لكشف الأمراض المعدية ومنع انتشارها. وأقامت الولايات المتحدة شراكات مع أكثر من 60 دولة حول العالم من خلال هذه المبادرة، وصرفت مليار دولار من المكمل الإضافي للتصدي لفيروس إيبولا الذي أقره الكونغرس في ديسمبر (كانون الأول) 2014 لإنشاء عشرات المختبرات المتخصصة في جميع أنحاء العالم للكشف عن حالات تفشٍ جديدة وتنظيم برامج قطرية لتعميق الاستعداد في كل بلدٍ على حدة.
وثانيًا، باشرت بناء مجموعة من المستشفيات ومراكز الاختبار في الولايات المتحدة لمعالجة المرضى المصابين بفيروس إيبولا وتزويد الطواقم الطبية بالمزيد من معدات الحماية الشخصية والمواد اللازمة لمكافحة مسببات الأمراض الفتاكة.
ثالثًا، عينت الولايات المتحدة منسقا للاستجابة للطوارئ الصحية وأنشأت مديرية جديدة للأمن الصحي الدولي والدفاع البيولوجي داخل مجلس الأمن القومي وكلفتها بمراقبة التهديدات البيولوجية وتنسيق الاستجابات المستقبلية. ومن بين مهامها قيادة إصلاحات ما بعد الإيبولا لضمان التغييرات الهيكلية داخل الوكالات والإدارات.
ولأن مكافحة مسببات الأمراض الخطيرة تتطلب تعاونًا وثيقًا بين الدوائر الحكومية التي لا تعمل معًا في العادة، فإن زيادة القدرات الأميركية تتطلب الاستعداد للقيام بتغييرات قد تتعارض مع ثقافة الإدارات والوكالات الفيدرالية والجيش الأميركي. وقد تتطلب تملق الكونغرس لزيادة الميزانيات وإضافة التفويضات وتعديل المهام. وبالنظر إلى حجم التغييرات، فقد يتطلب ذلك قيادة الرئيس شخصيًا. ودفعت خطورة تهديد المرض المعدي فريق الأمن القومي للرئيس أوباما المنتهية ولايته إلى تضمين سيناريو جائحة الأنفلونزا في تمرين مشترك أُجري مع فريق الرئيس الحالي دونالد ترامب. ولضمان سيرورة مهمة مديرية الأمن الصحي العالمي والدفاع البيولوجي الجديدة في الإدارة الجديدة، اختار فريق البيت الأبيض المنتهية ولايته موظفًا مدنيًا محترفًا - خبيرة محترمة في الدفاع البيولوجي في البنتاغون تدعى إليزابيث كاميرون – لقيادة المديرية، مما يحافظ على استمراريتها من إدارة إلى أخرى.
 
الدروس غير المكتسبة
سقطت محاور الاستراتيجية الصحية واحدة تلو الأخرى بين 2017 و2019. كما تسقط العجلات من الحافلة. وعندما نفدت الأموال المقدمة من المكمل الإضافي للتصدي لفيروس إيبولا، واصلت الإدارة الجديدة تمويل أجندة الأمن الصحي العالمي. ولكن تم تخفيض الميزانية الإجمالية المخصصة لمراكز السيطرة على الأمراض، ولم يتم إجراء استثمارات جديدة في الولايات المتحدة أو البلدان الأخرى على القدرة الأكبر على الانتشار. ولم يتم التوسع المتصوَر في الولايات المتحدة لبناء مجموعة المستشفيات المتخصصة لعلاج إيبولا والتي تضم 35 مستشفى، ولم يتبع مبلغ 259 مليون دولار المخصص للمجموعة عام 2014 ضخ أموال ذات مغزى لينتهي المشروع في مايو (أيار) 2020. مما دفع وزارة الصحة والخدمات الإنسانية إلى التحذير في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 من أن «القدرة الحالية لهذا النظام غير كافية للتصدي لأنواع كثيرة من تفشي الأمراض المعدية (مثل جائحة الأنفلونزا وغيرها من مسببات الأمراض التنفسية). كما لم يتم تعزيز المخزون الطبي الوطني بشكل كبير. وأقر قادة الكونغرس ميزانيات لم تتضمن أيا من محاور الرؤية أو حجم المبلغ الذي تم تخصيصه للتصدي لإيبولا والبالغ 5.4 مليار دولار».
وتم التخلص من محور الاستراتيجية الثالث عندما أغلق مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، المديرية الجديدة للأمن الصحي الدولي والدفاع البيولوجي. وترك مدير تلك المديرية منصبه قبل يوم واحد من إعلان منظمة الصحة العالمية تفشيًا جديدًا لإيبولا في الكونغو الديمقراطية والذي أودى بحياة أكثر من 5 آلاف شخص حتى اليوم.
سيلاحظ المؤرخون الذين ينظرون للفترة ما بين تفشي فيروس إيبولا وفيروس كورونا تسلسلا للأحداث. توفي إميل البالغ من العمر عامين والذي أصبح أول ضحية معروفة لإيبولا في غرب أفريقيا، في قرية ميلياندو الغينية في ديسمبر (كانون الأول) 2013. وبعد ست سنوات، لاحظ الأطباء في مستشفى ووهان المركزي في الصين مجموعات من الالتهاب الرئوي الحاد والتي لم تستجب للعلاج، وهو تطور سريري أثار تفشي السارس في 2002 - 2003. وتم الانتهاء من تقرير مجلس الأمن القومي للدروس المستفادة من إيبولا تقريبًا بين هذين الحدثين، في صيف عام 2016.
ويجب أن يتم التركيز اليوم على المستقبل وليس الماضي. ومع ذلك، سيكون من الضروري تفسير التفشي الحالي لفيروس كورونا وكيفية تصدي الولايات المتحدة له، كما كانت بعد أزمة إيبولا، حتى لا يتم تجاهل الدروس مرة أخرى. فمكافحة الأوبئة في أفضل الظروف أمرٌ صعب، وحتى الأنظمة التي تم اختبارها جيدًا لا تعمل كما هو مخطط لها. ولن يُعرف أبداً مدى استعداد الأمة والعالم بشكلٍ أفضل لوباء فيروس كورونا في حال كانت البنية التحتية التي دعا إليها صانعو السياسات الذين حاربوا إيبولا قد تم بناؤها بالكامل. ولكن ستقدّر الأمة في نهاية المطاف الحياة وسبل العيش بسبب فقدانها.
تم نشر المقال أولاً على موقع ForeignAffairs.com.

font change