
(الليبرالية في السعودية: الفكرة، الممارسات، الرؤى المستقبلية -رصد وتحليل-)، كتاب صادر عن مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث. هذا الكتاب يُصنف بحسب مصادر غير رسمية بأنه من بين الكتب الأكثر مبيعًا في معرض الرياض الدولي لهذا العام.
العنوان للوهلة الأولى يوحي بقراءة تحليلية حياديّة، إلا أن هذه الحيادية تحيد هي أيضًا بمجرد أن تتأمل صورة الغلاف القاتمة، بلونيها الأخضر والأسود، حيث يقف رجل بزي غربي، يعتمر قبعته ويعطينا ظهره دون أن نتبين ملامح وجهه! صورة فيها الكثير من الإيحاءات "التغريبية" و" الماسونية" التي لا تخفى على أي متابع.
منهجية الدراسة من جهة اختيار عناوين البحث الرئيسة، تعتبر جيدة وموضوعية، حيث التمهيد للتعريف بمفهوم الليبرالية المحلية والعربية فكرًا وممارسة، ثم التعرض للتيار الليبرالي في المملكة من حيث النشأة والفكرة، وما يتبع ذلك من قراءة في مضامين أدبيات الليبرالية السعودية. إلا أن انتقائية الباحثين في استعراض المضامين والتفاصيل والمقالات، و الخلط بين طبيعة عمل الأشخاص محل البحث وتوجهاتهم، فقط، لأنهم اجتمعوا حول أفكار يرفضها خطاب الصحوة، توصلنا دائمًا لنتيجة تجرح منهجية أي بحث علمي، حين تُشعرك كقارئ بأن هناك من يريد أن يأخذ بيد فكرك قسرًا لنتيجة واحدة، بل لأحكام جاهزة ومتداولة.
البحث في مجمله يسعى بشكل واضح للم شتات كثير من الأشخاص (يسميهم رموز الليبرالية)، المتفاوتين ثقافيًّا ووظيفيًّا وتاريخيًّا، ليضعهم في قالب تنظيمي جاهز يسميه "الليبرالية في السعودية"، إلا أنه في ختام البحث يصل في إحدى نتائجه لنتيجة مغايرة ومتناقضة، فالليبراليون -بحسب هذه النتيجة- "ليسوا جبهة واحدة؛ حيث يهاجمون بعضهم البعض، ويؤكدون أنه لا وجود لتيار ليبرالي حقيقي في المجتمع، بل هم مجرد أفراد يبحثون عن الشهرة في محاولة هدم القواعد الاجتماعية". ولكن، ولاستدراك هذا التناقض، يعود البحث، في ذات النتيجة، ليخلص بأن هناك تأكيدًا من بعضهم (لا أعرف من المقصود هنا بهذا البعض) أن لليبراليين "تنظيم" وخاصة في الأندية الأدبية، وختامًا فإنه يظهر بأن هناك "أفرادًا ليبراليين وآخرين ضمن تنظيم أو تنسيق ليبرالي سعودي"!
خلاصة هذه النتيجة، تحديدًا، بالنسبة لي كقارئ أنه قد يكون هناك أفراد يصلون لدرجة التنسيق فيما بينهم، كما أن هناك تنسيقًا يصل لدرجة التنظيم، ولكن دون أن تَحسِم هذه "النتيجة" أمرها تجاه بحث مطول، فيما كانت قد حسمته منهجيًّا حين وضعتهم على ذات الطاولة التحليلية!
[blockquote]سنة الحياة، اقتضت وجود طرفين أحدهما أكثر انفتاحًا والآخر أكثر تحفظًا؛ هذا صراع أزلي إنساني ومعرفي، تنبه له المفكرون، والعارفون بطبائع النفوس والمجتمعات؛ وتأسست عليه أحدث الأنظمة المدنية.[/blockquote][caption id="attachment_55243615" align="alignleft" width="204"]

يقع هذا الكتاب وغيره الكثير من مواجهاتنا المحلية التي يقودها "خطاب الصحوة" أو حتى بعض الخطابات الثقافية "الأبوية"، كخطاب "الليبرالية الموشومة" (طرحه الدكتور عبد الله الغذامي، ولقي رواجًا بين بعض الحقوقيين والإسلاميين)، في ذات المأزق المنهجي حين تستجمع هذه الخطابات كيانًا ليبراليًا مُتخيَلاً، تهاجمهُ منطلقةً من موقف محدد تجاه أشخاص أو منتديات أو صحف، ثم ما تلبث أن تصل هذه الخطابات لنتيجة متناقضة تمامًا حيث لا وجود برأيهم لليبراليين حقيقيين. فلا تملك كمتابع إلا أن تحسب لهذا التيار الليبرالي المُتخيَل ميزته العظيمة في كونه الوحيد الذي "تجتمع" للتنفيس ضده كل التيارات، من أطراف الُمسيَّسين حقوقيًا إلى أقاصي المتأخونين سلفيًا.
شخصيًا، لا أخفي رغبتي و"انحيازي" لوجود تيار ليبرالي أكثر وضوحًا يُعادل كفة توجهاتنا المحافظة في مجملها، فهذه سنة الحياة، وضرورة حقيقية لكل مجتمع بغض النظر عن التسميات. ومن هنا كانت حتمية وجود الطرفين الأكثر انفتاحًا والأكثر تحفظًا؛ فهذا صراع أزلي إنساني ومعرفي، تنبه له المفكرون، والعارفون بطبائع النفوس والمجتمعات؛ ليقترحوا أكثر الأنظمة المدنية فعالية حتى اليوم، وأعني هنا "نظام الحزبين" الذي تأخذ به أقوى الدول صناعيًّا وفكريًّا في قناعة تامة بأن طبائع الناس لا تكاد تخلو من هذين النوعين، وهو ما يُعرف أيضًا لدى علماء النفس بنوعي الشخصية الانطوائية والانبساطية، فالأولى تجد استقرارها النفسي دائمًا في تحفظها والانغلاق على ذاتها وثقافتها، خوفًا على هويتها، أما الأخرى فهي أكثر جرأة في هذا الجانب، ولا تجد ما يمنع أو يخيف من التحديث والتواصل مع الآخرين وتجاربهم ومكتسباتهم.
ولكن أن يكون هذا التيار مجرد "فزاعة" يستخدمها البعض ليهاجم بها من أراد، من أجل تصفية حسابات قديمة أو جديدة، فهذا ما لا يليق بدراساتنا وحواراتنا وخطاباتنا الثقافية، التي لا بد وأن تخرج في نهاية المطاف، على الأقل، بنتائج -لا أقول توافقية- فسواء اتفقنا أم لم نتفق، يجب أن نقدم نتائج وطنية تنموية تقدمية.