
المتابع لصفحات الرأي السعودية -المطبوع منها والإلكتروني- يلاحظ الكثير من الذبول والانطفاء مقارنة بمراحل من الوهج لا يمكن تجاهلها. وهذا الأمر لا يخص نمط النشر؛ إلكتروني أو مطبوع، كما أنه لا يخص صحيفة بعينها، ولكن يمكن تعميمه على الكثير من الصحف والمواقع الإلكترونية. فأين يكمن النقص أو الخلل؟ في سقوف الحرية الخارجة عن إرادة الكاتب؟ أم في الكاتب نفسه؟ أم لعلها في القارئ الذي أصبح يملك زمام رأيه ونشره، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، فلم يعد بحاجة لسماع آراء الغير؟!
بالنسبة لسقوف الحرية؛ فإن النشر الإلكتروني -الذي راهن على حريته وتحرره الكثير، في أوقات سابقة- يثبت بنفسه اليومَ أن الأزمة ليست في سقوف الحرية فقط، فهو أيضًا لم يتجاوز بزوال هذه السقوف تمامًا، أزمة العراك الشتائمي، من ناحية، والترويج للشائعات والمعلومات الزائفة، وتمريرها بقلب بارد وفكر بليد، من ناحية أخرى. كما أن كثير من الكتاب يعرفون ويعترفون بأن لغة الكاتب المحترف بحر واسع، ولديها القوة للدفع بأقسى السقوف وأعتاها متى ما التزمت تجاه قارئها بالوعي والمعرفة، ومتى ما تسلّحت بالقراءة المتعمقة والتحليل الجيد، فسقوف الجمود الفكري وبلادته هي ما يخشاها أي كاتب حقيقي يمتلك زمام لغته.
نترك السقوف عاليًا، ونعود لطرفي معادلة الرأي؛ الكاتب والقارئ، فقارئ اليوم ليس قارئ الأمس، وكذلك هو الكاتب، ففي ظل هذا التواصل الاجتماعي الإلكتروني المكثف واللحظي، الكاتب والقارئ يتبادلان الدور بشكل لحظي وسريع. وهذا أمر جيد ومحمود على مستوى التواصل وقياس ردود الفعل المباشرة، ولكن لا نبالغ إن قلنا بأنه -من جهة أخرى- هو مأزق على مستوى الوعي وتشكيل الرأي العام، المنوط بكتّاب الرأي والنخبة.
فالقارئ يبدأ في فقدان الثقة بهذه النخبة من خلال ما يلمسه من هشاشة فكرية وأدبية من خلال تواصله المباشر مع بعض المحسوبين على هذه النخبة، أو حتى من خلال تواصلهم العلني مع بعضهم البعض. وتصبح مثل هذه المواقف والعراكات التي لا تمت للحوار بصلة فرصة جيدة لأي قارئ بسيط يريد الاستمتاع وتمضية الوقت، أو لشعبوي مخضرم، يريد التهكم وإسقاط خيباته النفسية والشخصية على من سبقوه في الفعل والتأثير. وفي هذه اللحظة بالذات يبدأ الشحن وتنطلق التأويلات، فذلك «تقرير أمني» وهذا «كاتب مأجور» والآخر لم يصل إلا بـ «المعرفة» و«الواسطة». وفي أجواء كهذه تصبح الفرصة مواتية لكل من يريد هدم «فكرة النخبة» وضرورتها الاجتماعية لإعادة إحياء أسطورة الشعب وإرادته على أنقاضها!
في الحقيقة، قتل النخب والترويج لعدم فائدتها لا يعني شيئًا، فهي شريحة اجتماعية موجودة بالطبيعة، سياسيًّا واجتماعيًّا، شئنا أم أبينا، ولا يمكن تجاهلها أو الادعاء بسقوطها إلا من قبل «نخب ثائرة» أخرى، تريد إزاحتها والقيام بدورها، وهنا تكمن لعبة الإزاحة والتمكين التي تجيدها هذا النخب فيما تنخدع بها الجماهير التي تميل أكثر لمن يوهمها بأنها صاحبة قرار وإرادة، بينما داخل كل نخبوي ثائر سلطوي كامن ينتظر فرصته فقط.
أعود بشيء من التفصيل وأقول: في ظل هذا التواصل الإلكتروني المكثّف، والضغط الجماهيري المستمر، أصبح كثير من كتاب الرأي في صحافتنا اليوم لا يجتهدون في طرح آرائهم وتحليلاتهم الخاصة، كنخبة رأي مسئولة، من خلال مقالاتهم، بقدر ما يجتهدون في إعادة صياغة آراء الناس على المواقع الاجتماعية ولسان حالهم يقول: "بضاعتكم رُدّت إليكم" وهنا تكمن أزمة كتابة الرأي الحقيقية اليوم. فهذا الأمر يوفّر على الكاتب مسألتين غاية في الأهمية. المسألة الأولى تكمن في الجماهيرية المضمونة بمجرد مجاراته للسائد. والمسألة الثانية، توفير أفكار جاهزة (مسروقة) وإعادة تدويرها، عوضًا عن قضاء وقت في القراءة الجادة والتحليل، فهذا الوقت ضائع أساسًا، في ملاحقة آراء الناس ومشاكساتهم من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.
كتابة الرأي في أي بلد مسألة غاية في الأهمية من أجل تشكيل رأي عام فاعل وحقيقي. ومن المفترض أن يكون المعني بها نخبة حكيمة، هادئة ومتجانسة تحمل هم البلد، ولديها ما يؤهلها ثقافيًا ومعرفيًا لتوجيه الرأي العام والمساهمة في تشكيله بما يخدم سياسات هذا الوطن. فالتصدي لكتابة الرأي ليست مسألة وجاهة اجتماعية، لصاحب منصب أو مال، كما أنها أيضًا ليست قضية تحريضية ينتفع بها البعض من أجل قضاياه الأممية التي لا تمت لمصلحة الوطن بصلة.