الإعلام العربي في المرحلة الانتقالية:ما المقصود بالمعايير المهنية؟

الإعلام العربي في المرحلة الانتقالية:ما المقصود بالمعايير المهنية؟

[caption id="attachment_55246756" align="aligncenter" width="621"]الاعلامية اللبنانية منى ابو حمزة - من دعاة الاعلام الناشط وأول اعلامية عربية تكرم في مهرجان كان2013 الاعلامية اللبنانية منى ابو حمزة - من دعاة الاعلام الناشط وأول اعلامية عربية تكرم في مهرجان كان2013[/caption]

صحيح أن المحرمات السابقة التي كانت تستخدم لتقييد التغطية الإعلامية التقليدية تلاشت، لكن ما زال الصحافيون يشعرون بعدم الحرية، ويواجهون ترهيبا وتهديدات متنوعة في نفس الإطار التنظيمي القمعي الذي ما زال قائما. الأهم من ذلك، أنهم غير متأكدين من كيفية ترجمة الحرية الجديدة، والتي تظهر معظمها في تصريحات نارية متحيزة لا أساس لها من الصحة، ازداد الوضع سوءا مع عدم وجود سياسات تحريرية وقواعد أخلاقية في ظل وجود مؤسسات مهنية ضعيفة. وأصبح نموذج الصحافة المهنية الغربية محل شك لدى الصحافيين في وسائل إعلام مرحلة ما بعد الربيع العربي.

في المشهد الإعلامي لفترة ما بعد الثورات، استعادت وسائل الإعلام التقليدية حيويتها بعد أن استخدمت لعقود كأداة لسياسات النظام. الآن تسمح وسائل الإعلام التقليدية الوطنية، التي لا تحظى بثقة الجماهير، باستضافة الأصوات المعارضة. وهذا يتعارض مع المحاولات الجارية من قبل الجهات الفاعلة في الدولة لاستغلال الإعلام، على خطى التكتيكات القديمة التي اتبعها أسلافهم.

المشهد لم يكن ورديا في تونس ومصر وليبيا، الدول الثلاث التي سألت فيها الصحافيين عن ممارسات وسائل الإعلام وقيمها فيما بعد الثورات. يواجه الصحافيون التقليديون الذين استخدموا في نشر رسائل النظام - وخاصة في ليبيا وتونس - تحديا حاسما يتمثل في إعادة بناء هويتهم لاستعادة ثقة جمهورهم. ومع ذلك، لا يمكن أن يتحقق هذا التحول المهم دون مراجعة ممارساتهم وتطبيق المعايير المهنية.




المشهد الإعلامي





يعاني المشهد الإعلامي الانتقالي التقليدي من الأعراض ذاتها التي شهدتها تجربة وسائل الإعلام الانتقالية السابقة: عنف في عرض وجهات النظر، اتهامات لا أساس لها من الصحة، سب وقذف، مصحوبا بانحياز قنوات الإعلام إلى معسكرات آيديولوجية وسياسية عدائية. تستخدم المعركة السياسية الشرسة بين الأنظمة الإسلامية الجديدة وخصومهم الليبراليين المشهد الإعلامي كساحة حرب علنية؛ يرفض الصحافيون نموذج الصحافة الغربي المحايد والموضوعي باعتباره غير واقعي في ظل هذه التحولات السياسية المتوترة. يرسخ ظهور البرامج الحوارية (توك شو) بقوة، بصفتها الإنتاج الإعلامي الأكثر شعبية والذي يتميز مقدموه بالتأثير في تكوين الرأي العام، نموذجا للصحافة يتحول فيه الصحافي إلى مدافع عن «قضية».
في المرحلة الانتقالية التي تعيشها مصر حيث يدور صراع بين الحكومة الإسلامية ومعارضيها الليبراليين، تعد البرامج الحوارية بحكم الواقع نوادي سياسية. إذا أخبرتني ماذا تشاهد، أستطيع أن أحدد اتجاهك السياسي. يقول تامر أمين، أحد مقدمي البرامج الحوارية، وأحد دعاة الإعلام الناشط، إن البرنامج الحواري يكتسب أهميته من خلال توضيح «رؤية ما».

أضاف أمين: «أتحدث هنا عن رؤية لمشاكل الوطن وليس عن دور سياسي». ويزعم أمين أنه يتلقى مكالمات هاتفية من الجمهور يسألونه فيها عن كيفية فهم الأحداث السياسية التي تدور حولهم.
يفند محمود سعد، الذي يعتبر برنامجه الحواري أحد أكثر المنابر الإعلامية مناهضة للإخوان المسلمين، بقوة، فكرة أن يكون البرنامج الحواري «الوسيط المحايد». وعلق قائلا: «لدينا مشكلة حقيقية هنا، يوجد بعض المذيعين الذين يقولون ليس لدينا أي رأي، علينا أن نكون محايدين، وأنا في البداية لست مقدم برامج، أنا صحفي وتعودت منذ صغر سني أن يكون لي رأي. أنا صحفي يقدم تقريرا للتلفزيون، بدلا من كتابته في الصحف، ولذلك أنا مضطر أن يكون لي رأي».



الحوار




يرى شريف عامر، مقدم برنامج حواري، أن شخصنة الحوار الإعلامي حول مقدم البرنامج، وهو ما يجذب المشاهدين والمعلنين، ليس الوسيلة الوحيدة للوصول للشعبية.
قال عامر: «لم أصرخ مطلقا على الهواء مثلما يفعل آخرون، بل أحاول بقدر المستطاع عدم توضيح آرائي». وأشار إلى أن قدرته تظهر في أنه ينأي بنفسه عن الأحداث من خلال طريقة إدارة الحوار مع ضيوفه. مع ذلك فإن النموذج المقدم من عامر هو الاستثناء وليس القاعدة. وليس من الواضح إلى أي حد يجذب هذا النموذج الجماهير المصرية المتعطشة للحوارات السياسية الساخنة.



[blockquote]النهوض بإعلام عربي وطني بعد سقوط الديكتاتورية عملية طويلة وشائكة. يجب على الصحافيين أن ينفذوا هذه العملية وإعطاؤها الأولوية بعيدا عن الانقسامات السياسية والآيديولوجية. [/blockquote]




في مصر وتونس، حولت الانقسامات الآيديولوجية والسياسية الحادة الإعلام إلى طرف سياسي. وتُتهم وسائل الإعلام الموالية لليبراليين بتأجيج الغضب ضد الأنظمة الإسلامية الجديدة. كما حولت الدعوات المطالبة بـ«تطهير» وسائل الإعلام التي اعتبرت من بقايا الأنظمة القديمة – و«كاذبة» وحتى «كافرة» - وسائل الإعلام إلى طرف وهدف على حد سواء. وقد قام عدد من النشطاء السلفيين بمحاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي في القاهرة مرتين. على الجانب الآخر من المشهد، يقيم الإعلام الديني، الذي ازدهر مع سقوط الأنظمة، منصات تبث خطاب الكراهية الذي يحمل التشهير والهجوم وأصبحت حتى الدعوات إلى القتل أسلوبا معتادا.
في ظل عدم القدرة على تطور العمل الصحفي نحو التقارير الاستقصائية الإخبارية، يكشف المشهد الانتقالي الإعلامي عن نموذج إعلامي يشبه الـ«هايد بارك»، كما وصفه بشكل صحيح جمال فهمي وكيل أول نقابة الصحفيين المصريين المؤثرة: «يمكنك أن تقول ما تشاء دون تحمل أي مسؤولية. فقدت وسائل الإعلام الوطنية الفرصة لتكون بمثابة المراقب على السلطة السياسية بينما يعيق تكوينها الضعيف ومشاكلها الداخلية أيضا تطور هذا الدور».


فقر مهني





تلقي شهادة هاني شكر الله، رئيس التحرير السابق لصحيفة «الأهرام ويكلي»، مزيدا من الضوء حيث قال: «ينبغي أن تكون هذه الفترة ذهبية لأنواع التحقيقات الصحافية. في الماضي، لم يكن من الممكن إعداد تحقيق عن ثروة مبارك أو قضايا الفساد، كان الإعلام سيؤدي دورا رائداً في فضح كل هذه القضايا. ليست لدينا المهارات أو التوجهات التي تتبناها المؤسسات الإعلامية من أجل إرسال أفضل مراسليها للتحقيق في هذه الموضوعات».
إذا كانت وسائل الإعلام الوطني ما زالت بعيدة عن العمل كرقيب، نظرا لعدم وجود هذه التقاليد، سيواجه الإعلام المحلي الآن تابوهات وقيودا جديدة. على سبيل المثال، لا يزال الصحافيون الليبيون بعيدين عن الشعور بالحرية. بعد سقوط آلة الدعاية القمعية للقذافي، أصبح عليهم الآن مواجهة تهديدات الميليشيات التي تحكم في ليبيا الجديدة والتي تمثل سلطتها تحدياً كبيراً للحكومة الانتقالية. يمثل النشر عن انتهاكات هذه الجماعات المسلحة خطراً كبيرا مثل تحدي سلطة النظام السابق.
قدمت زينب الهباس تجربة مفيدة في سعيها لعرض تقارير استقصائية. بعد أن عملت كمحررة في وسائل الإعلام الحكومي السابق، نجحت في العثور على فرصة عمل كمراسلة في صحيفة «فبراير»، إحدى المطبوعات الصحافية القليلة التي أطلقت بعد سقوط النظام والتي تعتبر صحيفة الدولة الجديدة. ومع ذلك أدى حماس الهباس في إعداد تقارير استقصائية – وهو المجال الذي لم تكن تعرف شيئا عنه ولم تكن مستعدة للعمل به - في تعرضها للانتقادات. عندما قدمت تقريرا حول تفجير الأضرحة الدينية على يد فصائل متطرفة، كان رد فعل رئيس التحرير كالتالي: من الذي طلب منك أن تكتبي عن هذا الموضوع؟ وظل التقرير حبيسا في نهاية المطاف ولم ير النور.





عهد القذافي





تعرقل هيمنة هذه الجماعات المسلحة إعادة بناء قطاع الإعلام بعد عهد القذافي. على سبيل المثال، لم تكن مريم الحجاجي، التي عينت رئيسا لإذاعة FM ومديراً للبرامج في مجموعة التلفزيون والإذاعة الليبية، قادرة على ممارسة مهامها عمليا. وقالت: «رؤساؤنا الحقيقيون هم حراسنا والميليشيات التي حمت المكان وفرضت سيطرتها عليه فيما بعد. وصل التدخل إلى حد أن بعضهم ذهب إلى الاستوديو وطلب من المذيع أن يغادره. يجب على الدولة أن تتحمل المسؤولية. وغالبا ما يقولون نحن لا نريد المواجهة».


egyptian-press

[blockquote]فقدت وسائل الإعلام الوطنية الفرصة لتكون بمثابة المراقب على السلطة السياسية بينما يعيق تكوينها الضعيف ومشاكلها الداخلية أيضا تطور هذا الدور.[/blockquote]



ولكن لكي يستعيد الإعلام الوطني وظيفته الرئيسة في تقديم معلومات دقيقة وجديدة، عليه أولا أن يستعيد شرعيته في أعين مشاهديه. وبسبب عدم ثقة الجماهير في الإعلام الوطني نتيجة تحيزه للأنظمة على مدى عقود، اضطر الصحافيون، وبخاصة أولئك الذين اعتادوا على العمل في الإعلام الحكومي السابق، إلى إقناع مشاهديهم بأنه من الممكن الوثوق بهم مرة أخرى.

بعد سقوط النظام، واجه مراسلو الإعلام الحكومي التونسي بيئة معادية حيث رفض الناس التحدث معهم في الشوارع بل وهاجموهم. ترى حنين زبياس، مراسلة مجلة «الحقيقة»، أن المشكلة تكمن في أن وسائل الإعلام التونسية لم تعترف بأخطائها. وتقول إن الصحافيين والمحررين ما زالوا يختبئون وراء فكرة «ما الذي كان في وسعنا أن نفعله؟». وتصف الشعور بالذنب الذي انتابها وزملاءها الصحافيين على الفور بعد سقوط نظام بن علي، قائلة: «كان علينا أن نتصرف بسرعة لمحو هذا الانطباع وتصحيح صورتنا. في حين كانت البلاد تحترق، نشرنا موضوعا مدفوع الأجر يشيد بإنجازات أحد أفراد أسرة زين العابدين بن علي، وكان هذا بمثابة نكسة كبيرة بالنسبة لنا. بعد الثورة، عقدنا اجتماعات مع رئيس تحرير المجلة ومالكها وطلبنا نشر رسالة اعتذار ولكنهما رفضا تماما وقالا: ماذا فعلنا؟ كان علينا أن نقوم بهذا التصرف لأننا كنا تحت ضغط النظام، مثل الآخرين، نحن لم نرتكب أي خطأ».
في المقابل ترفض أميرة العرفاوي، التي تعمل في تلفزيون الدولة، أن تتخذ موقف الاعتذار. وتقول للأشخاص الذين اتهموها بأنها كانت بوقا للنظام ببساطة: «عندما أجريت معكم لقاءات، اعتدتم البدء بالإشادة بالنظام حتى لو لم أطلب منكم ذلك، لذا، كنتم أنتم أيضا أداة للنظام. فأنتم لم تجبروا على مدح النظام، وأنا اضطررت للقيام بذلك، كان علي أن أحافظ على وظيفتي».



إعادة هيكلة الاعلام





يبدو الإعلام الوطني بعد الثورة ساحة صراع منقسمة بين الإعلاميين المتهمين بخدمة الأنظمة السابقة والإعلاميين الجدد، ومعظمهم من الصحافيين الشباب الذين تنقصهم الخبرة. في ليبيا، جلس معظم مسؤولي إعلام النظام القديم، الذين يطلق عليهم الطحالب، في المنزل لأنهم غير قادرين على العودة إلى الاندماج في المؤسسات الإعلامية الجديدة. وفي تونس، ساهمت دعوات وضع الصحافيين، الذين تراكمت ثرواتهم نتيجة تحيزهم للنظام السابق، في قوائم سوداء في إحداث مزيد من الانقسام في الوسط الإعلامي.



[blockquote]يبدو الإعلام الوطني بعد الثورة ساحة صراع منقسمة بين الإعلاميين المتهمين بخدمة الأنظمة السابقة والإعلاميين الجدد، ومعظمهم من الصحافيين الشباب الذين تنقصهم الخبرة.[/blockquote]



من ناحية أخرى، تجعل المشكلات الداخلية القديمة التي يعاني منها الإعلام الرسمي عملية إعادة إعمار الإعلام الوطني مهمة شبه مستحيلة. على سبيل المثال، يضم اتحاد الإذاعة والتلفزيون الحكومي المصري أكثر من 43 ألف موظف، معظمهم عمالة زائدة لم يتلقوا تدريبا مهنيا حقيقيا. تواجه إعادة هيكلة هذا القطاع تحديات تكمن في مراجعة نظام ملكيته بالإضافة إلي تدريب الموظفين والإرشادات التحريرية التي تحدد المعايير المهنية بعيدا عن تدخل الحكومة والعادات الراسخة من رقابة ذاتية.

النهوض بإعلام عربي وطني بعد سقوط الديكتاتورية عملية طويلة وشائكة. يجب على الصحافيين أن ينفذوا هذه العملية وإعطاؤها الأولوية بعيدا عن الانقسامات السياسية والآيديولوجية. ويحول عجز الصحافيين التقليديين الوطنيين عن حشد الضغط من أجل الحصول على حقوقهم المهنية دون تمكين هذا القطاع الإعلامي. كما تفاقم المنافسة مع المدونين والمواطنين الصحافيين من هذه الصعوبات. فهل يلوح في الأفق أي مستقبل حقيقي لصناعة إعلام تقليدي وطني؟ في ظل الأهمية الممنوحة للمحتوى الوطني الذي يقدمه الإعلام الوطني، تتمتع صناعة الإعلام الوطني بفرصة ذهبية للتألق مرة أخرى، وهي الفرصة التي يمكن أن تضيع إذا لم يعالج مجتمع الإعلام الوطني بجدية جوهر المشكلة: ما هي المعايير المهنية التي نتبعها؟





font change