
لا نذيع سرا إذا قلنا إن إسلاميي حركة النهضة هم اللاعبون الحقيقيون في ملف ترشيح المرزوقي وهم الذين قاموا أساسا بالتعبئة له رغم أن حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» للمرزوقي لم يصل إلى عتبة الـ4 في المائة من الأصوات في الانتخابات البرلمانية التي جرت يوم 26 أكتوبر (تشرين الأول) 2014.
فكيف كانت مجريات الحملة الانتخابية؟ وكيف تفاعل التونسيون معها؟ وما ملامح السياسة الخارجية المنتظرة للجمهورية التونسية الثانية؟.
قبل الانتخابات التشريعية حاولت حركة النهضة التي كانت تعتبر آنذاك الحزب الأول في البلاد أن ترسم مسبقا مسار الانتخابات الرئاسية والتشريعية فأصرت على أسبقية الانتخابات التشريعية ظنا منها أنها ستحقق انتصارا هاما في البرلمان يمكنها من فرض أجندتها في اختيار المرشح الرئاسي القادم. وكان حزب نداء تونس على العكس من ذلك يطالب بأسبقية الانتخابات الرئاسية على التشريعية، لكن حسم الأمر في البرلمان لفائدة النهضة باعتبار الأغلبية التي كانت لدى حكومة الترويكا. وبدأت ماكينة الإسلاميين تشتغل إعلاميا وتنظيميا وميدانيا منذ صائفة 2014. وكانت حملات النقد والتشكيك والتجريح في مرشح حزب نداء تونس الباجي قايد السبسي لا تنتهي. كانت حسابات النهضة، السيطرة على البرلمان، وعدم الترشح للرئاسة بمرشح لها بل بمرشح يخدم أجندتها وذلك بالتسويق لفكرة أنها لا تريد أن تتغول، أي أنها لم تُسقط من حساباتها انتخابات الرئاسة، بل سعت أن توجه بوصلتها في اتجاه اختيار مرشح قريب منها، ولم تُجْد كل هذه الترتيبات نفعا، إذ حصل «نداء تونس» على المرتبة الأولى في التشريعية وقدم مرشحه للرئاسة الباجي قايد السبسي ضمن 27 مرشحا.
مجريات الحملة الانتخابية
كانت الحملة الانتخابية الرئاسية أقل حرارة من التشريعية لكن طغت عليها الجرأة والتحدي في الخطاب من أطراف كثيرة. واختار 4 مرشحين الانسحاب في وسط الحملة إدراكا منهم بصعوبة مواصلة المشوار. واشتدت المنافسة بين السبسي والمرزوقي على صفحات الجرائد والإذاعات والتلفزات. وكانت تطغى عليها أحيانا لغة التشنج.
[caption id="attachment_55252567" align="alignleft" width="212"]

من خصوصيات هذه الانتخابات أن التنافس بين الرجلين لم يكن قائما على اختلاف حول برنامج الحكم بل كان التباين قائما حول نمط المجتمع. فالمرزوقي، وبحكم دعمه الواضح من الإسلاميين والسلفيين اعتبر لدى الرأي العام مُعبرا عن تطلعات وطموحات هذه الشريحة لدرجة أن المرزوقي استعمل مفردات هذه الجماعة مثل مصطلح «الطاغوت» واضطر بعد حملة الإعلام ضده أن يعتذر عن استعمال هذه الكلمة.
لقد كان خوف النهضة وحلفائها حقيقيا من إفلات كرسي الرئاسة من دائرة نفوذهم. وفي المقابل كان السبسي مرشح نداء تونس يسعى إلى طمأنة الرأي العام من عدم وجود خطر التغول.
[inset_left] كيف ستكون علاقات تونس مع الخارج خاصة مع محيطها المغاربي والعربي والدولي؟[/inset_left]
أما بقية المرشحين فيمكن التأكيد على أن عددا محدودا منهم تمكن من الحصول على نسبة محترمة من الأصوات في مقدمتهم الجبهة الشعبية ذات الطابع اليساري التي حصلت على ما يقرب من 10 في المائة من الأصوات، وسليم الرياحي الليبرالي الشاب الذي حصل على ما يقارب 7 في المائة.
وتكاد تكون الانتخابات الرئاسية متطابقة مع ما انبثقت عنه الانتخابات البرلمانية منذ شهر باستثناء المرشح المرزوقي الذي لم يحصل حزبه سوى على 4 مقاعد من 217 مقعدا في البرلمان الجديد، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن حركة النهضة كانت هي المنافس الخفي للسبسي. كما أظهرت الانتخابات الرئاسية الضعف الفادح لبقية المرشحين سواء من العائلة الدستورية مثل كمال مرجان والمنذر الزنايدي أو من الأحزاب الموجودة قبل الربيع العربي والمعروفة بمعارضتها للرئيس بن علي مثل الحزب الجمهوري لنجيب الشابي وحزب التكتل لمصطفى بن جعفر أحد عناصر الترويكا ورئيس المجلس التأسيسي بعد الثورة التونسية. ويمكن القول إن تقدم السبسي في هذه الانتخابات الرئاسية، رغم انتمائه للنظام القديم يعود إلى أن الحزب الذي أسسه بعد الثورة اشتمل على 4 روافد: دستورية (تنتمي للحزب الحاكم قبل الثورة) ويسارية وليبرالية حداثية ونقابية وقد حرص السبسي على أن لا يقبل في صفوفه الدستوريين المتعلقة بهم قضايا فساد أو تعذيب. وقد أعطت هذه الروافد لحزب «حركة نداء» تونس طابع الحزب البراغماتي والحداثي والمتصالح مع هوية عربية إسلامية حداثية وهو ما يفتقد إليه نسبيا منافسوه.
النتائج الأولى المستخلصة من هذه الانتخابات
أهم درس في هذه الانتخابات أن الأحزاب الدستورية على شاكلة حزب التجمع الدستوري للرئيس الأسبق زين العابدين بن على وهي 4 أحزاب لم تعد لها شعبية إطلاقا، وهو ما أظهرته الانتخابات البرلمانية والرئاسية في دورتها الأولى (3 مقاعد في البرلمان الجديد وأقل من 1 في المائة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية). أما الإسلاميون فقد حافظوا على نفس ترتيبهم سواء في الرئاسية (من خلال دعم المرزوقي) أو التشريعية. ولا بد أن نشير إلى أن المفاجأة في الانتخابات التونسية هذه المرة تتمثل في مشاركة امرأة معروفة بمواقفها الحقوقية الصلبة ضد حكم بن علي هي القاضية كلثوم كنّو وهي أول امرأة تترشح لهذا المنصب السياسي رغم أنها لم تتحصل على نسبة محترمة إلا أن جرأتها في الترشح وخوض الحملة الانتخابية بموارد محدودة سيؤهلها للعب أدوار في الفترة القادمة وربما في مجال تعزيز استقلالية السلطة القضائية.
لقد تضمنت برامج المرشحين للرئاسة وعودا كثيرة صعبة التحقيق مثل المطالبة بتغيير العاصمة من تونس إلى القيروان مثلما طرحه المرشح الهاشمي صاحب قناة المستقلة والذي لم يتعد عتبة الـ3 في المائة من الأصوات، وللإشارة كان حزب الحامدي المعروف في انتخابات 2011 باسم العريضة الشعبية مصنف كثاني حزب في البلاد.
[caption id="attachment_55252566" align="alignright" width="200"]

لقد أحس التونسيون لأول مرة منذ الاستقلال بطعم الانتخابات سواء كانت تشريعية أو رئاسية، فالنتيجة لم تعد تُعرف مسبقا. وهو ما جعل تفاعل التونسيين مع هذه الانتخابات كبيرا. فعلى الرغم من أن صلاحيات رئيس الدولة أقل من صلاحيات رئيس الحكومة، وهو ما سعت حركة النهضة بقوة إلى إقراره في القانون الانتخابي الجديد، فإن الرهان على الرئاسية كان هاما أيضا، فمسؤولية الرئيس في الأمن والدفاع والسياسة الخارجية تجعل منه شخصية محورية. إن حاجة تونس إلى دبلوماسية جديدة أمر في غاية الأهمية، دبلوماسية تُعيد الاستثمار وتلمع صورة تونس في الخارج بعد رواج الصورة التي قدمتها كأول بلد مصدر للإرهاب.
ورغم الوعود التي قدمها كل المرشحين في خصوص إعادة هيبة الدولة فإن عددا قليلا منهم استطاع أن يقنع بأدائه، وبالتالي فإن حسم اختيار الناخبين اعتمد مقياس الكاريزما والصدق والخبرة في نسج التحالفات. ولم يعتمد مضمون البرامج نظرا لتقاربها الشديد، بيد أن بعض المرشحين تميز بأداء مميز، فالسبسي طرح نقاطا محدودة ومعبرة مثل الارتقاء بنسبة النمو العام للاقتصاد إلى 6 في المائة وتخفيض نسبة البطالة بإحداث 90 ألف موطن شغل سنويا، أما المرزوقي فكان خطابه الانتخابي يرتكز على مضمون سياسي أكثر من المضمون الاقتصادي، من ذلك مثلا مطالبته بمحاربة ما يسميه بأزلام النظام السابق والدفاع عن أهداف الثورة.
وإذا استثنينا المرشح المنسحب مصطفي كمال النابلي محافظ البنك المركزي السابق الذي حاول أن يقدم وصفة جيدة عن شروط الانتعاش الاقتصادي فإن أغلب خطابات المترشحين حملت طابعا روتينيا.
المثير في انتخابات الرئاسة التونسية أن فكرة الاستقطاب الثنائي عادت بقوة لتقضي على أحلام المستقلين ولتجعل الصراع منحصرا في شخصيتي الباجي قايد السبسي والمرزوقي. ورغم أن حركة النهضة قررت عدم مناصرة أي مرشح فإن جل المحللين اعتبروا هذا الموقف تكتيكيا وأن الاستقطاب الثنائي كان بسبب موقف النهضة نفسه الذي التزم الحياد ظاهريا لكنه لم يحترمه عمليا.
نقطة الضعف في هذه الانتخابات هي قلة عدد الشباب رغم ارتفاع نسبة المشاركة العامة إلى 64 في المائة.
دبلوماسية برأس واحد
من المتوقع جدا أن تشهد الدبلوماسية إثر الانتخابات التونسية تصحيحا لكثير من المواقف السابقة وتطويرا للعلاقات مع شركاء دوليين جدا. إن العلاقات التونسية التجارية مع أوروبا بنسبة 80 في المائة من حجم المبادلات ستفرض على الحكومة ورئيس الجمهورية القادم تثبيت هذه العلاقة مع تطعيمها بعلاقات أكثر متانة مع دول الخليج ومع مصر. وقد دعا كثير من رموز حركة نداء تونس إلى أن تصبح العلاقة أكثر حميمية وقوة مع مصر ودول الخليج والعمل على تطوير العلاقات مع عدة دول آسيوية مثل الصين وروسيا وكوريا الجنوبية. واعتقد أن هذا الدفع الدبلوماسي الجديد سيكون عنوان المرحلة القادمة، كما أن حظوظ السبسي في الفوز بالرئاسية ما زالت قائمة لكن المنافسة ستكون قوية حتما.