ذائقة الشعب وسلطة النص من منظور سعد الصويان

ذائقة الشعب وسلطة النص من منظور سعد الصويان

[caption id="attachment_55246447" align="aligncenter" width="620"]ثقافة الصحراء ومروياتها تقدم تاريخاً زاخراً يكشف تطور المجتمعات ثقافة الصحراء ومروياتها تقدم تاريخاً زاخراً يكشف تطور المجتمعات[/caption]

في يناير (كانون الثاني) الماضي صدر كتاب الباحث السعودي أستاذ علم الاجتماع بجامعة الملك سعود بالرياض، الدكتور سعد العبد الله الصويان «ملحمة التطور البشري» وترافق مع صدوره زخم واحتفاء كبيران، كان الداعي لذلك هو موضوع الكتاب وحجمه، ومن ناحية أخرى فإن المفاجأة كانت لدى البعض في اسم الكاتب!

ارتبط اسم الصويان عند البعض بالأدب الشعبي، وربما ناله شيء من تلك النظرة السلبية التي يحملها البعض تجاه الآداب الشعبية ودارسيها. تكمن المفارقة هنا في أن الحفاوة بهذا الكتاب وغيابها عن كتبه السابقة هو تجسيد صريح لما ذكره الكاتب سابقا من خلل في الأطر الذهنية لدى أصحاب تلك النظرة.

على مدى سنين طوال، كرس سعد الصويان وقته وجهده لدراسة ثقافة الجزيرة العربية وتوثيقها وحفظها، فمن الناحية التوثيقية هو من أشد الناشطين في هذا المجال، بدأ منذ عام 1982 بتسجيل مئات الساعات من أفواه الرواة ليحفظ كما هائلا من المأثورات الشفهية ويحول دون فقدانها بعد غياب من اختزنوها في ذاكرتهم، فتلك المرويات لا تمثل قيمة أدبية فقط، بل تحمل قيمة ثقافية زاخرة لزمن مضى ولمجتمعات غابت ظروف نشأتها واستمراريتها وزالت ممارساتها الشفهية لما طرأ على المنطقة من تغيرات ثقافية واجتماعية يدفعها الزمن.

وقد نتج عن ذلك المجهود الضخم (كتابه أيام العرب الأواخر: أساطير ومرويات شفهية في التاريخ والأدب من شمال الجزيرة العربية مع شذرات مختارة من قبيلة المره وسبيع)، وكتاب آخر هو «فهرست الشعر النبطي»، كما أمضى الصويان عشر سنين ابتداء من عام 1991 مع دار «الدائرة» للنشر والتوثيق رئيسا لهيئة التحرير ومشرفا علميا ومديرا عاما لمشروعين هما الثقافة التقليدية في المملكة العربية السعودية في 12 مجلدا، وآخر هو الملك عبد العزيز آل سعود: سيرته وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية في 20 مجلدا لُخصت فيها أكثر من خمسين ألف وثيقة من الأرشيفات البريطانية والفرنسية والأميركية.

قدم الصويان مجموعة من الأعمال البحثية المتفردة والمميزة، لا تضاهى، في تعاطيها مع ثقافة الصحراء العربية وفهمها لها، هذه الأعمال قد تسهم بشكل كبير في سد فراغات كبرى في نظرتنا للماضي وانعكاساته على الحاضر وحل كثير من إشكالاتها. مستندا على عمله الميداني الفذ وأدوات العلوم الإنسانية والاجتماعية وإلمام رفيع بالموروث الثقافي، يستعرض الصويان شواهده واستنتاجاته لدوافع ابن الجزيرة العربية في اختياراته وتصرفاته، ويبحث في كثير من الظواهر المتداخلة المعقدة التركيب التي قلما بحثت بهذا العمق والجرأة.


[caption id="attachment_55246426" align="alignleft" width="200"]د. سعد الصويان د. سعد الصويان[/caption]
[blockquote]على مدى سنين طوال، كرس الدكتور سعد الصويان وقته وجهده لدراسة ثقافة الجزيرة العربية وتوثيقها وحفظها، وأصبح من أشد الناشطين في هذا المجال.[/blockquote]



سأسلط الضوء هنا على ثقافة الصحراء العربية بمنظور الصويان عبر التركيز على كتابيه (الشعر النبطي: ذائقة الشعب وسلطة النص) والآخر (الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور، قراءة أنثروبولوجية)، وسأحاول أن أستخلص بعضا من آرائه فيها دون أي حرج من الإحالة إلى نصوصه مباشرة كما ستظهر للقارئ بين علامات التنصيص.



دراسة الشعر النبطي





لا يمكن لنا أن نتعرض لدراسة سعد الصويان للشعر النبطي دون أن نعرج على نظرة الازدراء من قبل أغلب الكتاب والمفكرين في العالم العربي تجاه عموم الأدب الشعبي؛ باعتباره مظهرا من مظاهر التخلف والانفلات. وعلى الرغم مما تقدمه الدراسة من مادة علمية رصينة فإن الصويان يتوقف عند مقولات الرفض هذه التي شيدت «على أسس منطقية خاطئة وعلى طرق في التفكير تنافي الروح العلمية» ليفندها ويبرز سوء الفهم فيها. إن أي تغير قد يطرأ على اللغة لا يعدو كونه ضرورة حتمية تدفعها حركة التطور، واعتبار هذا التغير فسادا هو تجل لإشكال حقيقي تجاه أي تغير كان، إن التعامل مع الأمور بتصور مسبق عنها هو النقيض التام للمنهج العلمي، هذه النظرة هي «نظرة بدائية ما قبل علمية تقوم على التفسيرات الأسطورية لنشأة الكون.. التغير وفق هذه النظرة ليس قانونا طبيعيا يسير هذا الوجود ويحكمه.. إنه يقود بالضرورة إلى نظرة ارتجاعية في تفسير التاريخ، فالتاريخ البشري وفق هذه النظرة يسير بانحدار نحو هاوية محتومة». إن الإشكال الذي يعاني منه البعض مع المنهجية العلمية يتجلى في أوجه كثيرة، منها أن يظن البعض أن دراسة موضوع ما هي دعوة لتبنيه واتباعه، أو ممارسة الإسقاطات الآيديولوجية تجاه الدراسات العلمية، لا يمكن لنا أن نرفض دراسة الأدب الشعبي لافتراض المؤامرات في هذا التوجه! إن أصالة الآداب الشعبية أو الفنون القولية في الجزيرة العربية وما تقدمه من الفائدة في تعاملنا مع الماضي وحركة التاريخ وفهمنا لهما كاف لرفض هذه التوجسات من المؤامرات، عدا عما تحمله هذه النظرة من خلل لا مجال لذكره، كما أن رفض الآداب الشعبية لكونها إقليمية هو في الحقيقة رفض للواقع أو مبالغة في تقدير معطياته، لا يمكننا الإفلات من أثر المكان كعامل للتغير كما لا يمكننا الإفلات من أثر الزمان.

أخيرا يجب أن لا يتم التعامل مع الأدب الشعبي بصفته الأدبية فقط، الأدب الشعبي الشفاهي يمثل «مرآة تعكس الحياة الاجتماعية والقيم الثقافية في سالف العصور.. يهتم الإثنولوجيون بالأدب الشفهي لأنهم يريدون عن طريق البحث المقارن أن يتوصلوا إلى الفروق الذهنية والشعورية والسلوكية التي تميز المراحل الشفهية على سلم التطور البشري عن العصور اللاحقة التي تنتشر فيها الكتابة والتدوين».




[blockquote]لا يمكن لنا أن نتعرض لدراسة سعد الصويان للشعر النبطي دون أن نعرج على نظرة الازدراء من قبل أغلب الكتاب والمفكرين في العالم العربي تجاه عموم الأدب الشعبي باعتباره مظهرا من مظاهر التخلف والانفلات.[/blockquote]



إن في ازدراء الأدب الشعبي ازدراء لشعب بأكمله باعتبار أن ما يحرك مشاعرهم وما أنتجوه في هذا المضمار هو محقر فقط لأن لغته مختلفة وليست فصيحة، علما بأن اللغة ليست عاملا للاستدلال على جمالية أي نص ما، لا يمكننا الحكم مثلا على الأدب الفرنسي بالانحطاط فقط لكونه ليس عربيا. ويؤكد الصويان أن هذه الذهنية أقرب للذهنية الشعبية منها إلى العلمية في تعاطيها مع الأدب الشعبي ورفضها له.



الشعر النبطي سليل الشعر الجاهلي





يبرز الصويان العلاقة بين الشعر النبطي والشعر الجاهلي بأن كليهما أدب شعبي لا تختلف لغته عن لغة الناس اليومية، بل ويذهب الصويان إلى أن الشعر العربي الفصيح لم يتخل عن أساليب الأدب الشفهي كالتكرار والإرداف والسجع والاستطراد: «إذا سمحنا لأنفسنا بأن لا نقتصر في تعريفنا لشعبية المادة على شكلها اللغوي بل تجاوزنا ذلك إلى المضمون فإن الكثير من المادة التي تزخر بها كتب الأدب العربي ليست إلا مادة شعبية فُصحت لغتها» كالبخلاء وكليلة ودمنة وغيرهما. الظروف الطبيعية والاجتماعية لبيئة الشاعر النبطي وما تخلق من موارد ملهمة لشعره تتشابه تماما معها لدى الشاعر الجاهلي. يصل الصويان في كتابه «الشعر النبطي: ذائقة الشعب وسلطة النص» إلى نتيجة مفادها أن، النبطي/ العامي هو السليل المباشر والامتداد للجاهلي/ الفصيح. شعبية الأدب لا تتحدد من خلال لغته بقدر ما تتحدد من خلال وظيفته الاجتماعية والتداول الشفهي والتقليدية في الشكل والمضمون.

هذه المحددات يتساوى فيها الشعر الجاهلي والشعر النبطي رغم ما بينهما من اختلاف في اللغة». هذان النمطان من الشعر يشتركان في الرقعة الجغرافية وفي أمية الشعوب التي أنتجتهما، وأسلوب تداولهما الشفاهي، وفي المناخ الاجتماعي والثقافي. قبل أن نتطرق إلى ما طرأ على اللغة من التغير تجب الإشارة إلى أن الازدواجية اللغوية هي ظاهرة مدنية لا تنشأ إلا في المجتمعات الكتابية المعقدة التركيب، الحديث هنا هو عن الازدواجية اللغوية بغض النظر عن مستويات الخطاب في اللغة الواحدة. هذه الحواضر التي طرأ فيها الازدواج هي الحواضر العربية ما بعد الفتوحات الإسلامية نتج عن انتقال مراكز الدولة من الجزيرة العربية نحو الشمال، نحو تلك المدن المثقلة بالإرث الحضاري تحولات جذرية على المستوى اللغوي نشأت لغتان، عامية وفصيحة هذه التغيرات منطقية في سياقها حيث يفرض هذا الاحتكاك مع شعوب تلك الأمصار وهذا التحول إلى الحياة المدنية تغيرا في اللغة والثقافة عموما. أما التفاوت في مستويات الخطاب فهو موجود في داخل النسق اللغوي الواحد ويتعين هذا التفاوت باختلاف الغرض الفني والوظيفة.


[caption id="attachment_55246427" align="alignleft" width="206"]كتاب : الشعر النبطي.. ذائقة الشعب وسلطة النص، للصويان كتاب : الشعر النبطي.. ذائقة الشعب وسلطة النص، للصويان[/caption]


[blockquote]قدم الصويان مجموعة من الأعمال البحثية المتفردة والمميزة التي لا تضاهى في تعاطيها مع ثقافة الصحراء العربية وفهمها لها.[/blockquote]



بلا شك فإن هذا التفاوت كان موجودا أيضا في العصر الجاهلي، لغة التخاطب اليومي اختلفت عن لغة الشعر والأدب، كما اختلفت أيضا لهجات القبائل والمناطق المختلفة، لكن لغة الشعر والأدب بقيت متجانسة إلى حد كبير بغض النظر عن اللهجات كما هو الحال الآن في الشعر النبطي. «اختلاف اللهجات بين مختلف القبائل والمناطق في الفترة نفسها الزمنية، وتغير اللهجة نفسها بين سياق خطابي وآخر، هذه ثلاثة أسباب، ويمكن إضافة أسباب أخرى إليها، جديرة بأن تجعلنا ننتبه إلى أن اللغة العربية التي كان يمتلكها العرب الأوائل لم تكن بذلك الانتظام الذي أضفته عليها فيما بعد جهود اللغويين العرب».

ومقصد الكاتب في هذا أن الفصحى كما نعرفها ليست هي بالتحديد ما كان يتكلمه أولئك العرب بهذا الانتظام والاتساق، أي أن الفصحى بقواعدها ونظمها الآن ليست إلا صياغة لتفسير الظاهرة اللغوية، ولا يلغي ذلك أي احتمال لصياغة أخرى. هذه الصياغة «في نهاية الأمر شيء مؤسس على ما كان يتكلمه أولئك العرب الأوائل» تساق هذه النقطة للتشديد على أن هذا الانتظام والاتساق اللغوي هو نتاج للقواعد التي فسرت تلك الظاهرة، وأيضا لنفي النظريات المشككة في مصداقية شعر تلك المرحلة من الزمن لما سندته من القواعد النحوية والصرفية والصوتية التي صاغها اللغويون. إن عزلة القبائل البدوية في الصحراء العربية جعلتهم أقرب إلى النموذج الذي يصوره الشعر الجاهلي والحياة التي يعبر عنها، أقرب إلى هذا النموذج عن عرب الحواضر والأمصار الذي بدأ شعرهم مع العصر العباسي يبتعد عن الشعر الجاهلي «في الرؤية والمضمون والوظيفة والأداء والتداول». أصبح الفصيح في الحواضر العربية لغة رسمية، يتم تعلمها عبر المدارس، بينما بقي بدو الصحراء بمعزل عن تلك القواعد والقيود التي قد تقيد أي تغير عفوي فما حدث في البادية من تفشي اللحن ثم العامية هو نتيجة حتمية للتطور بشكل أساسي، وأيضا بتأثر للتغيرات اللغوية لتلك الحواضر العربية مما أحدثه اختلاط العرب بالأجناس الأخرى.

من المعلوم أن العامية شاعت أولا لدى سكان الأمصار بينما ظل بدو الصحراء يتحدثون بلغتهم الفصحى وهذا هو أحد الشواهد لما تم ذكره مسبقا عن سياق التغير اللغوي في الصحراء، توقف علماء اللغة عن أخذها من غير سكان البادية في حدود منتصف القرن الثاني الهجري. وعلى الرغم من الغموض ونقص أو شبه انعدام النماذج الشعرية لسكان البادية التي قد تشير إلى بدايات الشعر النبطي إلا أن الباحث يسوق الشواهد التي تشير إلى القرن الرابع الهجري بصفته حاسما في تحول لغة الشعر الفصيح إلى العامي، ويستمر في شواهده إلى أن يصل للفترة الزمنية التي عاش فيها أبو حمزة العامري، الذي يرجح أنه عاش في النصف الثاني من القرن السابع الهجري والنصف الأول من القرن الثامن الهجري وتنسب له أقدم النصوص التي تمثل الشعر النبطي.



الشفاهة والكتابة





قبل البدء في التعاطي مع ثقافة وشعر الصحراء العربية، يعرج الصويان على الشفاهة والكتابة في اللغة والأدب وما يترتب على كل منهما: «إن المجتمعات الشفاهية تصوغ آدابها ومعارفها بأسلوب يسهل حفظه وتذكره واسترجاعه. التكرار والإرداف والاتباع والتقابل والسجع وتوازن الفقرات والقوالب اللفظية في النثر والوزن والقافية في الشعر وغيرها من خصائص الأسلوب الشفاهي ليست مجرد عناصر جمالية أو آليات لتسهيل النظم وارتجاله، بل هي أيضا وسائل تساعد على الحفظ والتذكر والرواية ولذا نجد أن المجتمعات الشفاهية تعتمد كثيرا على القوالب الجاهزة والصيغ التقليدية في التفكير والتعبير وتميل نحو النمطية في الوصف والتشخيص. وهي إلى المحسوسات أقرب منها إلى التجريد..».

ومن سمات الأدب الشفاهي المحافظة والتقليد. فلكونه شفاهيا فإن المتلقي له دور بارز فيه كما للأديب نفسه مادة هذا الأدب هي واقع متلقيه وقيمه الأخلاقية والثقافية والاجتماعية لا يحاول الأديب فيه أن يخلق وعيا جديدا أو أن يعبر عن ذاته بقدر ما يحاول أن يستجيب لواقع عصره وذائقة جمهوره، ولهذا نجد أن التكرار والترداد من أبرز سماته، هذا الأسلوب يناسب المتلقي ويحقق الشروط التي تضمن له البقاء في ذهن المجتمع. إن ذهنية الإنسان الأمي تختلف عن ذهنية الإنسان المتعلم، آليات التفكير التقمصي والتموضعي تغلب على ذهنيته، فهو لا يتعامل مع الكلمات بموضوعية ويعزلها عن صورها الحسية، فتجد لديه أن «التلفظ بالدال يشير إلى المدلول» فيتفادى ذكر الأمراض الخطيرة أو الكائنات المخيفة بأسمائها (طاعون، سرطان، شيطان.. إلخ) ويصعب عليه: «تصور الأعداد الحسابية مجردة من أشياء حسية محددة ترتبط بها» وكذلك في وسوم إبله التي لا يسميها بمصطلحاتها المجردة بل بما تسجله من أشياء (الدائرة يسميها حلقة وهكذا)، وكما كان الناس يتحاشون الشعراء في الجاهلية خوفا من هجائهم، فإن الدعاء على الغريم حل محل الهجاء في الشعر النبطي. النزاعات والصراعات التي يعيشها الإنسان الأمي تنعكس على تفكيره وأدبه، ولهذا تتسم الثقافة الشفاهية بالصبغة الصدامية وذلك لما يعيشه إنسانها من خوف وقسوة في الحياة وضعف للأمن وما تحدثه قوى الطبيعة من ظواهر لا يمكنه تعليلها وفهمها: «هذا الجهل بقوانين الطبيعة إلى الاعتقاد بحيوية المادة فيفضي على الأشياء دوافع أشبه بالدوافع الإنسانية ويصبح عالمه مسكونا بالأرواح التي يعزو إليها ما يحدث له من خير أو شر..».

كما أن الرجل البدائي لا يغيب عنه الحس بوجود الأعداء المتربصين، ولا يتوارى عن شخصنة الخلاف في الرأي: «على مبدأ أنت إما معي أو ضدي حيث لا حيادية ولا موضوعية ولا تفكير أو موقف متجرد». كل هذا لا يعني كما يوضح الصويان أن الإنسان الأمي يفتقر إلى الحكمة والعقل والمنطق لكن هناك عمليات ذهنية لا تتحقق إلا بالكتابة، التراكم المعرفي الناتج عن الكتابة هو الذي يمكن الإنسان من إتقان التحليل والتصنيف التجريدي: «المعارف الشفاهية هي معارف تكديسية تراكمية تقوم على حشد المعلومات وتجميعها لكنها تفتقر إلى وسائل المزج والدمج وآليات الربط والتركيب وإلى أدوات التأمل والنقد والتحليل التي توفرها الكتابة والتي تمنح القدرة على الاستنباط والاستقراء والاستنتاج والتعميم وتقود إلى صقل ملكة النقد والتحليل وإلى نشأة العلوم». إن عدم إدراكنا لهذه الأمور يقود إلى الإشكال في التعامل مع النتاج الأدبي الشفاهي. يرى الصويان أن الثقافة العربية لم تتحول بعد بشكل كامل من مرحلة الشفاهة إلى الكتابة، حيث لا يزال الشعر الجاهلي هو نموذجها الأعلى.




[blockquote]

نظرية الانتحال ونظرية الصياغة الشفاهية





يعبر الصويان عن موقف رصين ومثير تجاه هذه النظريات، فهو من ناحية لا يستبعد احتمال أي تغير أو تحريف قد يطال الشعر الجاهلي، لكنه يؤكد أن مضامين هذا الشعر وبنيته تتفق تماما مع ظروف العيش في ذلك الزمن، ومن هذا المنطلق تنتفي احتمالية نحله بأكمله، فلو كان منحولا لعبر عن عصره الذي نُحل فيه: «هذا التماسك الطبيعي والتلاحم العضوي والانصهار بين مكونات الموروث الشعري الجاهلي الضخم من جهة، وبينه وبين مجمل المعارف الغزيرة المتعلقة بحياة الجاهلية وتاريخها من جهة أخرى يجعل من الصعب علينا أن نتصور أن الشعر الجاهلي في غالبيته مزيف». وفي حين يستدل أصحاب نظرية الانتحال بنقص الإشارات الدينية في الشعر الجاهلي عدا ما شابه منها روح الإسلام وصبغته فإن الصويان يستخدم هذه الشواهد للاستدلال على نقيض نظريتهم، فالإسلام والقرآن تبنيا لغة العرب ولسانهم، والجانب الروحي والأخروي فيه هو امتداد لتصورات سابقة مماثلة، يجب أن ننظر إلى العلاقة بين الإسلام والعرب الجاهليين بمنظور صحيح، فهذه العلاقة هي علاقة امتدادية. ومن ناحية أخرى فإن نقص الإشارات الدينية في الشعر الجاهلي يعود إلى الطبيعة البدوية التي تصبغ هذا الشعر، ومن عادة البدو: «ألا يكترثوا كثيرا بأمور الدين التي يجهلونها ولا يلقون لها بالا. خصوصا من هم موغلون في البداوة، لأن الدين حضري، كما في القول المأثور» ويستشهد الصويان في هذه النقطة بنماذج من الشعر النبطي.
[/blockquote]




البداوة والحضارة





يذهب الصويان إلى أن النظرة المنحازة ضد البداوة هي نتاج لصراع الحضارات النهرية مع أهالي الصحارى العربية، نشأت الكتابة في تلك الحضارات، في ممالك الهلال الخصيب، وحسمت الصراع لصالحها، لكن تبقى هذه الرؤية أمرا غير حيادي ومخالفا للمنهجية العلمية، إن عجلة التطور تسير وفق آليات معنية يحكمها تلاحم ظروف مختلفة، ونشأة الكتابة في ممالك الهلال الخصيب تدفعها مجموعة من الآليات التي غابت عن حياة أهالي الصحارى العربية، وغياب تلك الآليات يبرز الاختلاف فقط ولا يوحي بتخلف أهالي الصحراء: «الحياة البدوية حياة ترحالية لا تبني ولا تشيد وثقافتها ثقافة شفهية لا تقيد ولا توثق» ومع تأسس الدولة الإسلامية وانتقال مراكزها إلى الشام والعراق ومصر، ترسخت تلك النظرة المنحازة ضد البدو مع إسهام أهل الهلال الخصيب والفرس في صياغة المدنية العربية: «هذا يعني أن الحضارة العربية بتحولها إلى حضارة كتابية وقعت هي نفسها في مصيدة الانحياز ضد ذاتها، خصوصا بعد نشوء مفهوم الدولة الذي هو على النقيض من مفهوم القبيلة لذلك نجد ابن خلدون يرى في البداوة نقيضا للحضارة وضدا لها» هذا المفهوم للبدو يعتبر أهل وسط الجزيرة وشمالها كلهم بدوا، بما فيهم من تحضر من الفلاحين. ابن خلدون يؤكد أن وجود البدو يعتمد أساسيا على وجود الحضر لسد حاجاتهم الضرورية وهذا يتنافى مع أولية البدو على الحضر وهو ما يتناقض مع اعتباره للبداوة مرحلة بدائية سابقة للحضارة.



arabian-desert-tours
[blockquote]التنظيم القبلي هو في حقيقته مؤسس على الأحلاف، تنشأ التحالفات على المصالح المشتركة أو التجاور، وتحل لاحقا أسطورة النسب محل الوحدة المكانية.[/blockquote]




يجب أن نفرق ما بين البداوة والبدائية، الإنسان البدائي هو الذي يعيش في مجموعات قرابية صغيرة تمارس الجمع والصيد والبحث عن مصادر الغذاء الطبيعية، وترتحل للبحث عن القوت فقط، وهي مرحلة من العيش سابقة للزراعة والرعي واستئناس الحيوان: «لا يمكننا مقارنة البداوة بالبدائية لأنها تختلف عنها نوعيا وتتفوق عليها بمراحل من الناحية الثقافية ولأن متطلبات الحياة الرعوية لا تقل عن متطلبات الحياة الزراعية من حيث المستوى التكنولوجي ومستوى التنظيم السياسي والاجتماعي»، الإنسان البدوي يرتحل بحثا عن المرعى، استأنس الحيوانات واستفاد من ركوبها وحلبها كما استفاد من صوفها وجلودها وعظامها وله سلطة عليها بعكس الإنسان البدائي، كما أن المجتمعات البدوية ليست معزولة كما هي البدائية، هذا الحديث بالتأكيد لا ينطبق على النظام القبلي الذي يؤكد الصويان أنه مرحلة سابقة لقيام الدولة. من الصحيح أن نقول إن الثقافة الحضرية كانت أكثر تقدما من الثقافة البدوية في الجانب المادي للثقافة، لكن اعتماد البدو على أدوات الحضر المتقدمة تقنيا يعتمد فقط على مدى حاجتهم لها، فالحاجة هي التي تدفع إلى الإنتاج والتقدم في أحد مجالات الثقافة، ومن هنا نشدد على التقدم الثقافي للبدو في الجوانب التي استدعتها حاجتهم أكثر من الحضر: مثل التنظيمات الاجتماعية والسياسية والقضائية والقدرات الحربية والفصاحة والبيان وغيرها: «لا أحد ينكر دور البدو في الفتوحات الإسلامية قديما وفي توحيد المملكة العربية السعودية حديثا».

يورد بعد هذا الصويان الآراء بأن الرعي جاء متقدما على ممارسة الإنسان الزراعة بفترة طويلة، حيث إن استئناس الحيوانات أتى بعد تدجين النبات، فالحقول المزروعة تمثل عامل جذب للحيوانات البرية، ثم لاحقا بعد أن تمكن الإنسان من الزراعة بعيدا عن مجاري الأنهار وما حدث من تفجر سكاني نتيجة إنتاج الغذاء، أصبح الغذاء كافيا للإنسان فقط دون الحيوان. ما أحدثته الزراعة من نشأة للقرى وازدياد في حجمها، أثر على الرعاة الذين اضطروا للرعي في المناطق الصحراوية: «وكلما توغل الرعاة بعيدا في الصحراء، كلما أصبحوا هم وماشيتهم عرضة للسباع والوحوش والسلب والنهب.. في هذه المرحلة كانت الزراعة والرعي قد أصبحتا مهمتين شاقتين كل منهما تحتاج إلى مهارات خاصة مما جعل من الصعب الجمع بينهما ولذلك انفصل الرعاة عن الفلاحين واصطحبوا معهم عائلاتهم وصاروا يعيشون في جماعات منظمة». البداوة بمفهومها العربي ترتبط بشكل أساسي باستئناس البعير، الذي لم يتيسر إلا منذ أربعة آلاف سنة. غير الزراعة التي نشأت منذ عشرة آلاف سنة.



ثنائية البدو والحضر





يحمل أهل الجزيرة العربية تصورا نظريا تجاه مجتمعهم يسميه الصويان النموذج المحلي، يختلف النموذج المحلي عن النموذج الخلدوني في قصر المسافة الثقافية بين البدو والحضر، فهي ليست ثنائية تعاقبية بل ثنائية ينظر لها من منظور بنائي تقابلي، تقوم على تبادل الخدمات والمصالح والسلع، هذا النموذج المحلي يقدم البداوة والحضارة باعتبارهما وسيلتين متكاملتين مترابطتين للتكيف مع البيئة الصحراوية، أي أنهما يرتكزان على قاعدتين إنتاجيتين وتكنولوجيتين في معادلة اقتصادية واجتماعية واحدة، تخف التضادية في هذا النموذج عن النموذج الخلدوني بين البدو والحضر ولكنها لا تزول تماما: «صراع البداوة والحضارة صراع قديم يعود، كما تحدثنا الأسطورة، إلى أيام قابيل وهابيل.. لكنه في النموذج المحلي ليس صراعا بين جماعات همجية بربرية بدائية وأمم راقية متحضرة. إنه في حقيقته صراع أيكولوجي بين مجموعتين تكادان تكونان متعادلتين ومتساويتين تقنيا وحضاريا» يستعرض الصويان الشواهد الشعرية لهذا الصراع، وتنقل تلك الشواهد ما تحتله ثنائية البداوة والحضارة في ذهن أهالي الجزيرة العربية، واستحضارها لبيان الاختلاف، أو لأغراض التشبيه، أو بيان الصور النمطية والمشاعر تجاه الأخرى، وهي عادة ما تكون غامضة تتراوح بين الازدراء والإعجاب.

إن هذا التداخل في التركيب والتشعب والكثافة في العلاقات يؤكد ماهية العلاقة التكاملية بين البدو والحضر: «خلاف ما يفترضه النموذج الخلدوني بأن البدو فقط هم الذين لا غنى لهم عن الحضر في حاجاتهم الضرورية بينما لا يحتاج الحضر إلى البدو إلا في الحاجي والكمالي» وكذلك نجد في النموذج المحلي ما يتناقض مع ما يفترضه ابن خلدون بأن غاية البدوي هي التحضر، وبأن ثنائية البداوة والحضارة تسير في حركة تطورية أحادية الاتجاه حيث نجد تحولات جمة من البداوة إلى الحضارة والعكس، بدافع الفقر أو القحط أو التعرض للغزو الكاسح، أو فحش الغنى وبدافع تردي الزراعة أو اضطراب الأحوال السياسية عند الحضري: «وهذا ما حدث مثلا في العالم الإسلامي مع انهيار سلطة الدولة العباسية..».. ومن الأدلة على ضبابية التمايز بين سكان الجزيرة العربية وجود الشوايا، وهم البدو المختصون بتربية الماعز والضأن، وهذه الأنواع من الماشية لا تمكنهم من التوغل في الصحراء وممارسة الغزو، مما يجعلهم يدفعون الإتاوة للقبائل التي تحميهم، وأيضا من يسمون القعدية (من القعود وعدم الحركة) وهم بدو انعدمت بفعل الظروف رواحلهم، فسكنوا حافة المدن والقرى الزراعية.



المشهد السياسي





ما سبق من تصنيف لأهل الجزيرة العربية من بدو وحضر بني على أسس معيشية لا سياسية، لم تكن هذه الثنائية سمة لحروب ذلك الزمن، نشأت المعارك والتحالفات بين البدو والحضر دون أي اعتبار لاختلافهما. الإمارات والمشيخات نشأت بعضها في جزيرة العرب على شرعية مدنية حضرية ونشأت أخرى على شرعية قبلية، حيث تحولت القبيلة مباشرة إلى دولة دون تدرج للحضارة، ولكنها طبعا قامت على قاعدة حضرية لحظة هذا التحول. طرق الحج والتجارة والإنتاجية الزراعية والقدرة على استغلال الموارد مثلت العوامل الأهم في نشوء تلك الدول، استطاعت تلك الدول أن تفرض السلام والاستقرار في بعض الفترات ولكنها كانت فترات متباعدة وقصيرة.


[caption id="attachment_55246428" align="alignleft" width="197"]كتاب:  الصحراء العربية، ثقافتها وشعرها عبر العصور .. للصويان كتاب: الصحراء العربية، ثقافتها وشعرها عبر العصور .. للصويان[/caption]


[blockquote]أصبح الفصيح في الحواضر العربية لغة رسمية، يتم تعلمها عبر المدارس، بينما بقي بدو الصحراء بمعزل عن تلك القواعد والقيود التي تقيد أي تغير عفوي فما يحدث في البادية هو نتيجة حتمية للتطور.[/blockquote]


إن وجود سلطة مركزية قوية في الجزيرة العربية قبل بداية القرن العشرين في تلك الظروف كان أمرا متعذرا لضعف القاعدة التكنولوجية وقسوة البيئة الصحراوية وما خلفته على إنسانها من نزعة تنافسية تمردية. هذا الغياب أو الضعف في السلطة المركزية كان له أثر إيجابي على حياة البدو وازدهارهم، بطبيعتهم الترحالية وقدرتهم الحربية مارسوا الغزو وتحكموا بالطرق والمسالك البرية، أجبرت هذه الصفات القرى الضعيفة إلى دفع الإتاوة مقابل توقف الغارات والأمن في التنقل. كانت التغيرات الدولية في القرن السابع عشر عاملا مسؤولا للتغير الاقتصادي في الجزيرة العربية، حيث اتخذت حركة التجارة بعدا إقليميا بعد أن كانت محدودة بالتبادل المحلي بين البدو والحضر، دفع هذا إلى تنشيط حركة الاستقرار والتحضر. تطور صناعة السفن وتقنيات الملاحة، ونشوء خط تجارة التوابل الجديد أدى إلى انهيار النظام التجاري القديم وتحويل استثمارات أهل الجزيرة نحو الداخل، يقول الصويان: «.. فأسسوا المستوطنات واتجهوا نحو الزراعة والاتجار بالخيول والإبل. ومما شجعهم على ذلك زيادة طلب الدولة العثمانية على هذه السلع، ومن بعدها الحكومة البريطانية في الهند. كما أن اكتشاف القهوة وزراعتها في اليمن عزز من التجارة الداخلية في الجزيرة العربية وزيادة حجم صادراتها» تزايد في هذه الفترة نشاط العقيلات، وهم مجموعة من التجار البدو والحضر مثلت قوافلهم مجالا من أهم مجالات النشاط الاقتصادي ولعبوا دورا في دمج إنتاج الحضر الزراعي والبدو الرعوي في نظام اقتصادي شامل متكامل.

كان تزايد نشاطهم في تلك الفترة يعزى إلى نقلهم للبضائع من موانئ الخليج إلى الشام والعكس عبر قوافلهم. كان لهذه الإرهاصات دور لاحق في قيام سلطة مركزية توحد هذه الحركة التجارية، ولا يُغفل دور العقيلات اللوجستي أيضا في ذلك، لرغبتهم في التعامل مع سلطة واحدة يدفعون لها الرسوم والضرائب بدلا من السلطات المتعددة المتمثلة في القبائل. يشير الصويان إلى التقدم الثقافي والاستقرار الحضاري لمنطقة العارض (الرياض حاليا) عن غيرها من المناطق، كان العلم حاضرا فيها قبل الدعوة الوهابية، حيث عجت بالعلماء والإمارات القوية: «في الفترة التي سبقت ظهور الدعوة الوهابية وقيام الدولة السعودية نلاحظ أن أهل منطقة الوشم والعارض كانوا قد وصلوا إلى درجة لا بأس بها من النضج السياسي في تفكيرهم وفهمهم لشرعية السلطة ومقومات الحكم وواجبات الحاكم، مما يعني أن الأجواء صارت مهيأة لتقبل فكرة الدولة» فالاحتفاء بالشعر النبطي وتدوينه شكل حلقة من حلقات الازدهار العلمي والأدبي الذي أفرز الدعوة الوهابية لاحقا. هنالك ثلاثة نماذج من الشعراء النبطيين تعبر عن مدى الوعي في تلك الفترة، رميزان ابن غشام وقد مثل له الشعر بوابة عبور للتعبير عن أفكاره الاجتماعية والسياسية وإن لم يكن شاعرا محترفا فإن شخصيته القيادية الفذة تتضح من شعره، وخاله جبر ابن سيار الشاعري الواعي سياسيا، وحميدان الشويعر الساخر بلذاعة وأحيانا بسوداوية، حيث عبر عن نقد سياسي واجتماعي وقد كلفته آراؤه الناقدة تلك الكثير.



القبيلة والدولة





تعددت الآراء التي فسرت ظاهرة نشوء العقد الاجتماعي، ولكن الصويان اختار عرض رأيي هنري مين وفوستيل دي كولانغ لمعالجتهما تحديدا لخطوات استبدال مفهوم النسب العشائري ليحل محله مفهوم المواطنة المكانية، ويرى أن آراءهما قد تلقي الضوء على التحولات السياسية والتشريعية التي حدثت في منطقة الجزيرة العربية. يذهب مين إلى أن وجود القانون وأساسه لا يرجع لوجود مشرع قادر على فرضه والإلزام به خلافا لهوبز، بل إن أساسه يرجع إلى عادات وتقاليد وسنن وأعراض وسوابق يخضع لها الناس دون وعي بذلك أو قيم تدلهم لها أو قوة رادعة وهذه تتحول بالتدريج إلى قوانين ملزمة مع نمو المؤسسات السياسية والاجتماعية.

وفي تشخيصه للمجتمع القديم قال مين إن الوحدة الأساسية فيه ليست هي الفرد بل هي الحمولة التي تتألف من مجموعة عوائل وكل حمولة يرأسها أب تخضع لسلطته المطلقة. وهكذا يرى مين أن ظهور الدولة لم يأت لتعاقد بين أفراد أحرار ومستقلين، خلافا لجون لوك وجان جاك روسو، إنما نتيجة التحول التدريجي من العلاقة القرابية إلى العلاقة المكانية، ولا يتم ذلك ولا يحل مفهوم الفرد إلا حينما يقطع شوطا في مسيرة التطور في مجال التنظيم الاجتماعي وتحل الملكية الفردية محل الملكية المشاعة ويتفق دي كولانغ مع مين في عموم ما ذهب إليه. مع مطلع القرن العشرين أدى التقدم التكنولوجي إلى انحسار البداوة تدريجيا، استبدلت الإبل بالسيارات والأسلحة التقليدية والبندقية. أصبح الغزو ممارسة خطيرة، الأدوات اختلفت، وهذا الاختلاف أدى إلى انهيار الأصول والأعراف التقليدية التي كانت تحكم هذه الممارسة. انصرف الناس عن الإبل وتدنت أسعارها، وجاءت ماكينات ضخ المياه وتغير عادات الناس الغذائية مكن هذا التقدم التكنولوجي السلطة المركزية من بسط نفوذها حقق لها الأفضلية في قلب الصحراء.


stoppenbach_


[blockquote]الظروف الطبيعية والاجتماعية لبيئة الشاعر النبطي وما تخلق من موارد ملهمة لشعره تتشابه تماما معها لدى الشاعر الجاهلي.[/blockquote]




لم تعد البداوة نشاطا اقتصاديا مجزيا ولا النظام القبلي نظاما فاعلا وأجبر البدو على التكيف مع الحياة المدنية، وإن لم يجيدوا عمل ذلك، مما يشعرهم بالتهميش والنكوص إلى قيم القبيلة ورموز البداوة تشبثا بهوية مفقودة. إن هذا التشبث بتلك الممارسات الفاقدة للفاعلية، التي لا يفهمونها الآن ولا باستطاعتهم تطبيقها بشكل عملي له آثار سيئة كما يوضح الصويان: «التطرف في التشبث برموز القبيلة خارج سياقاتها يشوه مفهوم القبيلة تماما كما يشوه التزمت الديني مفهوم الدين حينما كان النظام القبلي حيا وفاعلا كان على درجة عالية من المرونة والانفتاح والقابلية للتكيف مع الظروف الطارئة وكان بعيدا عن التشنجات والعصبيات التي يمارسها أبناء القبائل اليوم». حسم صراع الدولة والقبيلة لصالح الدولة، لكن القبيلة لم تغب تماما عن المشهد السياسي بل تحولت بتعبير الصويان إلى ما يشبه مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني الأكثر فاعلية، ويستشهد بذلك إلى التمثيل القبلي في مجالس الشورى وهيئات التشريع في السعودية ودول الخليج، خصوصا الكويت وكذلك العراق والأردن وسوريا. النظام القبلي كنظام قضائي وسياسي وتعبوي لا كجماعة قرابية أصبح هو الأكثر تأهيلا وقابلية للتفعيل ولعب دور الأحزاب السياسية. إن بذور العلمانية والممارسات الديمقراطية في النظام القبلي، وإن بصورة بدائية، تجعل البدوي أكثر إجادة لممارسة السياسة من الحضري الذي يميل إلى السكونية والتشبث بالمسلمات والثوابت: «مجتمع الحضر الريفي يتسم بالمحافظة ورفض كل جديد أو مغاير. الشخصية الريفية نمطية مقولبة تتميز بذهنية تحريمية تتشبث بالمقدس والطقوس التقليدية والشكليات المتوارثة وعقليتها عقلية سكونية راكدة تفتقر إلى الحركة والمرونة الكافية للتعامل بشكل عقلاني وخلاق مع المستجدات والتحديات.

وحيث إن مرجعيتها ماضوية فإنها تشكك في الحاضر وترفض التغيير وتخاف من المستقبل بينما تقدس الماضي»، ويجب التوضيح بأن النسب القبلي وارتباطه بالأجداد ليس هو الماضي المعني هنا، فقد قدم النظام القبلي أمثلة كثيرة على تكيفه للتغيير، ويكفي تعامله مع الدولة الإسلامية الأولى والدولة السعودية كاثنين منهما. إن التحرر من الأعباء العقدية والآيديولوجية تجعل النظام القبلي ماديا ودنيويا وغير مقيد، هذه الصبغة العملية البراغماتية هي مظهر جديد يتجلى أمامنا، له أسس سابقة أسهمت حتى في تشكيل النوازع الأخلاقية في المجتمع القبلي، من قيم الشرف التي تعود عليه بالفخر، وحروبه من أجل الكسب لا طلب الشهادة، وبذله لنيل سمعة الكرم لا للصدقة. المجتمع البدوي يشجع المبادرات ويحاول أن يستثمر في الرجال، ما جعله أميل للتسامح والانفتاح من مجتمع الحضر الريفي. ومن الممارسات الديمقراطية في المجتمع القبلي، الأسس الشرعية للمشيخة التي تعتمد على التوافق وما يحمله ذلك من انعكاسات على أداء شيخ القبيلة وعلاقته بأبناء قبيلته، بخلاف الأمير في القرى الذي ترتبط شرعيته بأسباب مختلفة تدعمها فقط القوة المجندة. كما أن النظام القبلي تضمن مظهرا من مظاهر فصل السلطات، فالعرف مثل سلطة قضائية، وشيخ القبيلة مثل سلطة سياسية، وعقيد الغزو سلطة عسكرية. ويبرز هنا السؤال بكيفية تجيير الولاء القبلي إلى ولاء وطني؟ كيف يستبدل مفهوم القبيلة مفهوم الدولة؟ لا يفترض الصويان ضرورة تعارض هذه الولاءات، بتبني الدولة لمفهوم القبيلة كهوية فرعية عبر السماح لها بتمثيل نفسها كحزب أو مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني وتجيير تلك الولاءات المدنية، سواء كانت قبلية أم لا، تجاه الدولة يقع على عاتقها وما تقدمه للفرد من خدمات لمصالحه وأهدافه مما يعزز تفرده. إن هذه الحلول التي يقدمها الصويان ليست شكلا نهائيا لتصوره المفترض للدولة، إنما هي حلول منبثقة من واقع المنطقة تفضي على مر الزمن إلى مزج الهوايات الفرعية لتذوب في هوية وطنية واحدة.



القبيلة كغطاء آيديولوجي





ينقل الصويان عن الأنثروبولوجي لويس هنري مورغان في تناوله لمفهوم القرابة، يقول مورغان بأن مفهوم النسب هو حقيقة ثقافية فرضتها المجتمعات البشرية بناء على حقيقة بيولوجية، وقد نبه إلى ضرورة التفريق بين علاقات النسب العائلي وعلاقات النسب العشائري، فالنسب العشائري هو آلية لتحديد انتماء الفرد وهويته، يُعنى الأنثروبولوجيون بالنسب كآلية لتحديد شرعية الانتماء العشائري بصفته كمحدد أساسي لوحدة الجماعة السياسية، تتخذ المجتمعات العشائرية خطا أحاديا للنسب (أبوي أو أمومي) بعد قدر من التطور التكنولوجي وتبلور مفهوم الملكية الخاصة، يرتكز ذلك الخط على جد حقيقي أو مفترض: «حينما تكبر العشيرة المنحدرة من جد واحد ويزداد عدد المنتمين لها ويتباعدون في النسب زمانيا ومكانيا وقد لا يستطيع كل واحد من هؤلاء أن يتذكر صلته بسلف العشيرة أو أن يتتبع بالتحديد الدقيق علاقات القرابة التي تجمعه مع الآخرين من أبناء عمومته وأقاربه الذين ينتمون للعشيرة، رغم افتراض الجميع أن هناك صلة قرابة تجمعهم وأنهم ينتمون لجد بعيد يجتمع فيه نسبهم».

ومع مرور الزمن تنقسم العشيرة إلى فصائل قرابية، ويتراوح انتماء الفرد ما بين فصيله الأصغر إلى فصائل أكبر، وتتخذ العشيرة الكبرى في هذه المرحلة قرابة مفترضة، فتصبح أقرب إلى التنظيم السياسي والديني منها إلى التنظيم الاجتماعي أو الاقتصادي، حيث تؤدي أغراضا تنسيقية بين مختلف الفصائل، وتؤسس للعمل المشترك فيما بينها، لا سيما في العلاقات والنزاعات مع العشائر الأخرى، وتقوم نظرية النسب عند النسابين العرب على افتراض رابطة الدم وبأن أبناء القبيلة ينحدرون من صلب رجل واحد، وأن كل العرب تناسلوا من جد واحد. وتأتي أهمية الاحتفاظ بسلسلة النسب لما تحدده من مسافة قرابية فاصلة بين تشكيل وآخر حتى تلتئم تلك التشكيلات في تشكيل أكبر، بدأ من المتجايلين صعودا نحو الأسلاف.

يتطلب تشييد هذا البناء التمفصلي حدا أدنى تتشعب منه سلاسل الأنساب، هذا الحد الأدنى يمثله جدان، عدنان وقحطان، ويتطلب أيضا بناء هذا النموذج تماثلا في سلاسل النسب، مما يستدعي التوافق الزمني في تلك السلاسل فيعمد النسابون إلى الحيل في تحقيق ذلك التوافق عبر اختراع الأجداد الوهميين: «.. مثل قيس الذي كثيرا ما يتردد في جداول النسب..». أو تكرار الأسماء: «كأن يسمى الجد باسم الحفيد»، ويحاول النسابون أن يتجنبوا استخدام هذه الحيل في المواقع المفصلية التي تنشأ فيها التفرعات.

وقد أتي هذا الاهتمام بتدوين الأنساب في الفترة الزمنية التي بدأ فيها العرب بتدوين آدابهم وتاريخهم الاجتماعي مع نهاية القرن الأول أو بداية القرن الثاني للهجرة، تماشيا مع تقعيد النحويين للغة وتشابها به كما يعبر الصويان.
يستعرض الصويان في كتابه بعض الأمثلة لاختلافات النسابين القدماء، كاختلاف آرائهم في أصل قبائل قضاعة وعاملة وجذام ولخم وخزاعة وكندة وخثعم وبجيلة وغيرها، واختلفت آراء النسابين في العرب العاربة والمستعربة، ولم يتفقوا في أصول أسماء القبائل: «ومن المعروف أن الكثير من الأسماء التي تنسب لها القبائل ليست أسماء أشخاص وإنما أسماء لأحلاف أو مواقع سكنى أو أمهات أو حاضنات وهذا ينفي فكرة أن أبناء القبيلة بالضرورة ينتمون إلى جد واحد تناسلوا من صلبه».



[caption id="attachment_55246433" align="alignleft" width="201"]كتاب: أيام العرب الأواخر.. للصويان كتاب: أيام العرب الأواخر.. للصويان[/caption]

[blockquote]بذور العلمانية والممارسات الديمقراطية في النظام القبلي موجودة وإن بصورة بدائية، تجعل البدوي أكثر إجادة لممارسة السياسة من الحضري الذي يميل إلى السكونية والتشبث بالمسلمات والثوابت.[/blockquote]


ويعرض أيضا فرضية ويليام روبرنسون سميث حول اتخاذ القبائل العربية لأسماء كثير إلى صنمها أو طوطمها مثل قيس ومناة ويغوث وبكر وأسد وكلب وجحش وثور وغيرها، كما يعرج الصويان على الاختلاف أيضا في العصور المتأخرة حول تسميات القبائل المعاصرة.

تأثر هذا النموذج النظري للنسابين العرب بالموروث التوراتي وبالآيديولوجيا القبلية، حيث افترضوا مثلهم مثل أبناء القبائل أن الانتماء القبلي يحتم التناسل البيولوجي، النسب في التنظيم القبلي هو غطاء آيديولوجي لتبرير علاقات الحاضر القائمة على التنظيمات السياسية والمصالح، تستند الآيديولوجيا القبلية على بيولوجية النسب، وعلى رؤية الإنسان الأمي المعكوسة للتاريخ فهو حسب تعبير الصويان: «يقرأ الماضي في الحاضر وليس العكس».
وتتضح تناقضات الآيديولوجيا القبلية عند تفحص التنظيم القبلي كواقع معاش عبر مراحل التاريخ. التنظيم القبلي هو في حقيقته مؤسس على الأحلاف، تنشأ التحالفات على المصالح المشتركة أو التجاور، وتحل لاحقا أسطورة النسب محل الوحدة المكانية كما يقول غولدتسيهر ويذهب مذهبه جواد علي.

وكما تطرأ الظروف التي تدفع لتكون الأحلاف، فإن ظروفا مغايرة قد تطرأ أيضا لتنحل الأحلاف القديمة وتنشأ الجديدة وتتوفر شواهد هذه الاستنتاجات في تاريخ القبائل العربية القديمة والمعاصرة.
تبرز الميثولوجيا والأسطورة أيضا في تكريس الآيديولوجيا القبلية عبر سد فجواتها وثغراتها: «.. وهناك دائما داخل المجتمع القبلي نفسه نخبة واعية لحقيقة النسق ومدركة لمواطن الضعف في الآيديولوجيا القبلية.. يدرك هؤلاء أن العلاقة القبلية، وإن اتخذت مظهر العلاقة القرابية، في حقيقتها علاقة سياسية يمكن توظيفها لتحقيق مآرب سياسية، وما عليهم في بعض الأحيان إلا أن يستبدلوا أسطورة بأخرى تفسر الطريقة التي تغير بها الوضع عما كان عليه في السابق وتعطي تبريرا لهذا التغيير».

يتعذر على ذاكرة أبناء القبيلة أن تتخطى سلسلة من الأجداد، كما أن الذهنية الشفهية تفتقر إلى المقومات التي تجعلها تميز ما بين التاريخي والأسطوري، يهتم ابن القبيلة بما يحدد علاقته بالآخرين سياسيا وقانونيا واجتماعيا واقتصاديا، ويناط ذلك بمعرفة أفخاذ القبيلة وبطونها وعشائرها ومنها تتحدد نوعية العلاقة. وتضفي الآيديولوجيا القبلية بعدا أخلاقيا لتلك العلاقات البراغماتية.

يتطلب النظام القبلي بتحالفاته قدرا من الحركية والعملية تفرضهما ظروف تلك الحياة وآليات ذلك النظام. ومع ظهور الدولة بسلطتها المركزية تجمدت آليات النظام القبلي وتعطلت وظائفها ولم يبق سوى الآيديولوجيا القبلية: «هنا تتحول القبيلة من نظام مرن قابل للتمفصل والتكيف حسب الظروف إلى ناد مغلق لا يحق الدخول فيه إلا للأعضاء المسجلين.. قيام الدولة يلغي الظروف التي كانت تمنح النظام القبلي حركيته وديناميكيته» حين تتعطل الأبعاد السياسية والبراغماتية للنظام القبلي يصبح ذلك النظام كيانا مصمتا لا يمكن الخروج منه أو الدخول إليه.

ما بنيت عليه الآيديولوجيا القبلية قد غاب تماما، فبعد أن كانت تجسيدا لنظام متحرك تتبنى فيه توجهاته المصلحية وتضفي عليها الشرعية والبعد الأخلاقي، أصبحت صورة ثابتة تبنى عليها التحركات المصلحية، إن خروجها من سياقاتها الطبيعية التي أفرزتها جعلها محض أصولية قبلية شبيهة بالأصولية الدينية، يحاول المنتسبون لها أن يضخموا رموزها وقيمها.
font change