الخصوصية السعودية.. البيت هو المدينة !

الخصوصية السعودية.. البيت هو المدينة !

[caption id="attachment_55246540" align="aligncenter" width="620"]نحن نريد أن نعيش كل مايعيشه العالم في المدينة داخل حيز البيت فقط نحن نريد أن نعيش كل مايعيشه العالم في المدينة داخل حيز البيت فقط[/caption]

في المجالس الرمضانية يشتكي الرجال السعوديون من الزحام في الشوارع، وفي ومراكز التموين الغذائي، وتشتكي النساء من التزاحم في محلات الأواني المنزلية وأسواق الملابس، وبعد أن تمضي ساعة التعجب يصل الجميع للاتفاق على حكم واحد، نحن مجتمع استهلاكي جدًا.
واعتراف السعوديون بحقيقتهم كمستهلكين، لا يقتصر على رمضان بل يمتد على مدى العام، وفي مختلف المواسم والمناسبات، لكن هذا جميعه لا يذهب في وعينا لأبعد من معنى مفردة استهلاك، لا يوجد تناول ثقافي يتجاوز هذه الوصفة السريعة للمجتمع، والقليل جدًا ممن يجتهد في التفكير سيصل مباشرة إلى السؤال الخاطئ: كيف نسترشد اقتصاديا؟

المجتمع السعودي يبدو هو الوحيد من المجتمعات الاستهلاكية الذي لا يتوقف استهلاكه على أسواق محددة، فهو لا يستهلك الطعام السريع أو الملابس فقط، الأجهزة الإلكترونية والمنزلية، السيارات والهواتف الذكية، أثاث المنازل والمكاتب، النباتات الداخلية وتجهيزات الحدائق الخارجية، التموين المجزأ وأسواق الجملة، الخدمات بكل أشكالها، العمالة بمختلف وظائفها، سائق، حارس، مزارع، خادم، معقب، مربية وخياطة وكوافيرة وممرضة، كل هذه الوظائف أصبحت ضمن البيت السعودي، وباختلاف الطبقات الاجتماعية تختلف الجودة والقيمة المادية لكن الاستهلاك النوعي يبقى واحدًا .

بعد كل هذا كيف يمكن أن يصبح سؤال الاسترشاد الاقتصادي الذي يدور بقية المجتمعات، سؤالاً صحيحًا في حالتنا دون أن نفهم لماذا نبدو وحدنا سوقًا استهلاكيًّا لكل منتجات العالم شرقًا وغربًا، لماذا تدفعنا حياتنا إلى استهلاك كل شيء بمعنى كل شيء، وماذا يختلف في حياتنا عن بقية المجتمعات الاستهلاكية لنتفوق على الجميع بحجم وتنوع استهلاكنا، ورغم أن هذه الأسئلة يمكن أن تتشعب أكثر، إلا أنها جميعها ستبقى تدور حول جذر أساسي، هو حياتنا.

وحياتنا نحن السعوديون محكومة بحالة استهلاك خاصة تقوم أساسًا على استهلاك المدينة داخل البيت، بمعنى آخر استهلاك كامل الحياة داخل هذا البيت، نحن نريد أن نعيش كل مايعيشه العالم في المدينة داخل حيز البيوت فقط، كل لقاءاتنا الرسمية والعائلية والعابرة تحدث داخل البيت، كل المناسبات الصغيرة والكبيرة، السعيدة والحزينة تحدث داخله، نحن مجتمع تشكل داخل هذا البيت كفضاء خاص، ولا يعرف كيف يخرج عنه.

والعلاقة بين الفضاء الخاص ومجتمعنا الاستهلاكي علاقة عميقة وغير متضحة، فكلمة الخصوصية السعودية التي تصدرت ثقافتنا الاجتماعية عقودًا طويلة ونالت كثيرًا من السخرية في السنوات الأخيرة، تظل مفتاحًا أساسيًّا في حالتنا الاستهلاكية، المجتمع الذي يريد لكل حياته أن تبقى في فضاء خاص لا يشاركه أحد فيه، فضاء مغلق لا يمكن أن ينفتح لأي سبب، هو مجتمع بالضرورة سيضطر إلى استهلاك كل شؤونه المعيشية، وكل مرافق المدينة داخل فضاء خاص هو البيت، إنه بمثال أبسط مجتمع لا يستهلك الأكل بأنواعه فقط بل المطعم كاملاً بكل مافيه.

نحن إذن مجتمع استهلاكي؛ لأننا مجتمع يريد الانقطاع عن المدينة، يريد أن يكرس الحياة كاملة داخل البيت فقط، وحدنا نحن -مهما ساءت ظروفنا الاقتصادية أو تحسنت- نعتبر الشقق السكنية مجرد منزل مؤقت بانتظار البيت، البيت الذي يعني أدوار متعددة وأحواش لا نهائية تسمح باختصار المدينة داخله، أما غير ذلك فلا يجوز لدينا تسميته بيتًا بل مجرد منزل مؤقت يشتكي ساكنه شظف العيش، وسوء حاله الاقتصادي، وضعف رعاية الدولة له.

المجتمع الذي يريد أن يكون حفل عرسه وعزاء أمواته داخل البيت، هو مجتمع لا يريد المدينة، والخصوصية التي نالت من السخرية الكثير لا زالت مفتاح ثقافتنا الاجتماعية، وأي محاولة للاسترشاد الاقتصادي للتقليل من الاستهلاك ستبقى محاولة بائسة وغير ناجعة؛ لأن الاقتصاد الذي لا يقرأ الناس في مدينتهم لا يمكن أن يحكم أسواقهم، ولن يعرف كيف يعيد ترتيب صرفهم المالي دون أن يخوض ثقافتهم الاجتماعية، ويعيد ترتيب الخاص من العام، دون أن يكشف لهم المسافة الشاسعة الفارقة بين الخصوصية السعودية وبين الحياة.
font change