الحبيب بورقيبة يلاحق الإسلاميين حياً وميتاً !

الحبيب بورقيبة يلاحق الإسلاميين حياً وميتاً !

[caption id="attachment_55248525" align="aligncenter" width="620"]الحبيب بورقيبة .. أول رئيس لتونس بعد الإستقلال الحبيب بورقيبة .. أول رئيس لتونس بعد الإستقلال[/caption]

لايمكن أن تخطئ العين الرسالة التي تحملها محاولة تفجير ضريح الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، هي جاءت بأقصى صورة معبرة عن قلق الإسلاميين وهلعهم من ذكرى وإرث الحبيب بورقيبة الذي أصبح منافساً ومزعجاً أكثر من الأحزاب والشخصيات الحية المناوئة لهم، تشكل رمزيته الطاغية عبئاً يلاحق الإسلاميين اليوم في أزمتهم السياسية ويقض مضاجعهم، فالدولة التي أسس جذروها وقيمها الحبيب بورقيبة في السابق، هي ذاتها بقيمها وافكارها تلاحقهم اليوم، وتحكم عليهم بالفشل، وتؤكد أنهم عاجزون عن تقديم بديل يملأ المكان الذي طبعته بصمات "الرئيس الأول".

يبدو أن ثلاث سنوات من ثورات العرب كانت كافية لأن يتوقف "العربي الغاضب"، فيلتفت إلى الوراء، ويتلمس هويته التي افتقدها، ويسترجع مربعه الأول الذي تمزق بين ضجيج الشعارات والهتافات والغضب... صور جمال عبدالناصر تظلل مصر، رسالة لايرغب "الحزب الإسلامي الحاكم" في تونس أن يطلع عليها، فـ"الزعيم" هنا وهناك، يلاحقهم حياً وميتاً، وذلك المواطن "الغلبان" الذي صوت لهم في العهد الأول، لم يكن "مرتداً" أو "غاضباً" على زعيمه، بل مجرد "عتبان"، واليوم عرف قدره حين جرب غيره، فعاد إلى حياض "زعيمه الأول" متناسياً زلاته ومصائبه، وهفواته، يريد أن يكفر عن ذنبه حين صوت لأولئك الذين ظنوا أن عتبه عليه سيعطيهم الحق بأن يختلعوا جذروه من قلبه، فتمرد عليهم وثار، فاقتلعهم هو، وبقي "زعيمه القديم" حيا في شوارعه، ومدرسته، ومقر عمله.

إنها ليست مصادفة أن تستذكر حركة «النهضة» في تونس الحبيب بورقيبة بعد نحو ثلاثة عقود على تنحيته عن السلطة بصفته خصماً لا يموت. كما يقول الكاتب اللبناني حازم أمين، فـ"بورقيبة هو مؤسس الدولة التي ورثتها والتي تحتقرها/وترفضها حركة «النهضة»".

مفتي الجمهورية التونسية حمدة سعيد عبر عن ذلك بصراحة، أراد أن يواجه شبح بورقيبة المزعج، فعلق عليه كل أخطاء الحاضر، وحمله مسؤولية فشل زملائه الحاكمين، فقال مقرراً بأن "بداية الظاهرة الإرهابية هي يوم أن قام الحبيب بورقيبة بنزع الحجاب عن المرأة التي وقفت أمامه ويوم أغلق جامع الزيتونة".

لهذا نفهم لماذا تصبح دولة بورقيبة أكبر عدو عنيد يزعج الإسلاميين، فهو على خلاف أقرانه من الزعماء العرب، لم يكتف بتدبيج الشعارات والخطب الرنانة التي تذهب أدراج الرياح، وتتبخر بموته، بل تحولت أفكاره إلى مشاريع مقننة مؤصلة غيرت الخريطة، والهوية التونسية، وانعجنت في أعماق الثقافة والمجتمع، فأصبحت تستعصي عليهم حين وصلوا للسلطة، وليس مستغرباً أن نجدها تنبعث وتعود من جديد، هذا إذا افترضنا أنها اختفت يوماً.





في ذكرى رائد الكفاح والإصلاح





يمكن رصد ملامح عودة الزعيم التونسي بوضوح إلى الحياة السياسية والاجتماعية حين أحيا التونسيون في السادس من أبريل لهذا العام الذكرى الـ13 لزعيمهم التاريخي الحبيب بورقيبة، الذي توفي في ذلك اليوم من العام 2000.

رفع التونسيون شعار الذكرى "بورقيبة.. رائد الكفاح والإصلاح"، وافتتح بمناسبة ذلك متحف قصر بورقيبة، الذي تضمن استعراضًا لأثاث قصره، وقسمًا للوثائق، وقاعة للندوات والمحاضرات، وسمي "بيت أبو رقيبة".

هذه العودة الحية لذكرى وتراث رئيس دولة الاستقلال، هي -كما يقول الكاتب التونسي عادل لطيفي- محاولة لاستعادة الهوية التونسية الأصيلة "بإسلامها العفوي، ونمط عيشها المنفتح"، بعد أن جاءت مواقف الإسلاميين -سواء في السلطة أو خارجها- وكأنها في تعارض تام مع استعادة التونسيين لتونسهم التي تعودوا عليها. إضافة إلى الصعود الكبير لحزب "نداء تونس" الذي يؤمن بالمنهج البورقيبي، وبزعيمه البارز السيد الباجي قايد السبسي، ففي أول خطاب توجه به إلى الشعب، أحس التونسيون وكأنهم يستمعون ويشاهدون نسخة طبق الأصل لبورقيبة، سواء من حيث طريقة حديثه، أو أسلوبه في الخطابة وحركات اليدين وقسمات الوجه ونظرات العينين، كما يصف ذلك الكاتب التونسي صلاح الدين الجورشي.



[caption id="attachment_55248527" align="alignleft" width="300"]بورقيبة، وجمال عبدالناصر، وأحمد بن بيلا بورقيبة، وجمال عبدالناصر، وأحمد بن بيلا[/caption]
[blockquote]على قبره في ضاحية المنستير كتبت هذه العبارات الثلاث :"المجاهد الأكبر، باني تونس الجديدة، ومحرر المرأة"[/blockquote]




الآن وبعد ستة وعشرين عامًا من تنحية الرئيس بورقيبة عن السلطة، وبعد ثلاث عشرة سنة على تركه الحياة ما يزال هذا الرجل يثير من الجدل والمعارك والتباين في الآراء، ومازالت شخصيته حاضرة في التفكير الثقافي والسياسي العربي، تتكالب عليه الأوصاف من جهات متعددة ومتعاكسة، فهو "الزعيم"، "المجاهد الأكبر"، "صانع الأمة"، أو "عدو الإسلام"، "الصهيوني المطبع"، "الرئيس الأبدي"، "الباي الجمهوري"، وعند الذين يريدون الوقوف في المنتصف هو "الديكتاتور المستنير"، أو "المستبد المثقف".

ألقاب وأوصاف كثيرة متنافرة، تؤدي إلى نتيجة مفادها أن شخصية هذا الرجل كانت حافلة بالأحداث والمشاريع المثيرة التي جعلت صورته التاريخية متباينة صاخبة، معقدة متراكبة.
كان بورقيبة -مثل معلمه وأستاذه كمال أتاتورك- مهجوسًا بمشروع كبير يؤسس لدولة لائكية مستقلة، تستلهم التحديث الغربي، وتعود لجذور قوميتها التونسية، ولذلك بعد شهر من إعلان الاستقلال في 8 إبريل 1956 وقف بورقيبة في خطاب أمام المجلس التأسيسي قائلاً: "لا يفوتنا أننا عرب وأننا متأصلون مترسخون في الحضارة العربية الإسلامية، ولكن مع ذلك لا يمكننا أن نغفل بأننا نعيش في النصف الثاني من القرن العشرين، وأننا حريصون على المشاركة في مسيرة الحضارة كي نواكب عصرنا".

حرص بورقيبة على تحديث تونس، و"نجح في تحقيق هذا الهدف الذي شكل أحد الثوابت المهمة في حياته" يؤمن بذلك الوزير الطاهر بلخوجه في كتابه "الحبيب بورقيبة.. سيرة زعيم"، الذي قال :"في فترة اعتقاله كان بورقيبة يلتهم كل ما كتب حول موضوع الدولة والسلطة انطلاقًا من فلسفة الفرنسي مونتسكيو، ووصولاً إلى فكر كمال أتاتورك، كان يرفض الاستسلام للقضاء والقدر، ويريد إنقاذ تونس وشعبها من التخلف".



ثورة لأجل المرأة





لعل أخطر نقلة حداثية أنفذها بورقيبة هي إصداره لقانون الأحوال الشخصية المعروف بــ ( مجلة الأحوال الشخصية ) عام 1956 بعد خمسة أشهر فقط من إعلان الاستقلال، وهي في حد ذاتها ثورة اجتماعية تحررية كبرى، واعتمد فيها بورقيبة إصلاح وضع المرأة التونسية بالتدريج، حيث ظلت المجلة خاضعة للتنقيح والتعديل والإضافة لصالح المرأة طوال سنوات حكم بورقيبة، فكلما هضم المجتمع جرعة ألقى إليه بالجرعة التالية.

كانت أكثر البنود المثيرة للجدل (قانون منع تعدد الزوجات)، فمن يتزوج بأخرى وهو في حالة الزوجية يعاقب بالسجن لمدة عام، ويدفع غرامة قدرها مائتان وأربعون ألف فرنك، أو بإحدى العقوبتين، ويعتبر عقد الزواج باطلاً، في تعديل للفصل الخامس من المجلة في إبريل 1964 جعل السن القانونية الدنيا لزواج الإناث سبعة عشر عامًا، وعشرين عامًا للذكور، ساوى بين الزوجين في إجراءات الطلاق، وفي تعديل تم في يونيو 1959 ساوى بين الرجل والمرأة في بعض أوجه الميراث، كما في تعديل جرى في أكتوبر 1962 قضى بألا يكون الطلاق نافذًا بين الزوجين إلا بموافقة القضاء، وفي تعديلات لاحقة أيضًا اتخذ بورقيبة خطوات جريئة، فأباح التبني والإجهاض، وإلى جانب هذه الحقوق الاجتماعية أقر الحقوق السياسية للمرأة التونسية بمساواتها بالرجل في المواطنة، ومنحها حق الترشح والتصويت. وبسبب ذلك واجه بورقيبة حملة إسلامية عنيفة وصلت إلى حد تكفيره والحكم عليها بالردة وإهدار دمه.

لكن ما لا يذكر كثيرًا في غمرة النقاش والجدال حول مشروع مجلة الأحوال الشخصية، وخاصة قانون منع تعدد الزوجات أنها لم تكن بقرار فردي واستنباط خاص من بورقيبة، بل شكَّل لجنة شرعية لمراجعة المجلة، شارك فيها الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، واستشير الشيخ محمد الطاهر بن عاشور صاحب التحرير والتنوير، والشيخ عبد العزيز جعيط في شأنها.

يشير الكاتب التونسي عادل لطيفي إلى أن فكرة إلغاء تعدد الزوجات كان صاحبها هو الطاهر الحداد الذي رأى في كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" أن التعدد عادة اجتماعية وليست دينية. أي أنه كان هناك سياق عام ثقافي وتاريخي تتنزل ضمنه مجلة الأحوال الشخصية عمومًا، ومنع تعدد الزوجات تحديدًا ضمن هذا السياق، وضمن واقعية التجربة الاجتماعية وعفويتها نفهم قبوله من طرف المجتمع بتدرج، حتى إن مطلب التعدد يغيب اليوم لدى التيارات السياسية الإسلامية الفاعلة.


[caption id="attachment_55248528" align="alignleft" width="300"]صورة تجمع بورقيبة بالملك فيصل بن عبدالعزيز صورة تجمع بورقيبة بالملك فيصل بن عبدالعزيز[/caption]
[blockquote]كما ارتبط اسم كمال أتاتورك بقضية إلغاء الخلافة وإسقاطها، ارتبط بورقيبة بقضية تحرير المرأة، وخصوصًا بقانون منع تعدد الزوجات[/blockquote]



كان بورقيبة يعتز كثيرًا بهذا الإصلاح في كل المناسبات، كان يصف قانون الأحوال الشخصية بأنه أول زهرة أنجبها الاستقلال، وعلى قبره في ضاحية المنستير كتبت هذه العبارات الثلاث :"المجاهد الأكبر، باني تونس الجديدة، ومحرر المرأة" في ظاهرة فريدة في العالم العربي، حيث وضعت المرأة في المستوى ذاته من استقلال الدولة وبنائها من جديد.

في كتابه "الوزير المرافق" يروي الدكتور غازي القصيبي ذكرياته مع "المجاهد الأكبر" الذي كان مولعًا في آخر حياته بالحديث عن ذكرياته، تحدث في أحد المجالس التي حضرها القصيبي، كان الزعيم يتحدث بكل حماس: "أنا من حرر المرأة من قيود التخلف، كانت المرأة التونسية مجرد بضاعة تباع وتشترى لم يكن لها رأي في زواجها ولا في طلاقها، لقد غيرت هذا كله. منعت تعدد الزوجات، واستندت في هذا المنع إلى القرآن نفسه، فالقرآن يقول (ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)".

واستشهاد بورقيبة هنا بالقرآن على مشروعه التحديثي يشير إلى نقطة ألمح لها الكاتب التونسي لطفي حجي في كتابه النقدي (بورقيبة والإسلام.. الزعامة والإمامة)، حيث يقول إن بورقيبة لم يكن أتاتوركيًا بالمعنى الحقيقي، وإن موقفه من الدين كان ملتبسًا، فهو لم يقص الدين مثل أتاتورك، بل وظفه لخدمة أهدافه على طريقته حسب قوله، ويرى الكاتب أن بورقيبة اتخذ مواقفه المتعارضة مع الدين من داخل الدين نفسه، أيّ أنه أوجد لها تأويلات ومسوغات وتبريرات من النصوص الدينية نفسها، وكان يرى الإسلام من مكونات الهوية الوطنية التونسية، وفي هذا السياق يشير إلى زيارته المثيرة للجدل إلى تركيا في العام 1965 حيث انتقد أتاتورك في عقر داره؛ لإقصائه للدين ولإلغائه للخلافة الإسلامية على اعتبار أنها كانت الرابطة التي تجمع المسلمين.

هل حقًا بورقيبة كان معارضًا لإسقاط الخلافة وإقصاء الدين وهو بذلك يناقض نفسه ومسيرته؟ هذه الروايات المتضاربة التي تنافي المنهج البورقيبي بمجموعها تشير إلى الدور المزدوج الذي كان يقوم به بورقيبة في محاولته لتدعيم العمل التنويري بطرق متعددة، حتى لو كانت من داخل الدين نفسه الذي يصفه خصومه الإسلاميين بأنه واحد من ألد أعدائه.

يروي لطفي حجي في كتابه قصة طريفة لحوار دار بين بورقيبة ومحمود المصمودي –وزير تونسي- في الطائرة التي كانت تقلهما إلى السعودية عام 1951 في إطار حشد الدعم لقضية استقلال تونس، سأله المصمودي: إن الناس يتساءلون عما إذا كنت مؤمنًا بالله أم لا؟ أجاب بورقيبة: "على كلّ حال فإنّ الله سيدخلني الجنّة". أعاد المصمودي السؤال فرد بقوله : "في بعض الأحيان أنا مؤمن وفي أحيان أخرى ينتابني الشكّ، وتتوالى في ذهني الأسئلة الوجوديّة"، أصر المصمودي وأعاد السؤال للمرة الثالثة: هل أنت مؤمن بالله؟ فقال بورقيبة: "نعم فأنا ذاهب إلى مكّة".



بورقيبة.. منهج الواقعية السياسية





كما أصبح اسم كمال أتاتورك مرتبطًا بقضية إلغاء الخلافة وإسقاطها، ارتبط بورقيبة بمشروع الأحوال الشخصية، وخصوصًا بقانون منع تعدد الزوجات، على الرغم من جرأة ضخامة مشروع كهذا إلا أنه غطى وساهم في إغفال جوانب كثيرة من مسيرة بورقيبة.

بدأ الحبيب بورقيبة حياته السياسية عام 1929، بالمساهمة في تحرير جريدة "اللواء التونسي" التي كانت تصدر بالفرنسية، ثم جريدة "صوت التونسي"، التي تعرضت على نحو متصل لاضطهاد السلطات الفرنسية وملاحقتها، وبعد ثلاثة أعوام أسّس بورقية في نوفمبر 1932 جريدة "العمل التونسي".

انضم إلى الحزب الحر الدستوري سنة 1933 واستقال منه في نفس السنة ليؤسس في مارس 1934 بقصر هلال الحزب الحر الدستوري الجديد، رافقه محمود الماطري والطاهر صفر والبحري قيقة. اعتقل في 3 سبتمبر 1934 لنشاطه النضالي، وأبعد إلى أقصى الجنوب التونسي ولم يفرج عنه إلا في مايو 1936.

سافر إلى فرنسا، وبعد سقوط حكومة الجبهة الشعبية فيها اعتقل في 10 إبريل من العام 1938 إثر تظاهرة شعبية قمعتها الشرطة الفرنسية، ونقل بورقيبة إلى مرسيليا وبقي فيها حتى 10 ديسمبر 1942 عندها نقل إلى سجن في ليون ثم إلى حصن "سان نيكولا" حيث اكتشفته القوات الألمانية التي غزت فرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية، فنقلته إلى نيس ثم إلى روما، ومن هناك أعيد إلى تونس حرًّا طليقًا في 7 إبريل 1943.



[caption id="attachment_55248529" align="alignleft" width="300"]بورقيبة خلال زيارته إلى نيويورك عام 1961 بورقيبة خلال زيارته إلى نيويورك عام 1961[/caption]
[blockquote]اتخذ بورقيبة موقفًا مبكرًا وجريئًا تجاه القضية الفلسطينية مناقضًا للتوجه العربي السائد حينها، حيث دعا الفلسطينيين الاعتراف بقرار 1947[/blockquote]



بدأ الحبيب بورقيبة مرحلة ثانية من النضال، حين اندلعت المظاهرات الدامية ضد الاستعمار في 18 يناير 1952، طالب بورقيبة الحكومة الفرنسية إعادة النظر في اتفاقيات الحكم الذاتي، وتطويرها نحو المرحلة النهائية، وهي الاستقلال الكامل. وفي 20 مارس 1956 اعترفت فرنسا باستقلال تونس، وتم توقيع معاهدة الاستقلال، التي نصّت على أن تونس دولة مستقلة، ذات سيادة، لها حقها في ممارسة مسؤولياتها في ميادين: الشؤون الخارجية والأمن والدفاع وتشكيل جيش وطني تونسي. وعُهد إلى بورقيبة بتشكيل الحكومة، فشكّل في 14 أبريل 1956 أول حكومة مستقلة.

في 25 يوليو 1957 تم إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية؛ فخلع الملك محمد الأمين باي وتم اختيار الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية، ثم أقر العديد من الإجراءات لتحديث البلاد، ونزع ملكية الأراضي الزراعية من الأجانب، وأقر مجانية التعليم وإجباريته وتوحيد القضاء.

بعد استقلال الدولة توجه بورقيبة لشؤون العرب موسعًا زعامته السياسية، اتخذ موقفًا مبكرًا وجريئًا تجاه القضية الفلسطينية مناقضًا للتوجه العربي السائد حينها، ذهب إلى أريحا في 3 مارس 1965 وألقى خطابه التاريخي الشهير الذي دعا فيه اللاجئين الفلسطينيين إلى عدم التمسك بالعاطفة والاعتراف بقرار التقسيم العائد إلى 1947. ثارت ثائرة العرب حينها، واتهموه بالخيانة العظمى، حيث كان القرار يعطي الإسرائيليين %49 من أرض فلسطين التاريخية، ويعطي الفلسطينيين %49 أيضًا، ويبقي القدس تحت إشراف الأمم المتحدة بنسبة %2 من الأرض.

يعلق الكاتب اللبناني حازم صاغية في مقال له بعنوان (بورقيبة هنا وهناك) على قصة خطاب أريحا قائلاً : "قامت القيامة يومها ضدّ الزعيم التونسيّ، وراح عبد الناصر والبعث السوريّ يتباريان في كيل التهم والشتائم له فيما يخوضان مزايدة شرسة في ما بينهما باسم فلسطين وعلى حساب الفلسطينيّين. لكنْ بعد عامين فقط حلّت الهزيمة الرهيبة التي نزلت بالطرفين المزايدين، وتحوّل تقسيم 1947 إلى هدف لا يزال يستدعي نضالاً فلكيًّا لبلوغه".



التنمية قبل الديمقراطية





يصف صاغية في مقاله المنشور في ديسمبر 2012 بورقيبة بأنه من مؤسّسي الواقعيّة في السياسة العربيّة، فهو دافع عن استقلال يحصل تدريجيًّا دون أن يقود إلى قطيعة مع المتروبول الاستعماريّ ، "فعلى عكس معاصريه العرب، كانت سياسته تأخذ في الاعتبار توازنات القوى والصلة بين القدرات والشعارات المطروحة، كما تستند إلى فرضيّة ضمنيّة مفادها أنّ دفع الصراع السياسي مع الاستعمار بعيدًا يفيض عن السياسي إلى الثقافي، ويهدّد بالقطع مع الحداثة والتقدّم".

يختتم صاغية حديثه قائلاً : "بالتأكيد لم يكن بورقيبة ديمقراطيًّا، إلاّ أنّه رعى استبدادًا وديعًا بالقياس إلى المستبدّين العرب الذين عاصروه وجاءوا بعده. وأهمّ من ذلك أنّ استبداده ترافق مع تنمية واسعة للطبقة الوسطى التونسيّة القادرة على إقامة الديمقراطية. بمعنى آخر إنّ الخيار الزائف الذي أقامه المستبدّون الآخرون بين التنمية والديمقراطية، هم الذين سحقوا الاثنتين، لم يكن زائفًا بالقدر نفسه في الحالة البورقيبيّة حيث تمّت رعاية التنمية من غير استئصال الاحتمالات الديمقراطية".

على الرغم من كل مايمكن أن يقال عن بورقيبة وعن ولعه بالسلطة، وتقديسه لذاته، وأثر ذلك في تراجع مشروعه التحديثي والتنويري حين أصر أن يبقى رئيساً رغم "مرضه الطويل"، إلا أنه يطل اليوم على المشهد الذي ينفض غبار الربيع العربي، كزعيم سابق لعهده وزمانه، ونموذج مختلف عن كل الزعامات العربية الأخرى التي عاصرها، فلم ينهك شعبه بشعارات المقاومة، ودعايات العروبة، ولم يزج بهم في رهانات خاسرة، استطاع أن يكون واقعياً بعيداً عن أوهام الأمة الكبرى، جعل نصب عينيه بناء مجتمع تونسي متعلم تتعمق فيه القيم الإنسانية إلى أبعد مدى، يعيش مع ركب الحضارة من حوله دون أن يشعر بانفصال و ارتباك.
font change