المنهجية الحركية في التعامل مع الفصائل الجهادية

المنهجية الحركية في التعامل مع الفصائل الجهادية

[caption id="attachment_55251796" align="aligncenter" width="620"]جانب من أحد الإعمال الإرهابية التي حدثت في العاصمة السعودية الرياض 2003 جانب من أحد الإعمال الإرهابية التي حدثت في العاصمة السعودية الرياض 2003[/caption]

في كل مرة يستيقظ الناس مفجوعين بنبأ تفجير أو اعتداء إرهابي يحدث في ديارهم تتجه الأنظار نحو الخطاب الحركي الإسلامي باعتباره المتصدر الأعلى صوتاً للشأن العام، كيف سيكون موقفه من هذه الواقعة التي سُفكت فيها دماء بريئة وانُتهكت حرمات الأمن تحت راية "الجهاد والإسلام" ، لكن الأنظار ترجع حسيرة بخطاب متراخ مخلوط بالتفسيرات والتبريرات، والتحوط، والشروط وربما الإملاءات بعد الإدانة والاستنكار.

في حين أن هذا الخطاب المتراخي يختفي تماماً، ويصبح صريحا حاسماً، حاداً وعنيفاً حين يتعلق الأمر باتجاهات ومذاهب فكرية أخرى، لم يسفك أصحابها دماء بريئة أو يروعوا الآمنين، بل كل جرمهم أنهم طرحوا أفكاراً مختلفة تطالب بالمراجعة والتغيير!

المسافة الفاصلة بين الخطاب الصحوي والجماعات الجهادية ملتبسة ومرتبكة، فالصحوة تحرص في مجمل خطابها أن تؤكد انفصالها عن جماعات التغيير "المسلح"، فمنهجها وهدفها يقوم على التغيير "السلمي" عبر الدعوة والتربية والتوجيه الديني، إلا أنها في طريقة إدانتها ورفضها لأعمال العنف والتفجير التي تحدث داخل البلاد الإسلامية تثير الحيرة والتساؤل كل مرة، وتتداخل الخطوط الفاصلة بينهما أحيانا، أو تختفي.

في هذا الموضوع نتلمس معالم المنهجية الحركية في التعامل مع الفصائل الجهادية، من خلال مواقف متكررة في الخطاب الحركي السعودي تجاه أعمال العنف والتفجير وبالأخص تلك التي حدثت في السعودية منذ أحداث مايو 2003، وحتى حادثة شرورة في يوليو 2014.

يشكل عنوان كل فقرة خطاً عريضاً ومطرداً في المنهج الحركي في التعامل مع أعمال الفصائل الجهادية.



"لا تستفزوا المجاهدين.. ولا تتعرضوا لهم"





قبيل دخول القوات الأمريكية للعراق في 20 أبريل 2003، أصدر مجموعة من الإسلاميين والدعاة في السعودية بيانًا "استباقيًّا" بعنوان: (الجبهة الداخلية أمام التحديات المعاصرة.. رؤية شرعية)؛ للتعليق على أوضاع المنطقة، وتداعيات الأحداث المتوقعة، وبالأخص فيما يتعلق بالموقف من أعمال "الجهاديين" في الداخل (أي البلاد الإسلامية الآمنة)، أو في مناطق الاحتكاك والمواجهة مع القوات الأمريكية، سواء في أفغانستان، والعراق، أو القوات الروسية في الشيشان، وغيرها، التي تُسمى في المفهوم الإسلامي بـ (جبهات القتال المشروعة).

يشكل هذا البيان وثيقة مهمة لفهم منهج الحركيين السعوديين على وجه العموم من أعمال الفصائل الجهادية، فهو بيان جاء في سياق متجرد من أن يكون ردة فعل لحدث معين، كما أنه -وبحسب ما هدف إليه موقعو البيان- جاء كـ"ملاحظات وتوجيهات استشرافية لما يمكن أن يحدث، من تداعيات الغزو الأمريكي على العراق على الداخل والخارج"، إضافة إلى أن الموقعين عليه جاءوا من أطياف إسلامية متعددة، من أبرزهم (سفر الحوالي، سلمان العودة، ناصر العمر، حمزة الفعر، حاتم العوني، عوض القرني..)، وآخرون، في قائمة شملت أبرز رموز الصحوة في السعودية من السلفية الحركية (السرورية)، وبعضاً من المحسوبين على فكر جماعة الإخوان المسلمين، وعددًا من الإسلاميين المستقلين، برعاية وتنسيق من موقع (الإسلام اليوم) الذي يشرف عليه سلمان العودة.

يؤكد البيان أولاً وابتداءً أن "الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، ماضٍ إلى قيام الساعة، وأن إقامته واجبة على الأمة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً"، داعين حكومات المنطقة إلى "رفض التدخل الأمريكي الغاشم تحت أي غطاء كان، وبكل قوة، فمن أكبر الكبائر على الأفراد والحكومات التعاون مع الحكومة الأمريكية في عدوانها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة"، بعد ذلك يوجِّه البيان حديثه للحكومات والسلطات الأمنية مؤكدًا –بشدة- على تحريم التعرض لـ"المجاهدين"، مطالبًا بعدم ملاحقتهم أو سجنهم أو إيذائهم، "نذكر بحرمة أبناء الإسلام وخاصة من جادوا بدمائهم وأرواحهم في مدافعة العدوان على الأمة في يوم من الأيام. ولذا فلا يصح أن يكونوا مستهدفين بالسجن والمطاردة أو التعذيب والإيذاء، وأعظم من ذلك تمكين أعداء الله من أن يطالوهم بأي نوع من أنواع الأذى".



[blockquote]في بيانات الإسلاميين، الحكومات تتحمل المسؤولية عن أحداث العنف والتفجير حين تسمح بانتشار الفساد ومحاربة الدين لأن "إشاعة المنكر تطرف يدفع لتطرف مضاد"[/blockquote]



يقول البيان بأن الواجب هو "حماية حقوق المجاهدين وحفظ سابقتهم، وألا يستهدفوا بأي نوع من أنواع الأذى الحسي أو المعنوي"؛ لأنهم هم "أهل الاجتهاد والمجاهدة والاحتساب".
ينتقل البيان بعد ذلك موجِّهًا حديثه لشباب الفصائل الجهادية، قائلين لهم: "الجهاد حتى يكون مشروعًا لا بد من استيفاء أسبابه وتحقيق شروطه، وأن يتم النظر فيه من قبل الراسخين في العلم، بعيدًا عن الاجتهادات الخاصة التي قد تمهد للعدو عدوانه، وتعطيه الذريعة لتحقيق مآربه"، يشدِّد البيان على خطر التكفير، وسفك الدماء المحرمة تحت أي تأويل؛ "لأنها تجر المسلمين إلى مواجهات ليسوا مؤهلين لتحملها".

بعد ذلك يعود البيان مرة أخرى إلى الحكومات ليلقي عليها بالمسؤولية واللوم، موجهًا حديثه نحوها، قائلاً : "في الوقت الذي نحذر الشباب الغيورين من الاندفاع في قضايا التكفير، فإننا نؤكد في الوقت ذاته على الحكومات ألا تكون سببًا في تكوين المناخ المناسب لنمو هذه الأفكار، وذلك بإعلان المنكرات، وحماية المحرمات، وإشاعة أسباب الانحراف، فإن إشاعة المنكر تطرف يدفع إلى تطرف مضاد".

يؤكد البيان أيضًا على ضرورة استقبال "الشباب المجاهد المتحمس الغيور" برفق ولين وخفض الجناح لهم، و"الصبر على ما يبدر منهم مما دافعه الغيرة والاجتهاد"، مطالباً الحكومات "فتح باب الحوار العلمي الهادئ، المعزول عن المخاوف الأمنية، والذي بموجبه يمكن طرح الموضوعات ومعالجتها بالروح الشرعية الأخوية".

يمكن القول بأن هذا البيان يُعد بيانًا نموذجيًّا في صيغته التي جاءت شاملة في تحديد موقف الحركيين الإسلاميين من أعمال الفصائل الجهادية، ويمكن تلمس أهم المحددات التي انطلق منها وأكد عليها موقعو البيان، وهي كالتالي:
- التأكيد على مشروعية الجهاد في "الثغور"، وأنه قائم إلى قيام الساعة.
- التحذير من خطر التكفير، والقتل بشبهة التأويل.
- تحريم أعمال العنف والتفجير التي تحدث داخل "البلاد الإسلامية الآمنة".
- التأكيد أن التفجير والعنف لا يحقق المصلحة الدعوية.
- التشديد على تحريم ملاحقة المجاهدين أو سجنهم أو إيذائهم.
- مطالبة الحكومات بالعدل والإنصاف والرفق واللين مع "الشباب الجهادي".
- لوم الحكومات بأن الفساد والمعاصي هو مناخ لنمو أفكار العنف والتطرف.
- المطالبة بإعطاء الإسلاميين المكانة اللائقة.

هذه المحددات والمنطلقات تكاد تكون متكررة ومتقاربة، وحاضرة في أغلب المواقف والبيانات التي تصدر من الشخصيات الإسلامية، سواء المحسوبة على السلفية الحركية (السرورية)، أو الإخوان المسلمين في تعاطيها مع أعمال العنف داخل البلاد الإسلامية وخارجها.




"العنف والتفجير صنيعة المخابرات"





في الخامس من ديسمبر 2013، قام تنظيم القاعدة في اليمن بهجوم على مستشفى العرضي بصنعاء، راح ضحيته 56 شخصًا غالبيتهم من الأطباء والممرضات، إضافة لإصابة 176 من نزلاء المستشفى والعاملين فيه جراء اقتحام انتحاريين ومسلحين لمرافق تابعة لوزارة الدفاع اليمينة، أعلنت السلطات مسؤولية القاعدة عن هذا الفعل، وبثت مقاطع مصورة كشفت عن قيام مسلحين بإلقاء قنابل داخل غرف المرضى والأطفال والنساء، في مشهد لا يمكن تبريره أو تأويله حتى من قبل المنتسبين أو المتعاطفين مع التيارات الجهادية، ولذلك جاء أول رد فعل على هذا الحدث من قبل بعض الحركيين هو في التشكيك في حقيقة الحدث، وتبرئة القاعدة منه، وأن من قام به هو المخابرات اليمنية "من أجل تشويه صورة المجاهدين". الناشط السعودي محمد الحضيف يعلق على الحدث عبر حسابه الشخصي في تويتر: "حين أرفض إلصاق تفجير المستشفى بالقاعدة لا يعني أني مؤيد لهذا السلوك، لكني أرفض أن أؤجر عقلي لدعاية الاستخبارات"، في حين قال الناشط الكويتي شافي العجمي :" من قتل أبناءنا في العرضي، هو نفسه الذي يقتلهم في سوريا، وفي مصر... إنهم الطغاة".
لكن قاسم الريمي، القيادي في "قاعدة اليمن" قطع كل الطرق أمام محاولات تبرئة جماعته من هذا الفعل، حين أعلن في شريط مصور مسؤولية التنظيم عن اقتحام مستشفى العرضي، مبديًا اعتذاره وأسفه عن سقوط "ضحايا غير مقصودين".

[caption id="attachment_55251799" align="alignleft" width="300"]جانب من تمرينات الأمن السعودي لمواجهة الإرهاب جانب من تمرينات الأمن السعودي لمواجهة الإرهاب[/caption]

كان هذا الاعتذار مربكًا ومفاجئًا، فهو يعني أن القاعدة لا غيرها وراء هذا الفعل، فلا مجال للتشكيك في الواقعة، تحول مسار الحديث من قبل بعض الشخصيات المتعاطفة إلى مسار آخر، متسائلين: "اعتذرت القاعدة اليوم عن فعلها، فهل ستعتذر الإدارة الأمريكية عن قتلانا الذين تقتلهم كل يوم بالخطأ".

محاولة تبرئة الجهاديين من أعمالهم، والتشكيك في نسبتها إليهم ليس جديدًا، هو يقترب من أن يكون منهجًا حركيًّا مطردًا في التعامل الأولي مع أي حدث أو تفجير تعلن فيه السلطات الرسمية مسؤولية الفصائل الجهادية عنه، ففي مقال كتبه ناصر العمر -المشرف على موقع المسلم، أحد رموز الصحوة في السعودية- ونشره في موقعه، منتصف مايو 2007 بعنوان (الموقف من التفجير في بلاد المسلمين) يقول: "إن كثيرًا من الأحداث التي لا يمليها شرع ولا عقل ينبغي أن نتساءل عن دوافعها الحقيقية يوم تشير أصابع الاتهام فيها إلى الإسلام، أو إلى شخصيات إسلامية. ينبغي أن نراعي في هذا التساؤل أمورًا منها: هل الخبر جاءت به وسائل إعلامية موثوقة؟ (إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)، فإن كانت موثوقة فهل الحقيقة على ما ذكروا، أم أنهم غُرر بهم وأوهموا أمراً ما تريده جهات متحكمة دون أن يدركوا أبعاد ما فعلوه؟".
ويضيف العمر: "لست أدعو بهذا إلى إنكار الواقع أو الظاهر، لكن يجب النظر في الحوادث بعقل وعلم مع اعتبار القرائن".



إذن .. كيف نتعامل مع أخطاء المجاهدين؟





هذا السؤال طرحه مذيع برنامج "يستفتونك" على قناة (الرسالة)، الذي بُثَّ في منتصف فبراير 2013، على ضيف الحلقة عبدالعزيز الطريفي -أحد الشخصيات العلمية المبرزة بين السلفية الحركية –، حيث تساءل المذيع: "هناك فئة من داخل الأمة وخارجها تستغل أخطاء المجاهدين، هل من بيان لهم، وكيف نتعامل مع هذه الأخطاء؟" فأجاب الضيف: "وجود الأخطاء بين المجاهدين هي من الأمور الفطرية التي توجد حتى في خير الخلق بعد الأنبياء، وهم الصحابة، فقد يوجد من يعتدي على من لا يجوز الاعتداء عليه، حيث وُجد منهم من قتل شيخًا أو امرأة أو طفلاً... لكن وقوع هذه الأخطاء لم يلغِ الأصل، ولذلك في هذا الأمر نقول تُصحح الأخطاء ولكن لا يلغى جانب التشريع، فنكون عونًا للمجاهدين من جهة التصحيح، ولا نكون عونًا للشيطان عليهم، ولا عونًا للشيطان على إلغاء هذه الشعيرة، ولو عدنا وتساءلنا عن سبب وقوع هذه الأخطاء لوجدنا أنها بسبب تعطيل الشريعة من جميع جوانبها، فلنلم أنفسنا أولاً".



"احذروا الإعلام الماكر"





هذا "الإعلام" يشوه "القاعدة"، وينسب إليها أفعالاً وأفكارًا هي منها براء، كما صرح بذلك الداعية السعودي محمد العريفي لقناة (الجزيرة) مطلع فبراير 2013 -تراجع عن موقفه لاحقًا- حيث أكد بأن "المنتمين لتنظيم القاعدة ليسوا من المتساهلين بتكفير المسلمين، وليسوا من المتساهلين في إراقة الدماء.. لقد سمعت كثيرًا من الأفكار الشائعة التي تنسب إليهم، وهذا ليس بصحيح؛ فهم لا يتبنونها، أنا لست من القاعدة، ولكن الله أمرنا بالعدل والإنصاف".



[blockquote]محاولة تبرئة الجهاديين من أعمالهم، والتشكيك في نسبتها إليهم منهج حركي مطرد في التعامل الأولي مع أي حدث [/blockquote]



في ذات السياق يؤكد عبدالعزيز الجليل –من الشخصيات العلمية المبرزة بين السلفية الحركية-، الذي نشر كتابًا بعنوان (التربية الجهادية في ضوء الكتاب والسنة) -صدر عام 2003-، جاء في ختامه فقرة بعنوان (أخطاء بعض المجاهدين لا تعني خطأ الجهاد، ونصحهم يكون بالولاء لهم حتى لا يستغله المبطلون)، وفيه يقول: "إن المجاهدين بشر كغيرهم يخطئون ويصيبون، ولا عصمة لأحد بعد الأنبياء، لكن ينبغي الحذر كل الحذر من الحديث عن أخطاء المجاهدين في منابر عامة قد يفهم منها التعريض بالجهاد والمجاهدين، فقد يكون إبرازها في هذه المنابر مقصودًا لذاته من قبل أعداء الدين وأعداء الجهاد والدعاة؛ وذلك ليوظفوها في مخططهم الماكر في القضاء على الدعاة الصادقين، وتعطيل شعيرة الجهاد والاحتساب، فقد يجد المتحدث عن أخطاء المجاهدين على العلن نفسه في خندق الطواغيت من الكافرين والمنافقين".
ويقدم "الجليل" الطريقة والوصفة التي يمكن من خلالها الحديث عن أخطاء المجاهدين في العلن، "فلو وجد الداعية نفسه مضطرًّا للتعليق على بعض الأخطاء فعليه أن يتحدث بعبارة لا يستغلها الإعلام الماكر، كأن يثني على المجاهدين وأثرهم في إحياء الجهاد والعزة، ودورهم في الدفاع عن بلدان المسلمين وإرهاب الكفار، في الوقت الذي يتولى فيه بالنقد والفضح للأنظمة الطاغوتية التي تتولى الكفار، وتضع نفسها في خندقهم في مواجهة الدعاة والمجاهدين، ثم يشير بعد ذلك إلى ما يراه من ملاحظات وأخطاء قد تصدر من بعض الطوائف الجهادية، وإن كان ثمة عذر يشير إليه، وإن لم يجد فعليه أن يضع الخطأ في حجمه الطبيعي، ويتوجه بالنصح للمجاهدين بعبارات مضمونها الود والشفقة والنصح والولاء".



"التفجير لا يحقق المصلحة.. عليكم بالصبر"





في سياق محاورته للشباب الجهادي حول أعمال العنف والتفجير، كتب ناصر العمر مقالاً نشر في مجلة البيان، شهر مايو 2007، تساءل فيه موجهًا حديثه للمؤمنين بمنهج القاعدة وغيرها من الفصائل الجهادية قائلاً:
"متى كان التفجير وتكفير الأمة وعلمائها سبيلاً للإصلاح؟! هب أن النظام في تلك الدولة لا يطبق الشرع، فما ذنب المجتمع والأمة؟ هل يظن منصف أن تفجير مبنى أو قتل سائح –وإن لم تكن له شبهة أمان- سوف يسقط دولة ويقيم نظامًا؟ ألا يعتبر هؤلاء بتجارب مريرة سبقت، عاد أصحابها يعترفون بخطأ مسلكهم بعد خراب البصرة وضياع البصيرة؟".

يؤكد العمر من خلال هذه التساؤلات بوضوح أن اختلافه ورفضه لهذه الأعمال هو في الوسيلة، وليس في الغاية، فبناءً على قاعدة (جلب المصلحة ودفع المفسدة) -التي يتغير الحكم المبني عليها بتغير الحال والزمان والمكان-، حُرم هذا العمل؛ لأن الوسيلة قد ثبت ضررها وعدم نفعها في تحقيق مصلحة الدعوة، يضيف مؤكدًا: "إننا لا ندعو إلى إقرار الباطل، ولا إلى ترك الاحتساب عليه أو الاستسلام له، ولكن يجب أن يكون ذلك بسبيل مشروع... فحتى إذا توافر شرط الخروج على الحاكم، فلابد من اعتبار المصلحة والمفسدة المرتبة عليه، والتي لا تتصور أبدًا في تفجير مبان أو مرافق عامة، ولا في قتل أشخاص مستأمنين، أو لهم شبهة أمان".

يشابه ذلك الموقف الذي نحاه الناشط السعودي إبراهيم السكران في يوليو 2014 معلقا على تساهل بعض الشباب في إدانة حادثة شرورة – حين اقتحمت مجموعة إرهابية منفذ الوديعة الحدودي مع اليمن- مؤكداً أن هذا ينافي مصلحة العمل الإسلامي، فقد يؤدي هذا التساهل إلى "اعتقال الأخيار وتجفيف المنابع وتمكين التغريبيين".



"التفجيرات ردة فعل لغياب الإصلاح السياسي"





في غالب مواقف وبيانات الإسلاميين التي تعلق على أحداث العنف والتفجيرات لا يأتي الاستنكار والإدانة لهذه الأعمال مجردًا، بل يأتي مصحوبًا بمجموعة من المطالب والشروط والإملاءات التي من شأنها أن تسهم في "حماية المجتمع من حدوث أعمال العنف والتطرف مرة أخرى".

في حلقة من برنامج (بلا حدود) بالخامس من نوفمبر 2003، قدم سفر الحوالي -أحد رموز الصحوة في السعودية- "مبادرة لوقف العنف"، تعليقًا على تفجيرات القاعدة التي حدثت في الرياض 2003، قام فيها بدور الوسيط، فقال: "لدي كلمتان ونصيحتان أقدمهما لكلا الطرفين، أعني الإخوة المنتسبين للجهاد من جهة، والحكومة وقيادة البلد من جهة أخرى".



[blockquote]استنكار أعمال القاعدة في بيانات ومقالات الحركيين السعوديين لا يأتي مجردا بل مصحوباً بحزمة من المطالب والشروط الإملاءات[/blockquote]



طالب الحوالي من أسماهم "الإخوة المنتسبين للجهاد" بأن يعلنوا مبادرة صريحة لوقف العنف، وحقن الدم، وأن يتعظوا بفشل تجارب الجماعات الإسلامية التي سلكت ذات المسلك في مصر والجزائر، ومروا بتجارب مريرة من انتهاج مسلك العنف، و"أذكِّر الجميع ونفسي بالمنهج النبوي في التغيير، فالنبي وأصحابه لم ينتقموا لأنفسهم، لم يتعجلوا لإقامة الدين، الأصنام نفسها لم يحطموها، وكانوا يتعبدون وهي حول الكعبة وفيها، لم يغتالوا أحدًا من المشركين قبل الإذن بالجهاد وقبل الهجرة، وقد كان ذلك ممكنًا لهم، وهم أشجع الخلق وأكثرهم حبًّا للجهاد".
بعد ذلك وجَّه الحوالي حديثه ومطالبه للطرف الآخر (الدولة) قائلاً: "والآن سأقول للدولة كلامًا لابد أن أقوله، كلمة حق لا خير فينا إن لم نَقُلْها، ولا خير فيهم إن لم يسمعوها.. حتى نتفاهم جميعًا ونتعاون على إيقاف هذا العنف، والخروج من هذه الأزمة الخانقة، وسأعرض هذه المطالب بإيجاز:
- عفو عام عن جميع المعتقلين وعن جميع المطلوبين الذين يسلمون أنفسهم.
- محاكمة المحققين الذين امتهنوا كرامة المعتقلين بالتعذيب والقذف والتجريح.
- إعادة جميع الأئمة والخطباء المفصولين إلى أعمالهم، وسماع كلمة الحق منهم.
- يجب أن تلغي الدولة كل القوانين الوضعية، وتتحاكم فعلاً إلى الشريعة، وتعدِّل نظام القضاء، وتلغي المعاهدات والولاءات غير الشرعية، وتزيل المنكرات التي تستفز هؤلاء، وتمنع الكُتَّاب الذين يتطاولون على الدين.
- على الدولة مقاومة الضغوط التي تهدف تغيير عقيدتنا وديننا وإيجاد الفرقة بيننا، وتضع يدها في يد العلماء.
- التراجع عن بعض القرارات الخاطئة الأخيرة، مثل دمج وزارة المعارف برئاسة البنات، وتغيير المناهج الدينية".
تفاجأ المذيع من هذه الشروط وقال: "هذا انقلاب وليست مجرد مطالب".
لكن ختم الحوالي حديثه ومبادرته في البرنامج ملوحًا بمطالب أكبر: "هناك مشروع إصلاحي كبير نحن نريد أن نعرضه ونقدمه على الدولة... وعلى الحكومة أن تقدم مبادرة للمفاهمة، وتتعظ وتعتبر بما حدث للحكومات الأخرى، التي أخذها نوع من الكبر، أو فوَّتت الفرصة في المبادرة والعفو، هم الآن إما خارج التاريخ، وإما يبحثون عن مخرج بأثمان أضعاف مضاعفة عما كان مطلوبًا منهم".

الموقف ذاته جاء واضحًا في مقال للشيخ سلمان العودة – أحد رموز الصحوة في السعودية، المشرف على موقع الإسلام اليوم– بعنوان (التفجير وتداعياته) في 16 مايو 2003، -منشور في موقعه-، حيث أكد في البدء أن "الموقف المبدئي الشرعي الصريح يجب أن يكون قدرًا مشتركًا لدى جميع المؤمنين والعقلاء برفض هذا العمل وتحريمه، وإدانته شرعًا"، لكنه أضاف مستدركًا: "هذه الإدانة يجب ألا تكون محاولة لتبرئة النفس من الاتهام، وكأن المتحدث يريد أن يبعد التهمة عن شخصه فحسب!".

وبعدها ساق العودة –كزملائه- مجموعة من المطالب والشروط التي من شأن تحقيقها حماية المجتمع من تكرار أعمال العنف والتفجير مرة أخرى، فقال: "إن المجتمع العادل -الذي يتمتع بالحقوق والحريات المضبوطة بضابط الشرع فحسب- هو مجتمع محروس بعناية الله، محفوظ من الانسياق وراء الاعتبارات الخاصة، والرؤى الضيقة... فالمعروف أن أساليب التعبير العنيفة -ومنها القتل، والتفجير، والاغتيالات- تأتي عادة في ظل انسداد السبل الطبيعية، وعدم قدرة الناس, أو فئة منهم على التعبير والحوار الحرِّ؛ ويعمقها الشعور بالغبن، والحيف، والظلم، والتهميش!"، ولذلك "يجب صناعة الجو والمناخ الصالح؛ الذي تشيع فيه روح العدالة والإنصاف، وتحفظ فيه حقوق الناس كافة... لأن أفضل الفرص لنشوء وانتشار الفكر المنحرف؛ هي الأجواء المغلقة الخانقة".

طالب العودة الحكومة بإصلاح أحوال الشباب وتلبية احتياجاتهم، فـ "أكثر من 60% من الشعب السعودي؛ هم من الشباب دون سن العشرين. وهؤلاء يكادون أن يكونوا محرومين من الفرص التي يستحقها أمثالهم؛ من الناحية المادية والوظيفية. فالشباب قنبلة موقوتة، مرشحة للانفجار في أي اتجاه! وعلينا ألا ننتظر لكي تقع المشكلة حتى نعالجها؛ بل أن نمتلك رؤية مستقبلية ناضجة؛ تستطيع أن تقرأ أثر المتغيرات، وأن ترسم الحل، وأن تنفذه... ونحن دولة نفطية؛ لديها إمكانيات مادية هائلة، وخبرات بشرية جيدة، ومساحات متسعة من الأرض، ومستقبل واعد إذا توفرت الإرادة للإصلاح". يختتم العودة حديثه قائلاً: "إن الحدث ناقوسُ خطرٍ يعلن عما وراءه! وعلينا أن نفهم الرسالة جيداً".
font change