كيف نتعامل مع الاستثمار الزراعي ؟

كيف نتعامل مع الاستثمار الزراعي ؟

[escenic_image id="5533396"]

لقد خرجت أسواق الغذاء العالمية عن نطاق السيطرة بشكل مفاجئ، ففي غضون عام زادت أسعار القمح بمقدار الضعف، وزادت أسعار الفول الصويا والسكر بمقدار ثلاثة أضعاف، وشملت أسباب تلك الزيادة الانخفاضات التي حدثت في المخزون خلال العام السابق، وانخفاض حجم المحاصيل بشكل مخيِّب للآمال بسبب سوء الأحوال الجوية في العديد من الدول، وزيادة الطلب على المواد الغذائية، وبمجرد ارتفاع الأسعار قامت حكومات الدول المصدرة بالحد من تدفق المواد الغذائية، مما فاقم من الأزمة، وبعد عامين فقط انخفضت الأسعار إلى المعدلات السابقة تقريبًا وانتهت المأساة.

هذه ليست قصة الارتفاعات السيئة للأسعار عام (2007-2008) وحده، بل يعد جانبًا من قصة منسية تعود لحقبة السبعينيات، فقد كانت الأزمة الأولى لحقبة السبعينيات أسوأ من الأخيرة بالنسبة للدول المتقدمة فقط على الأقل، حيث قفزت الأسعار الحقيقية للمواد الغذائية بمعدلات أعلى، واستنفد الإنفاق على المواد الغذائية جانبًا أكبر بكثير من دخل الأُسر، وبالتالي تم الشعور بحدة الزيادة في الأسعار بدرجة أكبر، ورغم ذلك ظلت هذه الأزمة في خلفية ذاكرتنا الجماعية.

وبالتالي هناك سابقة لارتفاع أسعار الغذاء لم يتسبب في زعزعة استقرار الاقتصاد الدولي، بل تبع هذا الارتفاع ربع قرن شهد أسعارًا منخفضة للمواد الغذائية، وذلك بداية من عام 1980، لكن لم يتم النظر إلى أزمة (2007-2008) من هذه الزاوية، فحتى في الدول الصاعدة والصناعية والتي تعد الأقل تأثرًا بالأزمة من الدول الفقيرة، أدت تلك الأزمة إلى تغيير في تفكير تلك الدول الأقوى، حيث ظهرت مخاوف من أن أزمة الغذاء المقبلة يمكن أن تؤثر عليهم، حيث يمكن أن يكون تأثيرها أقوى من أي أزمة شهدها العالم في السابق، بحيث يتخلى العالم عن آلياته التي تقوم على تعددية الأطراف أمام التدافع دون شفقة من أجل الغذاء.

 

ومن هذا المنظور، كان شراء الأراضي الزراعية الخصبة أو استئجارها لفترات طويلة في الخارج بمثابة تحرك من التحركات السياسية الواقعية التي لم تتقنع بقناع الاعتبارات الإنسانية، فهاجمت المنظمات غير الحكومية ما تم وصفه بالاستحواذ الاستعماري الجديد على الأراضي من جانب المستثمرين العرب والصينيين، والذي أدى إلى اقتلاع مجتمعات محلية من جذورها، وقوّض من اكتفاء الدول الفقيرة الذاتي، وهو ما اعتبرته تلك المنظمات تصرفًا وضيعًا وإن اتخذ شكلًا مقبولًا، لكن يمكن أن يثبت خطأ موقف تلك المنظمات على كل المستويات.

إن الدول التي تلقت تلك الاستثمارات يمكن أن تستفيد فعليًا، فهناك في الواقع حاجة ماسة إلى الاستثمار الزراعي في الدول النامية، حيث تظهر تقديرات منظمة الأغذية والزراعة أنه سوف تكون هناك حاجة إلى 30 مليار دولار من التمويل الإضافي لهذا الغرض خلال السنوات العشر المقبلة، وهو مبلغ لا تستطيع حكومات تلك الدول توفيره، وعادة ما تكون التعهدات الكبيرة للدول المانحة خلال الأزمات، مجرد تعهدات لا تؤدي فعليًا إلى مساعدات ملموسة، ومن هنا تأتي أهمية الاستثمار الأجنبي لسد تلك الفجوة.

لقد تم اعتبار الاستثمار الأجنبي المباشر هو الشكل المرغوب فيه بالدرجة الأكبر لتدفق رأس المال، فهو لا يؤدي فقط إلى انتقال الأموال إلى الدول المتلقية له، بل يأتي لها أيضًا بالتكنولوجيا والمعرفة، كما تكون للتحسن في الإنتاجية انعكاساته الإيجابية على الإنتاج المحلي، كما أن الاستثمار الأجنبي المباشر تأتي معه تكاليف مرتفعة بالنسبة للمستثمر، تتمثل في اختيار الأراضي المناسبة والتفاوض بشأن الاتفاقات وإقامة خطوط الإنتاج والنقل، وبالتالي يعد الاستثمار الأجنبي المباشر أكثر استقرارًا من مليارات الدولارات الخاصة بالمضاربات، والتي قد تؤدي إلى ازدهار اليوم يمكن أن ينتهي بشكل مفاجئ غدًا، ففكرة التعاقدات الخاصة بالأراضي الزراعية تعد أمرًا يمكن الاعتماد عليه على المدى الطويل.

أما عن مكاسب الأمن الغذائي بالنسبة للدول المستثمرة، وماذا سيحدث إذا وصلت أسعار الغذاء إلى عنان السماء، فإن الضغوط في الكثير من الدول المنتجة من أجل خفْض أو وقف الصادرات سوف تكون ضخمة، ومن المؤكد أن الاستثمارات بشكل عام تتمتع بالحماية بموجب اتفاقيات الاستثمار، والتي تضمن الحق في التصدير وتمنع المصادرة دون تعويض (وهو التعويض الذي يمكن أن يكون من الصعب على الدول النامية دفْعه، خاصة مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والذي يزيد من قيمة الاستثمار)، لكن يقول المنتقدون: إن الاتفاقيات تُبرَم ليتم فعليًا انتهاكها، ومن الممكن أن يكون هؤلاء المنتقدون على حق عندما يتعلق الأمر بالأمن الغذائي، فإذا كان الأمر يتعلق بمسألة حياة أو موت، فمن المؤكد أن إحدى الحكومات سوف تخضع أمام المطالب الشعبية، وسوف تجد الحكومات الأخرى أنه من الملائم أن تحذو حذوها، وهو ما يؤدي إلى تداعي النظام بأكمله.

إن الحكومات العربية والآسيوية؛ التي تضخ مليارات الدولارات في الاستثمار الأجنبي المباشر الزراعي ـــ سواء من خلال صناديق الثروة السيادية أو من خلال الكيانات المملوكة للدولة ــــ يجب أن تعي هشاشة وضع تلك التعاقدات، لكن النظرة السوقية يمكن أن تبرر تلك الاستثمارات على أسس تجارية، فعدد سكان العالم سوف يستمر في الارتفاع خلال العقود المقبلة، وسوف يزيد النمو في نصيب الفرد من الدخل في الدول النامية من الطلب على المواد الغذائية، كما أنه من المتوقع أن تزيد الاستخدامات غير الغذائية للإنتاج الزراعي، خاصة في أغراض الطاقة الحيوية.

وكانت الإمدادات الغذائية العالمية قد زادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بمعدل أسرع من معدل الزيادة في السكان، هو ما أدى إلى نمو غير مسبوق في التاريخ البشري، وزيادة الاستثمار في البحوث الزراعية والتنمية تظهر أن المستقبل سوف يشهد زيادة أكبر في الإنتاجية.

والأهم من الحلول التكنولوجية الجديدة، سوف تكون المكاسب التي تتحقق مع وضع حد لعدم الفاعلية الكارثية المستشرية في الكثير من الدول النامية، والتحدي الأول هنا هو؛ تحسين المدخلات وتحسين الائتمان وتحسين الأراضي وتحسين أسواق المخرجات والتي يعتمد عليها المزارعون، فمن الواضح أن المزارع الذي يفتقر إلى الحقوق الراسخة والواضحة فيما يتعلق بالملكية لن يبذل سوى الحد الأدنى من الجهد للحفاظ على وتحسين خصوبة التربة وتحسين نُظم الري. ويتمثل تحدٍ آخر في تعزيز معرفة المزارع بتقنيات الإنتاج، والمثال الجيد في هذا الصدد يتمثل في أن الأخذ بنظام الزراعة العضوية يزيد من الإنتاج الزراعي في الدول النامية حتى على المدى القصير، وهو نظام يؤدي إلى تعظيم العائد ويعد أحسن من النظم المعمول بها حاليًا في الكثير من الدول في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. كما أن عدم فاعلية الأسواق ونقض المعرفة هما السبب في إنتاج أفريقيا لنسبة 7% فقط من الإمدادات العالمية من الحبوب رغم امتلاكها 22% من الأراضي الزراعية في العالم، وهو ما يعني أن هناك إمكانات ضخمة لا يستفاد منها.

وسوف يستفيد إنتاج المواد الغذائية أيضًا من المزيد من التحرير للتجارة، وذلك لأن الزراعة تعد أكثر قطاعات الاقتصاد العالمي  خضوعًا للإجراءات الحمائية، وبينما وصلت جولة الدوحة لمفاوضات منظمة التجارة العالمية لطريق مسدود، وبينما تلاشى الطموح الذي صاحبها، يقوم العديد من الدول بخفض التعريفة وبإزالة صور الدعم التي تشوِّه وضع الأسواق، وهو ما يسهِّل المزيد من التخصص في الإنتاج، حيث يؤدي على سبيل المثال إلى إنتاج أقل للسكر في دول الاتحاد الأوروبي وإلى إنتاج أكثر له في البرازيل.

إن التغير المناخي هو العامل الذي لا يمكن التنبؤ به في هذا الصدد، والتهديدات فيما يتعلق بهذا الأمر تشمل ارتفاع درجة الحرارة والجفاف وتآكل التربة وارتفاع درجة الأملاح بها وانتشار الحشرات والأمراض وتكرار حالات التطرف في درجات الحرارة، لكن الإنتاجية الزراعية الأكبر في الدول التي تقع في المناطق ذات المناخ الأكثر برودة سوف تحد من تأثير ذلك بشكل جزئي، كما يحد من تأثيره تكثف نسبة أعلى من ثاني أكسيد الكربون في الهواء، وهو ما يزيد من نمو النباتات.

والأرجح هو؛ أننا سوف نشهد اتجاه أسعار المواد الغذائية التي اتسمت بالانخفاض طوال عقد كامل نحو الارتفاع، لكن لن يحدث نقص ضخم في الإمدادات الغذائية العالمية، وبالتالي يمكن أن يكون شراء الأراضي الزراعية ويمكن أن تكون زيادة الإنتاج بمثابة استثمار جيد في إطار هذه النظرة للأسواق، وفي هذه الحالة يجب أن يتم التعامل مع هذا الاستثمار مثل النوعيات الأخرى من الاستثمار عن طريق الشركات المستقلة التي تهتم بالقواعد الاقتصادية وليس عن طريق الصناديق المملوكة للدولة أو الشركات التي تحركها اعتبارات الأمن الغذائي الإستراتيجي فقط

font change