
بدأت المساعدات الأميركية تشهد طفرة ملموسة عام 1979، بعد توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية برعاية أميركية، حيث دلف إلى مكوناتها بند جديد وهو المساعدات العسكرية التي تبلغ قيمتها مليارا وثلاثمائة مليون دولار سنويا، لتغدو مصر على إثرها ثاني أكبر دولة تتلقى المساعدات العسكرية الأميركية بعد إسرائيل، والخامسة من حيث إجمالي المساعدات الأميركية، بشتى أوجهها، بعد إسرائيل وأفغانستان وباكستان والعراق، حيث يصل إجمالي ما تتحصل عليه سنويا من مساعدات أميركية مليار و550 مليون دولار، تتوزع ما بين 1.3 مليار دولار مساعدات عسكرية والباقي معونات اقتصادية.
ووفقا لتقارير الكونغرس الأميركي، تشكل المساعدات العسكرية الأميركية لمصر ثلث ميزانية المؤسسة العسكرية المصرية، وتنفق في ثلاثة أوجه رئيسة: مشتريات أسلحة، وتدريب وتحديث المعدات العسكرية الموجودة، ومتابعة عقود الدعم والصيانة. ويشكل الإنتاج المشترك بين الولايات المتحدة ومصر لدبابات M1A1 Abrams، والتي بدأ في عام 1988، واحدة من أبرز ركائز تلك المساعدات العسكرية، التي تضمن لمصر تيسيرات لواشنطن، منها مرور القطع العسكرية الأميركية في قناة السويس بيسر في أي وقت.كما تنص الاتفاقية على أن لا يجري تحويل المساعدات في شكل أموال سائلة للقاهرة، ولكن يجري تحويل المبالغ إلى حساب ببنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، ثم يقوم البنك بتحويل المساعدات إلى الصندوق الائتماني في وزارة الخزانة، ومنه إلى المقاولين والموردين التابعين للجيش الأميركي، لتقوم الأطراف المتعاقدة، وبعضها مجموعات متعددة الجنسيات، مع شركات تابعة لها في الولايات المتحدة بتنفيذ توريد الأسلحة والمعدات، بما يعني أن المساعدات العسكرية لا تذهب نقدا إلى القاهرة وإنما إلى شركات أميركية، الأمر الذي يساعد على خلق وظائف داخل الولايات المتحدة.
نهاية حصانة المساعدات العسكرية
لم يكن الجدل الأميركي بشأن تقليص المساعدات الاقتصادية المقدمة لمصر وليد الموجة الثورية التي شهدتها مصر في نهاية يونيو الماضي وما تلاها من تداعيات في الثالث من الشهر الذي تلاه، وإنما يعود إلى عام 1948، حيث بدأت تثار التساؤلات داخل أروقة السياسة الأميركية حول جدوى استمرار تلك المساعدات. وبمرور الوقت صارت تجرى مناقشة سنوية حولها داخل الكونغرس كلما حان موعد مناقشة الميزانية السنوية، أو قدم أحد النواب سؤالا أو استجوابا في هذا الصدد.
وفى أواخر عام 1998، بدأت الإجراءات العملية لتقليص المساعدات، حينما قرر الكونغرس البدء في تقليص تدريجي للمساعدات الاقتصادية لمصر بمقدار 40 مليون دولار سنويا على مدار عشر سنوات. وبالتالي، خفضت مساعدات صندوق دعم الاقتصاد المصري من 815 مليون دولار عام 1998 إلى 411 دولار في 2008. وفى 2006، ثم حاول الكونغرس اشتراط ربط المساعدات الاقتصادية لمصر بالتقدم في ملفي حقوق الإنسان والديمقراطية، إلا أن وزيرة خارجية الأميركية آنذاك كوندليزا رايس، حالت دون ذلك. وبناء على طلب من الرئيس السابق بوش الابن، الذي شهدت فترة حكمة توترا في العلاقات مع مبارك، قرر الكونغرس قطع نصف المساعدات الاقتصادية لتصبح 200 مليون دولار عام 2009، سعى أوباما عند توليه السلطة لإضافة 50 مليون دولار إليها لتبلغ 250 مليون دولار منذ عام 2010. وبأغلبية 83 مقابل 13 عضوا، رفض مجلس الشيوخ الأميركي، مشروع قانون تقدم به السيناتور الجمهوري، راند بول، العام الماضي لوقف المساعدات الأميركية إلى مصر، وتحويلها إلى تمويل مشروعات محلية للبنية التحتية في الولايات المتحدة اعتبارا من عام 2014.
وبعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي في الثالث من يوليو الماضي، بدأ الحديث عن تقليص المساعدات الأميركية لمصر يلامس الجانب العسكري منها بشكل صريح للمرة الأولى، حيث طرحت عشرات من مشاريع القوانين لتقليص المساعدات العسكرية بواقع 200 مليون دولار وتحويلها إلى مساعدات اقتصادية سنوية. وفى سابقة قد تكون هي الأولى من نوعها منذ إقرارها في عام 1978، اشتدت وطأة الجدل حول المساعدات العسكرية الأميركية لمصر بعدما أعلن الرئيس أوباما يوم الثالث من يوليو الماضي عن وضع ملف المساعدات الأميركية لمصر برمته قيد المراجعة، وأن إدارته تدرس تعليق نحو 585 مليون دولار منها إلى أن يتم إجراء مراجعة أوسع لمجمل السياسة الأميركية حيال القاهرة. وبعد جدل حامي الوطيس دارت رحاه داخل أروقة صنع السياسة الأميركية، لم يخل من انقسام وتردد ومراوغة في هذا الخصوص، اهتدت إدارة أوباما إلى تقليص جزئي ومرحلي لمجمل المساعدات المقدمة إلى مصر سنويا.
أما جزئية هذا التقليص، فتكمن في أنه لم يشمل كافة مناحي وبنود تلك المساعدات، حيث أكدت وزارتا الخارجية والدفاع الأميركيتين أن واشنطن، بعدما أعلنت في منتصف أغسطس (آب) الماضي وقف مناورات عسكرية مشتركة مع مصر، أرجأت تسليم الجيش المصري أربع مقاتلات من طراز «إف 16»، فضلا عن تعليق تزويده بمروحيات أباتشي وصواريخ «هاربون» وقطع غيار لدبابات «إيه 1 إم 1» الهجومية، إضافة إلى وقف تحويل 260 مليون دولار نقدا وضمانات قروض مقررة بقيمة 300 مليون دولار للحكومة المصرية، في انتظار إحراز تقدم ذي صدقية نحو حكومة مدنية منتخبة ديمقراطيا. هذا بينما سوف تستمر واشنطن في تقديم الدعم المالي للقضايا التي تخدم الأهداف الأمنية الحيوية للجانبين، بما في ذلك مكافحة الإرهاب وانتشار الأسلحة وتأمين الحدود والأمن في سيناء، كما ستميز ما بين المساعدات التي تذهب مباشرة إلى السلطات المصرية والمعدات التسليحية القتالية للجيش، وتلك التي تذهب إلى المنظمات غير الحكومية وبعض المجالات غير العسكرية كالتعليم والصحة والبيئة والتنمية البشرية.
وأما مرحليته، فتتجلى في كونه موقوتا إلى حين تأكد واشنطن من استعادة مصر لمسيرة الديمقراطية وضمان احترام حقوق الإنسان. ورغم أن إدارة أوباما لم تعلن صراحة عن اعتبار عزل الجيش المصري للرئيس المنتخب محمد مرسي «انقلابا» عسكريا، مكتمل الأركان، إلا أنها ما برحت تدين ما تراه قمعا بحق أنصاره وتطالب بضرورة رفع حالة الطوارئ التي أعلنتها السلطات المصرية المؤقتة وتنفيذ خارطة المستقبل التي تتضمن وضع دستور جديد وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية ديمقراطية صيف العام الحالي.
المساعدات كضرورة أميركية
بقدر ما تمثله المساعدات الأميركية لمصر من أهمية، إذ ساهمت في مشروعات البنية الأساسية والتعليم والصحة والبيئة علاوة على تحديث الجيش المصري، فإنها تعد ضرورة استراتيجية لواشنطن من زوايا شتى، كما أورد تقرير قدمه للكونغرس المكتب الأميركي لمحاسبة الإنفاق الحكومي.
أولاها: تعمل المساعدات العسكرية على ضمان تحقيق ثلاثة أهداف أميركية حيوية بمنطقة الشرق الأوسط، تتمثل في: الحفاظ على حالة الاستقرار في المنطقة، فضلا عن الوفاء بالالتزام الأميركي بحماية أمن إسرائيل، كون هذه المساعدات مرتبطة بمعاهدة السلام التي وقعتها القاهرة مع تل أبيب عام 1979، علاوة على ضمان استمرار «تعاون ذي ثقل» بين وزارة الدفاع الأميركية والسلطات المصرية فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب في سيناء.
وثانيتها: استبقاء واشنطن للمعاملة الخاصة التي تحظى بها سفنها عند مرورها في قناة السويس بما يضمن أولوية وسرعة هذا المرور في الوقت الذي تنتظر الدول الأخرى لأسابيع قبل السماح لسفنها بالمرور. ووفقا لتقرير مركز أبحاث الكونغرس، منحت مصر تصاريح على وجه السرعة لزهاء 861 بارجة حربية أميركية لعبور قناة السويس خلال السنوات القليلة المنقضية، وقامت بتوفير الحماية الأمنية اللازمة لعبورها.كذلك، لا تلتزم السفن الأميركية التي تحمل أسلحة نووية، سواء كانت سفنا أو غواصات، بإبلاغ السلطات المصرية قبل 30 يوما من مرورها، حيث تمر قرابة 12 سفينة حربية ونووية أميركية شهريا عبر القناة، التي تعد المنفذ الأساس لوصول القطع الحربية الأميركية إلى العراق وأفغانستان، دون أن تضطر كبقية دول العالم إلى أن تسلك طريق رأس الرجاء الصالح عند إرسال مثل هذا النوع من الناقلات.
وثالثتها، تحظى واشنطن بتسهيلات عسكرية تقدمها لها مصر كفتح المجال الجوي المصري أمام المقاتلات الأميركية، وخلال الفترة من 2001 - 2005، سمحت القاهرة 36553 مرة بعبور طائرات عسكرية أميركية الأجواء المصرية، حسب دراسة أجراها الجهاز الحكومي الأميركي للمحاسبات عام 2006، هذا مع الأخذ في الحسبان أن تلك الفترة الزمنية شهدت بدء الحرب الأميركية في أفغانستان عام 2001، ثم في العراق عام 2003. كما فتحت مصر مجالها الجوي لعبور المقاتلات الأميركية نحو 2000 مرة خلال عام 2013 وحده.
ورابعتها، تتيح المساعدات الأميركية حيزا من التأثير لواشنطن في القرار المصري بما يخدم المصالح والأهداف الأميركية. حيث يرى خبراء استراتيجيون أميركيون أن تلك المعونات تعد المصدر الأساس لقدرة واشنطن على التأثير في ما قد يحدث بمصر بما يتوافق مع المصالح الأميركية، محذرين من أن قطع المعونة أو التهديد بذلك سيفقد أميركا نفوذها في مصر، ويوجه ضربة قاصمة للمصالح والسياسات الأميركية في المنطقة.
وخامستها، احتفاظ صناعة السلاح الأميركية بالعوائد الاقتصادية المهمة جراء مبيعات السلاح للجيش المصري والتي تأتي ضمن حزمة المساعدات العسكرية لمصر، فهناك ست منشآت صناعية عسكرية أميركية تستفيد من هذه المساعدات ولن تقبل بأي تقليص لمبيعاتها من السلاح لمصر سنويا حتى لا تتراجع أرباحها أو ترتبك سياسات التوظيف بها. وعادة ما تقوم الشركات العاملة في مجال الصناعات العسكرية والمتعاقدة لتنفيذ صفقات الأسلحة لمصر بإرسال فريق من جماعات الضغط لزيارة أعضاء الكونغرس وإقناعهم باستمرار المساعدات العسكرية الأميركية لمصر، حرصا على فرص العمل وخطوط الإنتاج التي قد تتعرض للخطر حالة تعليق أو قطع جزء من برنامج المساعدات العسكرية لمصر.
وباعتمادها لمثل ذلك التقليص الجزئي والمرحلي، واستبقائها المساعدات الخاصة بجهود مكافحة الإرهاب والأمن في سيناء وحظر انتشار الأسلحة، وإزالة الألغام، ومراقبة تجارة المخدرات الدولية والجريمة المنظمة، إضافة إلى دعم تدريب الشرطة في مجال احترام حقوق الإنسان وإنفاذ القانون، تكون واشنطن قد أدركت مستوى معقولا من التوازن ما بين آراء المثاليين ومواقف الواقعيين في الإدارة. فلقد استرضى تجميد إدارة أوباما شطرا من المساعدات العسكرية بسبب ما جرى يوم 3 يوليو الماضي، والذي تجنب أوباما وصفه بالانقلاب العسكري، المثاليين المتمسكين بالمبادئ الويلسونية وضرورة دعم واشنطن لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، والذين ينتابهم قلق وتشكك حيال طريقة وملابسات الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر وما تمخضت عنه من تداعيات سياسية.
ومن زاوية أخرى، سيحقق الفريق الواقعي مكاسب مهمة في علاقاته بمصر كحمل الإدارة الانتقالية الحالية فيها على الالتزام بالنهج الديمقراطي وعدم إقصاء فصائل الإسلام السياسي، فضلا عن تقويض المساعي المصرية الرامية إلى تحقيق تنوع في مصادر التسليح، وإنهاء الاحتياج التام والدائم للولايات المتحدة في هذا المضمار، لا سيما وأن المساعدات الأميركية العسكرية لمصر لا تضمن لجيش الأخيرة التفوق على نظيره الإسرائيلي، حيث تتبنى واشنطن استراتيجية تتيح لإسرائيل الحصول على ثلاثة مليارات دولار مقابل كل مليارين يمنحان لمصر، فضلا عن التزام واشنطن بضمان استمرار «التفوق العسكري النوعي» لإسرائيل، والذي يلزم الأميركيين بعدم بيع أية أسلحة أميركية أكثر تطورا مما تحصل عليه إسرائيل لأية دولة أخرى في الشرق الأوسط.
تمرد مصري
بينما كان السخط الشعبي على المساعدات الأميركية لمصر هو الأكثر وضوحا طيلة العقود القليلة المنقضية، شكل الرد المصري الرسمي على تجميد واشنطن لقسط من المساعدات المقدمة للقاهرة أخيرا مفاجأة من العيار الثقيل، فبعدما أدانت ذلك التوجه الأميركي، أبدت استعدادا جادا للتنازل عن تلك المساعدات، بشقيها الاقتصادي والعسكري، كما أعلنت البدء في مراجعتها وتقويم جدواها الحقيقية. وأكدت القاهرة رفضها تحول المساعدات إلى أداة ضغط عليها أو ابتزاز لها، وفيما أورد الموقع اليهودي الأميركي «جيويش ويكلي» أن المساعدات الأميركية أفرزت حكومة وجيشا مصريين يدينان بالولاء للمصالح الأميركية، مما يجعل اعتمادهما على تلك المساعدات حائلا دون التمتع بكامل استقلاليته، حسب الوثائق الرسمية الأميركية، فقد ظهرت الدعوات المصرية للتحرر من إسار تلك المساعدات، كما ظهر الحديث عن ضرورة الاستغناء عن المساعدات الأميركية حماية لسيادة الدولة وصونا لاستقلالية القرار الوطني، كما توالت مبادرات شعبية لجمع التبرعات للاستغناء عن تلك المساعدات، التي لا يساور المصريين أدنى شك في أن تكلفتها السياسية قد فاقت بكثير جدواها الاقتصادية.
وبدوره، وصف السفير بدر عبد العاطي، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، قرار تجميد قسط من المساعدات الأميركية لمصر بـ«الخاطئ» وطالب الجانب الأميركي بمراجعته. وأكد أن الجانب المصري يرفض استخدام الولايات المتحدة لأداة المساعدات العسكرية، للضغط على القرار المصري الداخلي، مشيرا إلى أن الحكومة المصرية ملتزمة بتنفيذ خارطة الطريق، ليس إرضاء للولايات المتحدة، بل للشعب المصري الذي وافق عليها وأيدها، على حد قوله. وأكد أن الجانب المصري يجري الآن عملية مراجعة للعلاقات مع الولايات المتحدة، مشيرا إلى أن المساعدات العسكرية تحتل الأولوية في عملية المراجعة تلك.
ورغم أهميتها للجيش المصري، يؤكد خبراء استراتيجيون أميركيون أن تقليص المساعدات العسكرية الأميركية لن يضيره كثيرا، إذ دأبت مصر على إيجاد بدائل للاعتماد على التسليح الأميركي كاستيراد أسلحة من أسواق أخرى وتنويع مصادر التسليح المصري. بل إنه من الممكن لمصر الاستمرار الجزئي في شراء أسلحة من نفس الموردين الأميركيين الذين تعتمد عليهم حاليا لكن من ميزانية الدولة المصرية بدلا من المساعدات العسكرية الأميركية. يضاف إلى ذلك أن شركات السلاح الأميركية التي تشكل «لوبى» ذا نفوذ بالكونغرس ستحرص على استمرار بيع سلعتها لعميلها المصري. وبدورهم، أكد خبراء عسكريون أميركيون أن مصر لديها قدرة على الاحتفاظ بالحد الأدنى من الاستعداد بغير مساعدة من الولايات المتحدة، فكونها تعد الأقوى في العالم العربي بالفعل، حسب مؤسسة «غلوبال سيكيوريتى»، المتخصصة في أبحاث الشؤون العسكرية، سيكون في وسع الصناعة الحربية المصرية إنتاج كثير من قطع الغيار الخاصة بالأسلحة الأميركية المستوردة.
وعلاوة على ما سبق، وجه التوجه المصري شرقا نحو روسيا صفعة قوية لواشنطن كان لها بالغ الأثر في دفع واشنطن لحسم الجدل الداخلي فيها وإعادة حساباتها فيما يخص المساعدات المقدمة للقاهرة، حيث استبدت بإدارة أوباما مخاوف هائلة على خلفية مساعي القاهرة وموسكو لإعادة تفعيل التعاون العسكري بينهما، مثلما تجلى في الإعلان مؤخرا عن بيع موسكو للقاهرة 24 طائرة عسكرية مقاتلة متطورة من طراز «ميغ - 35»، والتي لم تكن منبتة الصلة بالزيارة التاريخية التي قام بها وزيرا الدفاع والخارجية المصريان إلى موسكو في فبراير (شباط) الماضي، وما تخللها من تصريحات الرئيس الروسي بوتين، الداعمة لترشح السيسي لانتخابات الرئاسة المقبلة حتى قبل إعلان ترشحه رسميا، الأمر الذي أثار انتقادات أميركية رسمية، كونها المرة الأولى منذ أكثر من عقود أربعة خلت، التي يسعى فيها رئيس مصري محتمل للحصول على دعم سياسي دولي من خارج المعسكر الغربي.
ومن جانبها، اعتبرت شبكة «فوكس نيوز» الأميركية هذا التطور محاولة من بوتين لاستعادة نفوذ بلاده في الشرق الأوسط عبر مصر، من خلال الدعم السياسي والعسكري للقيادة المصرية الجديدة. وبدوره، ارتأى الكاتب الأميركي توماس فريدمان في مقال له بصحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية مطلع مارس (آذار) الماضي أن اللقاء الذي جمع السيسي وبوتين في موسكو، والذي وصفه «بلقاء الأقوياء»، قد ذكره باللقاء الشهير الذي شهدته العاصمة الروسية خلال ستينات القرن الماضي بين الزعيمين الراحلين، المصري جمال عبد الناصر والسوفياتى خروتشوف.
ولا يمكن إغفال أهمية الدور المحوري الذي لعبته السعودية والإمارات والكويت في دعم الموقف المصري بهذا الصدد، حيث أفضى عدم انصياع تلك الدول للضغوط الأميركية الرامية إلى ثنيها عن دعم مصر اقتصاديا، ومضيها قدما في ضخ مليارات الدولارات للقاهرة عوضا عن تقليص المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأميركية، إلى تقوية الموقف التفاوضي المصري والحيلولة دون انكشاف السلطات المصرية سياسيا واقتصاديا إزاء الضغوط الأميركية، الأمر الذي أتاح للمصريين حيزا أوسع للمناورة وقدرة أكبر على مواصلة الصمود والتحدي في مواجهة محاولات الاستتباع والترويض والابتزاز الأميركية.
وفى حين صبت المعطيات سالفة الذكر في مصلحة الجانب المصري، حيث بدأت واشنطن تدريجيا تعيد النظر جزئيا في قرارات التقليص والتجميد للمساعدات الأميركية، بشتى صورها، للقاهرة في مسعى لاستبقاء مغانم أميركية جمة من وراء تلك المساعدات، سيبقى الموقف التفاوضي المصري حيال واشنطن أكثر قوة وأقل انكشافا طالما استمرت الأخيرة في تغليب المنطق المصلحي على التوجه القيمي أو الأخلاقي في التعاطي مع ملف المساعدات السنوية للقاهرة، وطالما بقى الاستعداد العربي لمؤازرة مصر اقتصاديا في محنتها الحالية، وطالما نجحت القاهرة في توظيف ورقة التوجه شرقا نحو الدب الروسي، المفعم بالحماس بشأن استعادة دوائر نفوذه الحيوية في منطقة الشرق الأوسط من جهة، ورد الصفعة للأوروبيين والأميركيين بخصوص ما يجرى في أوكرانيا من جهة أخرى.
غير أن الطرق والآليات التي من خلالها سيجرى إنجاز خارطة المستقبل المصرية، والنهج الذي ستنتهجه السلطات الجديدة في القاهرة فيما يتصل بالسياستين الداخلية والخارجية، سيكون لها الدور الأبرز في تحديد ملامح الشكل النهائي للعلاقات المصرية الأميركية عموما، وفى القلب منها ملف المساعدات بمختلف أنواعها، على وجه الخصوص. وهو الأمر الذي بدا جليا في تصريحات رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأميركي، الجنرال مارتن ديمبسي، يوم 21 مايو (أيار)، حينما أكد للصحافيين خلال زيارته بروكسل لإجراء محادثات مع مسؤولي حلف شمال الأطلسي، أن مستقبل العلاقات العسكرية بين بلاده ومصر سيتوقف على سياسات الحكومة المقبلة وما إذا كانت ستحقق تقدما على صعيد التحول الديمقراطي أم لا، مشددا على أن العلاقات بين جيشي البلدين تحددها المصالح المشتركة من قبيل مكافحة الإرهاب المتزايد في شبه جزيرة سيناء والفوضى المتنامية في ليبيا. لكن ديمسي لم يتورع عن التلويح بأنه لن يتردد في الاعتراض على توريد الأسلحة الأميركية المتطورة التي تحصل عليها مصر لمكافحة الإرهاب، إذا ما تأكد لواشنطن أن القاهرة تستخدمها في انتهاكات حقوق الإنسان في الداخل.