المثقف السعودي يعيش أزمة نفسية باعثها الإحباط

المثقف السعودي يعيش أزمة نفسية باعثها الإحباط

[caption id="attachment_55247533" align="aligncenter" width="620"]الكتاب هو وعاء المعرفة ووسيط الحضارة وثمرة الثقافة الكتاب هو وعاء المعرفة ووسيط الحضارة وثمرة الثقافة [/caption]

المثقف السعودي يعيش أزمة نفسية باعثها إحباط الواقع لطموحاته المتمادية في فضاءات الحياة فبينما يرى في قرارة نفسه أن بلاده التي هي مهبط الوحي ومهد الإسلام ومنبع العروبة وملتقى حضارات ومراكز إشعاع شواهدها مسلة تيماء وأدوماتو شمالاً وفاو كندة وأخدود نجران جنوباً وبينهما مدائن صالح وأرض مدين وحضارة ديدان ولحيان وفي غربها الحجاز وحضارته المتجذرة في مكة المكرمة والمتشكلة في المدينة المنورة وفي شرقها هجر المتمدنة منذ فجر التاريخ وبينهما اليمامة المنتصبة كأسياف تشمخ إلى السماء هذه الأرض ميدان أيام العرب وساحة أسواقهم منذ كانوا.. نذكر البسوس ونذكر داحس والغبراء كما نذكر حباشة دومة الجندل والمشقَر وعكاظ ومجنة وذو المجاز التي احتضنت العلم والأدب والشعر والنثر وتعلقت من خلالها المعلقات، في صحاريها سار أمرؤ القيس وقس بن ساعدة، وفي مرابعها تخطى عمرو بن كلثوم والنابغة وزهير وعنترة، أليست بلادنا هي الأولى بحمل لواء الريادة الثقافية على مستوى العالم العربي والإسلامي؟! لماذا تصدمنا بانزوائها عن ذلك الدور؟ وقصورها في تفعيل رسالة تحملها جبال الجزيرة على أكتافها منذ الأزل؟ على الرغم من أن الله حباها من الاستقرار ورغد العيش الشيء الوفير ومن العقول والمواهب والقدرات ما تفاخر به الآخرين!!
هذا القصور لا نستطيع تحميله للمؤسسات الحكومية وحدها والتي تقتاتها البيروقراطية البائسة في ظل انعدام استراتيجية وطنية ثقافية حقيقية توازن بين جهد المؤسسات الحكومية والمؤسسات الأهلية والأفراد الفاعلين المبدعين وتصهره في بوتقة عمل واحدة منظمة تتحفز للإبداع وتتبنى المبادرات وتخلق المشاريع الثقافية الخالدة التي تستهدف العمق ولا تطفو على السطح تحت أضواء الفلاشات التعيسة وبهرجة الكرنفالات الزائفة.

فلو فتشت عن سلسلة معرفية يمكن اعتبارها منارة ثقافية لبلادنا على مستوى العالم فلن تجد!! ولو بحثت عن مشروع وطني للترجمة فلن تجد!! ولو سألت عن مبادرة وطنية تتبنى المواهب والإبداعات بصورة واضحة مجردة عن الشخوص والعلاقات فلن تجد!! ولو تقصيت عن برنامج مدعوم للرقي بالثقافة بكافة أنواعها فلن تجد!! كما لا توجد جائزة تقديرية للدولة ولا رابطة للمثقفين أو الأدباء أو الشعراء!! نعم هناك مراكز ثقافية وهناك مهرجانات دولية وهناك جوائز عالمية وهناك مكتبات كبرى وهناك جامعات عظيمة وهناك أندية أدبية وهناك جمعيات للثقافة والفنون وهناك معارض ومناسبات ولكن هذه التوليفة من المؤسسات التي يفترض بها الدفع بالثقافة إلى الأمام لا تعمل في منظومة واحدة، وبالتالي كل منها يغني على ليلاه وفق توجهات القائمين عليها واجتهاداتهم التي لا تخضع للتقييم أو التحكيم بل تأتي وليدة القدرات والأهواء بعيداً عن مسألة الاستراتيجية الوطنية الموحدة وبالتالي فالمطالبة بمجلس أعلى للثقافة كسائر البلدان البارزة ثقافياً أمر في غاية الأهمية لتحديد الأهداف وتقنين وتنظيم مثابرات مؤسسات الوطن الواحد والتنسيق فيما بينها.




[blockquote]أصبحت الصحافة والإعلام هما اللذان يصنعان المثقف فتصدر المشهد أغيلمة الفكر وسبح في بحر الثقافة من لايجيد السباحة فيها![/blockquote]




إن المثقف يتبركن في دوامة لا تنتهي من مسائل التطييف والتصنيف التي تهيمن على وسائل الإعلام ومنابر الثقافة. والصراع الحدّي هو الغالب ولذا فالإقصاء هو العملية الأبرز عند سيطرة طيف من الأطياف على دفة العمل في جهة من الجهات فلا زالت فكرة الحوار الوطني فكرة فلسفية نظرية لم تتشربها النخب الثقافية التي يعوّل عليها كثيراً في قيادة المجتمع نحو المستقبل لدرجة أن تجربة انتخابات الأندية الأدبية التي كنا نتوقع أن تكون إرهاصاً لمرحلة جديدة من النمو الحضاري والثقافي دخلت في نفق من الإشكاليات التي أدت إلى المحاكم والمرافعات بسبب التعاطي المتجانف عن بؤرة الحقيقة لفرض أجندات الأوهام.

ومن الإشكاليات أن المثقف في عصر مضى كان هو الذي يصنع الصحافة والإعلام فكان يسخرها لخدمة الفكر والثقافة ونشر الوعي وخدمة المجتمع بطريقة حضارية راقية ولكن انقلبت الآية فأصبحت الصحافة والإعلام هما اللذان يصنعان المثقف ويهيمنان على الثقافة فتصدر المشهد أغيلمة الفكر وشداة الأدب فتسطح العمق وغاب الغواصون ليسبح في بحر الثقافة كل من لا يجيد السباحة!!

بقي لدينا معضلة كبيرة هي ثنائية المثقف والكتاب فلا شك أن الكتاب هو وعاء المعرفة ووسيط الحضارة وثمرة الثقافة وبريد العلم والأدب وهو حلقة الوصل بين البلدان والمثقفين في شتى الجهات فإذا لم يستطع بلد من البلدان نشر إنتاجه الثقافي وتوزيعه حول العالم فكيف يمكن للآخرين أن يعرفوا قيمة البلد الثقافية أو وزنها الحضاري؟! وكيف يمكن لأبناء البلد أن يوصلوا رسالتهم المعرفية ليعكسوا صورة ثقافتهم في الخارج؟ كما أن حجب الإنتاج الثقافي للآخر أمر يجعل التقوقع الفكري في مراتبه الدنيا وكأن الناس يعيشون في الدنيا وحدهم. والتمادي في تكريس هذه الممارسة في ظل الانفتاح الإعلامي والتقدم التكنولوجي دليل جهل وتخلف.

فالمثقف السعودي ومعاناته مع النشر تبدأ بمجرد أن يكون كتابه فكرة في رأسه وهو يضع نصب عينيه ما يمكن أن يسمح به الرقيب وما لا يسمح ليبدأ كتابته خاضعاً لسطوة المراقبة فاقداً لحرية الإبداع يكتب ويشطب حتى إذا راجعه مرة ومرتين اتجه به إلى الجهات الرقابية لفسحه قبل الطباعة لتتكسر مجاديفه على صخرة ملاحظات الرقيب وربما صرف النظر عن طباعة كتابه تماماً!! فأما من ينفذ بجلده من مصيدة الرقيب فإنه بعد ذلك يدخل في معترك آخر هو طباعة الكتاب ونشره فهو إن طبعه على حسابه وتحمل تكاليف الطباعة الباهظة تورط في مسألة تسويق كتابه وتوزيعه ليكون مصيره مظلة في سطح بيته أو غرفة في الفناء!! والخيار الثاني أمامه أن يدفعه إلى دار نشر محلية ودور النشر المحلية لا يهمها إلا الجوانب المادية وجلّها لا يقبل إلا إنتاج المشاهير أو نوعية خاصة من الكتب وربما استغلت المؤلف وطلبت منه مبلغاً من المال مقابل قبولها بطباعة كتابه دون أن يكون له مردود من المبيعات أضف إلى ذلك محدودية الانتشار!! والخيار الثالث أن يلجأ المثقف السعودي إلى دور النشر العربية خارج المملكة ليكتسب كتابه قيمة بانتشاره وتوزيعه في الخارج في ظل حرص تلك الدور وخاصة الدور اللبنانية على المشاركة في معارض الكتاب حول العالم واشتراكها في مواقع مبيعات الكتب عبر الإنترنت ولكنه سيكون فريسة للاستغلال وربما دفع مبالغ كبيرة للناشر دون أن يكون له مردود من مبيعات كتابه!! وللأسف هذا حال أغلب المثقفين السعوديين بما فيهم المشاهير!! وقد يتفاجأ المؤلف بعد ذلك بأن كتابه لم يفسح للتوزيع في داخل بلاده!! ويلاحظ في الفترة الأخيرة بروز دور نشر خارجية رصينة ذات ملكية سعودية استطاعت استقطاب المثقفين السعوديين وغير السعوديين وكسب ثقتهم.

الاتجاه الآخر للمثقف السعودي لنشر كتابه هو المؤسسات الحكومية والتي تعتمد الموافقة على نشر الكتاب فيها على المحسوبيات والعلاقات والواسطات والشللية هذا على افتراض السلامة من الإقصاء حسب ألوان الطيف وقد يتم الاعتذار من المثقف السعودي بسبب ازدحام جدول النشر لدى هذه المؤسسة أو تلك في حين تجدها تنشر لغير السعودي بكل أريحية!!



[blockquote] لا زالت فكرة الحوار الوطني فكرة فلسفية نظرية لم تتشربها النخب الثقافية التي يعوّل عليها كثيراً في قيادة المجتمع نحو المستقبل[/blockquote]



ثم إن أنظمة الدولة تنص على دعم المؤلفين السعوديين بالشراء الحكومي ولكن هذا الشراء يدخل في إجراءات طويلة معقدة وقد يقدم المؤلف عدة كتب لعدد من الجهات فلا يتم شراء نسخة واحدة ما لم يكن من المشاهير المدعومين أصلاً أو أن يكون لديه نصير داخل الدائرة أو علاقة وثيقة مع رأس الجهاز أو توجيه من شخصية مرموقة فلا توجد معايير دقيقة أو ضوابط حقيقية للشراء سواء في نوعية الكتب أو الكميات المطلوبة بل تعتمد على قدرات المؤلف على فتح القنوات المغلقة بالوسائل الاجتماعية والعلاقات الشخصية وهذا الأمر ذاته هو الذي ذبح مصداقية جوائز حكومية للكتاب قدمت على أطباق ذهبية من المجاملات وأشياء أخرى!
فالمثقف السعودي الجاد الحافظ لكرامته يعتبر أن تأليفه لكتاب بذل في سبيل إتمامه الكثير من الجهد والوقت وربما المال صفقة خاسرة من الناحية المادية يتمنى أن يعوضه عنها الانتشار لكتابه ولكن هيهات هيهات ففقدان المال والانتشار هو الواقع المرير للنتاج الثقافي السعودي في ظل التكلس الفكري للدوائر الثقافية ووعيها المفقود بأهمية الكتاب ودوره الحضاري.
font change