
على يافطة رفعت يوم الأحد؛ احتجاجًا أمام السفارة الروسية في برلين الواقعة في قلب المدينة، دونت تواريخ وأماكن التدخل السوفياتي - الروسي في الستين عامًا الماضية. وجاءت كالتالي:"جمهورية ألمانيا الديموقراطية -ألمانيا الشرقية سابقًا- 1953، المجر 1956، تشيكوسلوفاكيا 1968، أفغانستان 1979، جيورجيا 2008، أوكرانيا 2014".
اليافطة نقلت بكلمات قليلة عصارة ستة عقود من سياسة عرض العضلات السوفياتية -الروسية. ولكن ما يهم منها اليوم تاريخان: جيورجيا 2008 وأوكرانيا 2014. الأول، لأنه الأقرب زمنيًّا؛ ولأن اللاعب الروسي الرئيسي وقتها فلاديمير بوتين هو نفسه اللاعب الرئيسي اليوم. عام 2008 كان رئيسًا للوزراء بعد ولايتين رئاسيتين، واليوم عاد رئيسًا إلى قصر الكرملين. والثاني، بسبب التقارب في سيناريو الأزمة حتى وإن لم تفض هذه المرة إلى تدخل عسكري مباشر للقوات الروسية عند الجارة الأوكرانية. آلية الأزمة هي نفسها، والتحديات متشابهة، واللاعبون من الغرب والشرق هم أنفسهم. عام 2008، في 8 أغسطس/آب، بدأت القوات الروسية باجتياح مناطق واسعة من جمهورية جيورجيا- أوسيسيا الجنوبية وأبخازيا- التي كانت قبل العام 1991 جزءًا من الاتحاد السوفياتي. ولم يقبل بوتين وقفًا لإطلاق النار إلا في السادس عشر من الشهر نفسه بعد أن أنجزت القوات الروسية أهدافها الميدانية الأمر الذي مكنه -بعد عشرة أيام فقط- من الاعتراف رسميا باستقلال الجمهوريتين الانفصاليتين، ومن فرض أمر واقع جديد غير آبه بتنديدات الغرب ولا بتهديداته أكان الحلف الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأميركية.
عام 2008، أعطى الرئيس الجيورجي "ميخائيل سكاشفيلي" الذي حكم بلاده ما بين العام 2004 و2013 الحجة التي كان يبحث عنها بوتين بهجومه على أوسيسيا الجنوبية ذات النزعة الانفصالية، والتي كانت تنتشر فيها قوات مراقبة دولية تتكون أساسًا من وحدات روسية.
"سكاشفيلي" راهن على الدعم الذي اعتبر أن الغرب سيوفره له وعلى قدرات بلاده العسكرية التي عولت على التسليح الإسرائيلي والغربي. لكن حساباته خابت بوجه المحدلة العسكرية الروسية التي وصلت في أقل من مائة ساعة إلى مشارف العاصمة تبيليسي. ولم تكتف موسكو التي فرضت حصارًا بحريًّا على موانئ جيورجيا بذلك، بل أرسلت وحدات عسكرية إلى أبخازيا، الواقعة على الشاطئ الشمالي الغربي لجيورجيا، لدعم الحركة الانفصالية الأبخازية. وبفضل هذا الدعم، تمكن الأبخازيون من الهيمنة التامة على المناطق التي يعتبرونها جزءًا لا يتجزأ من أبخازيا. ولكن رغم إعلان استقلال أوسيسيا الجنوبية وأبخازيا واعتراف موسكو بهما، فإن أيًّا من بلدان العالم باستثناء نيكاراغوا، لم يحذ حذو موسكو، وبقيت حالتهما شبيهة بحالة جمهورية قبرص التركية التي لا تعترف بها سوى أنقرة.
الهجوم الروسي على أوكرانيا "مقنع" لسببين!
حتى الآن، ما زال التدخل الروسي في أوكرانيا -وتحديدًا في شبه جزيرة القرم- مقنعًا. والأرجح ألا ترسل موسكو طائراتها ودباباتها إلى العاصمة سيمفروبول أو إلى المدينة الشاطئية سيباستوبول؛ لسبب رئيس، وهو أنها ليست بحاجة لذلك باعتبار أن الاتفاق المبرم مع كييف حول تواجد أسطولها في البحر الأسود يوفر لها الإمكانيات العسكرية الثقيلة. وبدلاً من ذلك، تعول موسكو على عنصرين إضافيين: الأول، ولاء الحكومة المحلية وأجهزتها الأمنية والإدارية في سيمفروبول لها والحراك الشعبي للمواطنين من أصل روسي لصالحها بما في ذلك تشكيل لجان دفاع شعبي -ميليشيات- رديفة، والثاني إرسال الآلاف من قوات الأمن "المقنعين" الذين لا يكشفون عن انتمائهم لمحاصرة الثكنات العسكرية والمراكز الإدارية بهدف "خنق" أي تحرك موال لحكومة كييف. وهذا التواجد استخدمته هذه الأخيرة لتتحدث عن "غزو" روسي كما استخدمته الإدارة الأميركية والدول الغربية قاطبة للتنديد بـ"انتهاك السيادة الأوكرانية" ولرفع سيف العقوبات فوق رأس بوتين. بيد أن الأخير ماض في استراتيجيته الهادفة لفصل شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا مستندًا في مرحلة أولى، وكما جاء في رسالته إلى المجلس الفدرالي الروسي، إلى الحق في "حماية مصالح روسيا" وحياة الروس "المهددة من قبل العصابات المجرمة والمغالية في التطرف" في كييف. أما المرحلة الثانية، فإن عنوانها الاستفتاء على الحكم الذاتي الذي سيجرى في القرم في 30 مارس/آذار الجاري وهو معروف النتيجة سلفًا. وإذا كان من الممكن منذ اليوم توقع رفض كييف وبلدان الأطلسي والاتحاد الأوروبي الاعتراف به، فإنه رغم ذلك سيفرض واقعًا جديدًا شبيهًا جدًا بالواقع الذي فرضته موسكو في أبخازيا وأوسيسيا الجنوبية. وعندها، فإن مبدأ "سلامة الأراضي" الأوكرانية سيصاب بالضربة القاضية إلا إذا كانت التهديدات الأميركية والغربية ستنجح في لجم "الهجوم" الروسي.
هل التهديدات كافية لردع الرئيس الروسي؟
واضح أن الرئيس الروسي عازم على تحقيق "حلم استراتيجي". أليس هو من قال إن "أكبر كارثة جيوسياسية حصلت في القرن العشرين هي انهيار الاتحاد السوفياتي" وأنه "عازم على إعادة بناء الاتحاد الأورو- آسيوي"؟. في الحالتين السيناريو هو نفسه: جمهورية سابقة من الاتحاد السوفياتي الذي انتهى قانونيًّا في العام 1991 تريد الابتعاد عن الأخ الروسي "الأكبر" وتقترب من الغرب الذي بدوره لا يفوت فرصة "لقضم" دائرة النفوذ السوفياتية السابقة. يومًا عبر ضم قطعة منه إلى الحلف الأطلسي ويومًا آخر من خلال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو إقامة شراكة معه. الحلف الأطلسي "هضم" ثلاث جمهوريات سوفياتية سابقة (أستونيا ولاتفيا ولتونيا) وذلك في العام 2004 وهو يرنو لضم جيورجيا وأوكرانيا. كما أنه ضم إلى صفوفه العديد من أعضاء حلف وارسو المنافس للحلف الأطلسي وهي: بلغاريا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا (سلوفاكيا ثم تشيكيا) وبولنده والمجر وألبانيا. فضلاً عن جمهوريتين سابقتين من الاتحاد اليوغوسلافي وهما سلوفينا وكرواتيا. وكانت مولدافيا المحشورة بين رومانيا وأوكرانيا تريد الانضمام بدورها إلى الحلف. لكن الأخير رفض طلبها لما يحيط بها من مشاكل. ولاكتمال المشهد، لا بد من الإشارة إلى المشروع الأميركي- الأطلسي الخاص ببناء "درع صاروخي" ينشر في أوروبا بحجة حمايتها من الصورايخ الباليستية التي يمكن أن تطلقها دول "مارقة" مثل إيران. لكن الواقع أن المروجين لهذا المشروع -الذي جمده الرئيس أوباما بعد وصوله إلى السلطة في ولايته الأولى- يستهدفون تعطيل الترسانة النووية الروسية، وهو بذلك شبيه في أهدافه بمشروع الرئيس ريغان المسمى بـ"حرب النجوم".
[blockquote]ستحسب أوروبا ألف حساب قبل أن تقرر فعليًّا تدابير قسرية بحق روسيا؛ لأنها تعرف أن ردة الفعل من الطرف الآخر ستكون أليمة.[/blockquote]
[caption id="attachment_55250216" align="alignleft" width="300"]

كثيرون من الخبراء يرون في "زحف الديموقراطية الغربية" باتجاه الشرق استكمالاً لتطويق "الدب الروسي" ومحاصرة لنفوذه الاستراتيجي في جواره القريب، واستكمالاً لبناء الحائط الأطلسي العازل. فمن أستونيا إلى تركيا، لم يكن يتبقى لروسيا سوى نافذتين في الحائط المحكم على حدودها الغربية الأوروبية وهما روسيا البيضاء {بيلاروسيا} وأوكرانيا. ولذا، فإن البرلمان الأوكراني الذي أزاح بضغط من المتظاهرين في ساحة الاستقلال في كييف لم يقدروا ردة الفعل الروسية وأهمية بقاء أوكرانيا أرضا "غير معادية" لموسكو باعتبارها المدى الاستراتيجي "الحيوي" لروسيا باتجاه الغرب.
أهمية أوكرانيا بالنسبة لروسيا
وما يضاعف من أهمية أوكرانيا ثلاثة عناصر إضافية متداخلة: أولها، الأهمية "الرمزية" لشبه جزيرة القرم التي "أهداها" الزعيم السوفياتي الأوكراني الأصل "نيكيتا خروتشيف" إلى كييف في العام 1954 بمناسبة المئوية الثالثة لاعتراف أوكرانيا بالسيادة الروسية. وثانيها، الأهمية الاستراتيجية للقرم باعتبارها تأوي الأسطول الحربي الروسي في البحرين الأسود والأبيض ونافذته إلى المياه الدافئة وقاعدته في مدينة "سيباستوبول". وثالثهما التكوين الديموغرافي للمنطقة التي تسكنها أكثرية روسية الأصل تزيد على 60 بالمائة، والتي لا يستطيع بوتين تجاهلها وهو الذي يريد استعادة أمجاد "روسيا المقدسة". وما يصح على الديموغرافيا في شبه جزيرة القرم يصح أيضًا على مناطق شرق أوكرانيا التي تعرف هي الأخرى كثافة سكانية روسية وهي مرشحة أيضا للانفصال عن أوكرانيا، أو الحصول على وضع خاص داخل الجمهورية الأوكرانية.
منذ أن طلب بوتين من المجلس الفدرالي الروسي السماح بإرسال قوات روسية إلى أوكرانيا، استفاقت الدول الغربية على وقع "الكارثة" القادمة وتكاثرت الاجتماعات والاتصالات على كل المستويات للنظر في ما يمكن القيام به لإفهام روسيا أن "الثمن" الذي تحدث عنه الرئيس أوباما مرتفع لدرجة أن من الأفضل لموسكو التخلي عن مخططاتها. لكن وزير الخارجية الأميركي "جون كيري" -وهو الذي استخدم أشد العبارات بحق روسيا ورئيسها- سارع إلى القول إن "آخر ما يمكن أن تفكر به بلاده في مثل هذه الأوضاع هو الخيار العسكري". وجزم كيري قائلاً: "ما نريده هو حل سياسي". وما قاله كيري شددت عليه المستشارة الألمانية "أنجلا ميركيل" التي أكدت أن "لا حل عسكري" للأزمة الأوكرانية، وأن الوقت لم يفت للعثور على حل سياسي". أما وزير خارجيتها "شتاينماير" فقد اعتبر أن الزمن للديبلوماسية التي "لا تعكس حالة ضعف لكنها ضرورية من أجل تحاشي الغرق في أحشاء التصعيد العسكري".
واضح أن أحدًا لا يريد حربًا مع روسية من أجل أوكرانيا، لا حربًا كلاسيكية ولا حربًا نووية. والولايات المتحدة في ظل الرئيس أوباما أقل الدول رغبة في اندلاع حرب خطرة طرفها إحدى الدولتين العظميين في العالم التي تمتلك ترسانة نووية بحجم الترسانة الأميركية. ولذا، فإن الغربيين، بعد التصعيد الكلامي وبيانات التنديد واجتماعات التشاور إن كان في بروكسيل أو في نيويورك، يمكن أن يرسو قرارهم على مجموعة من العقوبات السياسية - الديبلوماسية والاقتصادية - التجارية. وفي الحالين، يمكن تصور أن الغربيين سيسعون لفرض عزلة سياسية وديبلوماسية على روسيا، والتهديد بإخراجها من مجموعة الثمانية، ووقف برامج التعاون معها، وفرض حظر على تأشيرات الدخول لعدد من مسؤوليها وتجميد ودائعهم في المصارف الغربية، وفرض العزل التجاري، ووقف الاستثمارات المباشرة وإلى ما هنالك من إجراءات مشابهة.
أما عسكريًّا، فيستطيع الغربيون التلويح بإعادة العمل بمشروع الدرع الصاروخية الذي جمده أوباما، وبتسريع انضمام جيورجيا إلى الحلف الأطلسي، وربما قد يلجأ إلى تقديم المشورة العسكرية أو السلاح إلى أوكرانيا في حال اندلاع نزاع حربي حقيقي بينها وبين روسيا، ولكن من غير الدفع إلى حافة المواجهة المباشرة مع القوات الروسية.
جميع هذه التدابير وأخرى غيرها جربها الغربيون في الأزمة الجيورجية. لكنهم تناسوها سريعًا لتعود موسكو شريكًا دوليا. والحال أن القيمة الاستراتيجية لشبه جزيرة القرم ولفك الحصار عن روسيا من خلال منع كييف من الانضمام إلى المعسكر الغربي تفوق قيمة الخسائر المترتبة على العقوبات الغربية. فضلاً عن ذلك، فإن الغربيين بحاجة لتعاون روسيا في أزمات إقليمية رئيسية أهمها الحرب في سورية والبرنامج النووي الإيراني، وانسحاب القوات الدولية من أفغانستان. وفي هذه الحالات الثلاث، تبدو المساعدة الروسية أساسية و لا يمكن الاستغناء عنها.
يبقى أن في يد موسكو ورقة رادعة هي ورقة الغاز الروسي المتدفق على أوروبا. وتعتمد القارة القديمة في استهلاكها على الغاز الروسي بنسبة 40 بالمائة. وليس في السوق فورًا جهة قادرة على التعويض عنه. لذا، ستحسب أوروبا ألف حساب قبل أن تقرر فعليًّا تدابير قسرية بحق روسيا؛ لأنها تعرف أن ردة الفعل من الطرف الآخر ستكون أليمة.