أسئلة الطائفية تعود.. ويعود معها تبادل تهمة المسؤول عنها

أسئلة الطائفية تعود.. ويعود معها تبادل تهمة المسؤول عنها

465218422

في كل دولة عربية كان هناك حدث يشعل أسئلة الطائفية، أما في السعودية وباستثناء حادث الدالوة الإرهابي والذي راح ضحيته عدد من المواطنين، فإن الرأي العام لم يشتعل بأسئلة الطائفية إلا كانعكاس للأحداث في الدول العربية المجاورة، سوريا والعراق كمسرح خطير للصراع بين ميليشيات سنية وشيعية، كانت هي المادة الأهم التي تناولها الفضاء العام السعودي، يمكن اعتبار هذا الانشغال بالآخرين طبيعيا في ظل أن الأحداث السياسية حول المملكة تلقي بظلالها الثقيلة على الجميع داخلها، وبقطع النظر عن ذلك فإن حقيقة الانشغال بأحداث خارج السعودية جعلت صورة الرأي العام داخلها منفصلة بشكل ما عن الهم الوطني والأسئلة الخاصة بنا.


السؤال الغائب



ومن أهم الأسئلة الخاصة التي لم تستوف وسريعا ما تم تجاوزها هو التفريق بين خطاب الكراهية والخطاب العنصري، حيث كان الطرح يجيز خطاب الكراهية بكونه ضمن حق حرية التعبير، وكان التعديل الأول في القانون الأميركي هو أبرز ما يستشهد به أصحاب هذا الطرح، لكن المشكلة كانت في تجاهل السياق والأبعاد لمثل هذه المطالب، فتعديل القانون الأميركي جاء بنشاط ليبرالي متطرف دافع عن خطاب الكراهية باعتباره جزءا من الجدل السياسي هناك، إن سياق الدولة العلمانية بقوانينها المدنية يختلف تماما عن سياق دولة إسلامية قضاؤها شرعي، والحكم الديمقراطي في أميركا يحمي الأقليات بنظام الدولة العلماني وبالقانون المدني، بالإضافة طبعا إلى اختلاف المجتمعات والتباين الحاد بين ثقافة الشعوب، فخطاب الكراهية الذي يعني التعبير عن الكره للآخرين شرط ألا يشكل تحريضا على العنف، تختلف نتائجه بين مجتمع في غالبه متدين مؤمن بأحكام شرعية ترفض الآخر، وبين مجتمع متنوع الهويات هو أحد أكثر المجتمعات تنوعا في العرق والثقافة، فأميركا التي تسمح بممارسة الأديان هي بالمقابل تمنع إقامة أي حكم ديني، وأي خطاب كراهية فيها يواجهه خطابات رافضة هي أعلى صوتا وأقوى تأثيرا، والمطالبون بحرية هذا الخطاب يرون أن التعبير عن الكراهية بالكلمات والفنون هو وسيلة أفضل من كبت هذه المشاعر مما قد يؤدي على مدى البعيد إلى الإحباط وتمظهره بحالات عنف، فهل يمكن فعلا أن يكون لهذا الخطاب النتيجة الإيجابية نفسها في مجتمع يعتقد في غالبه بجواز هذه الكراهية؟

يهدف خطاب الكراهية إلى الانتشار لتشجيع البقية للتعبير عن آراء مسيئة مشابهة، والقصد من وراءه ليس فقط التعبير عن الذات بل وصول الرسالة لهذه الفئة المستهدفة بما يضمن إيذاءها نفسيا، وهو غالبا لا ينتج إلا من جهات متطرفة محدودة، أما بالنظر إلى الطرح الذي تبناه البعض في الرأي العام السعودي في كون خطاب الكراهية جزءا من حقوق حرية التعبير، فالمسألة أخلت بالكثير من الشروط، فعدا عن الاختلاف بين الدولتين والثقافة الاجتماعية لكل شعب، كانت المشكلة في أن من أصدر خطاب الكراهية أو دافع عنه هم من بعض الناشطين في فكرة تداول السلطة السياسية والذين تبنوا لسنوات طويلة خطابا منفتحا يرفض التصريح أو حتى التلميح لأي فكر طائفي يقيم الناس بناء على مرجعيتهم الدينية، بينما هم اليوم يتبنون هذا الخطاب للدفاع عن جرائم ميليشيات طوائفهم، مما يعني أن الدفاع لم يكن لمبدأ حق التعبير عن الكراهية بل دفاعا عن مضمونها، وفي هذه الحالة أصبح الدفاع عن خطابات الكراهية لا يقل خطورة عن إنتاجها، وخطورة إنتاجها تكمن في توافقها الكامل مع الخطاب العنصري المحافظ، أي أن التفريق بين خطاب عنصري يميز بين الناس على أساس الدين والطائفة والمذهب وبين خطاب الكراهية يصبح غير ممكن، فالخطابان متماهيان والعناصر التي تغذي كل منهما واحدة، وبالنتيجة فهذا يعني أن الفئة التي تصدر خطاب الكراهية في المجتمع الأميركي بوصفها فئة متطرفة ومحدودة يقابلها في المجتمع السعودي فئة أوسع يمكن اعتبارها فئة نخبة مؤثرة، إن الأثر الضعيف الذي تستطيع خلقه فئة متطرفة معروفة ومحددة في مجتمع مثل المجتمع الأميركي، ليس هو الأثر الكبير الذي تستطيع خلقه فئة بارزة في المجتمع السعودي، ومما يفاقم الأثر السلبي لخطاب الكراهية من هذه الفئة هو تصديرها لخطاب حقوقي سياسي يضاعف اللبس بين مضمون الكراهية وبين حق حرية التعبير.


انقلاب المعادلة




تكمن مشكلة المطالبة بحق ليبرالي متطرف مثل حق الإساءة للآخرين في الرأي العام السعودي في كونه يبث في فضاء يحتكم وعيه الجمعي إلى ثقافة متدينة ومحافظة، مما يسهل استثارة العاطفة الدينية الحارقة من مكمنها في اللاوعي الجمعي، أي أن بروز مثل هذه الخطابات والدفاع عنها يصبح سلطة حادة ترهب أي خطاب رافض وتقمعه، مما يعني انقلاب المعادلة من كون خطاب الكراهية هو الخطاب الضعيف والمحدود في أثره إلى كونه الخطاب العام والأقوى، وهذا بالنتيجة يشكل عائقا جديدا أمام أي محاولات تنويرية تسعى لتغيير ثقافة المجتمع من هويات منغلقة على ذاتها إلى هوية وطنية كبرى متنوعة ومنفتحة على مجموع الهويات الصغرى داخلها، أي أن خطاب الكراهية هنا لا يصبح مسألة حق في التعبير بل يصبح مسألة وحدة وطنية، ولن يعني هذا أن حق حرية التعبير يشكل خيانة وطنية لكنه حتما يعني أن المطالبة بحق خطاب الكراهية تحديدا في هذه المرحلة من التاريخ السعودي هي مطالبة مشوهة متماهية مع العنصرية وجاهلة بالظروف والشروط.

إن عملية تبادل الرأي وخلق فضاء عام حر ليست بالمسألة السهلة، لا يجب في أي حال تجاوز شروط كل مرحلة وظروفها، المعنى ليس في الخضوع للواقع بل في تغييره ضمن الإمكانات المتاحة دون أن يكون لتفعيل هذه الإمكانات أثر سلبي أشد من هدف التغيير الإيجابي، يعتبر البعض أن في مثل هذه الرؤية قصورا في فهم دينامكية الفضاء العام، لكن تجريم خطاب الكراهية لا يعني بالمقابل التسامح الكاذب وإنكار الواقع، لأن النزاع الطائفي سيستمر في التعبير عن نفسه من قبل أصحابه المتعصبين أنفسهم، والمهتمين بالتنوير يجب أن يسعوا لتجريم التمييز العنصري بدلا من التورط مع خطابه والدفاع عنه.

إن أحد الآثار السلبية لخطاب الكراهية، هي حالة التردد التي أصابت البعض من المهتمين بالرأي العام وبعض المثقفين، وبما أن التفاعل كان مع الأحداث خارج البلد أكثر منه داخلها، فإن المسألة ليست شخصية ولا هي وطنية، وكان السؤال الأكثر حضورا هو عن موقف المثقف السعودي بمرجعيته الاجتماعية الشيعية من جرائم الميليشيات الإيرانية العنصرية ضد الضحايا السنة، هل هو موقف واضح ورافض يعادل موقف المثقف السعودي بمرجعيته الاجتماعية السنية من جرائم «داعش»، بدا السؤال منطقيا لكن إجابته أصبحت مسألة رياضية، هل يجب قياس الموقف من خلال عدد المنددين بشكل عام أم يجب الاعتبار بعددهم بالنسبة لمجموعهم الكلي، لقد ضاعت القيمة الموضوعية منذ انقلب السؤال التنويري الوطني من كيفية التصدي لهجمة الكراهية إلى سؤال شعبي متوجس ومنفلت.


خضوع المثقف




عمت المساءلة الخاطئة لأن أحدا لم يرفض التقسيم المفاجئ بين المثقفين كطرفين، ولم يرفض التحول من موقف ثقافي متجاوز إلى موقف شعبي متورط، لم ينزلق المهتمون بالرأي العام أو النخب الثقافية إلى التمييز العنصري الطائفي، لكن البعض وقع في الفخ بسبب خطابات الكراهية التي شكلت ضغطا عليهم، هل نسي المثقف بمرجعيته الاجتماعية السنية أن رفضه للخطاب الطائفي لا ينبني على رفض المثقف ذا المرجعية الشيعية لهذا الخطاب، بل هو يرفضه من موقف ثقافي مستقل ومتجاوز لا يعنيه فيه موقف الآخرين، لقد كان السؤال أساسا عبارة عن فخ خطير نتج عنه مواقف شخصية موتورة بدلا من رأي وطني متحد.

الفضاء العام السعودي في تفاعله مع أحداث المنطقة كان يجد متسعا من التعبير لا يعود على تقييمه أو تصنيفه، فالكفة التي تبرر جرائم النظام السوري وميليشيا «حزب الله» باسم الحرب والدفاع عن الأرض كانت تلبس ثوب التحليل السياسي البارد، مخفية كل الاعتقادات العنصرية والكارهة، وعلى الكفة الأخرى كانت تصدير جرائم الميليشيات يأخذ شكل التبرير لجرائم «داعش» وتنفيس الغضب ضده، وبينما طغى انطباع عام أن المواطنين السعوديين من ذوي المرجعية السنية أكثر شجاعة في نقد متطرفيهم وأكثر رغبة في التغيير، فإن المهتمين بالرأي العام من المواطنين ذوي المرجعية الشيعية هم بالمقابل أضعف موقفا وأقل استقلالا عن خطاب مرجعيتهم، لم يكن الانطباع لذاته مشكلة ففضاء الرأي يقوم دائما على مجموعة من الانطباعات، المشكلة كانت في الانقسام بخلق موقف ثقافي السني يقابل آخر شيعي، بدلا من موقف وطني تنويري موحد يقابل الطائفية بوجهيها السني والشيعي.

معالجة هذه الانطباعات لا تتم بالارتداد إلى المرجعية الاجتماعية بل بالثبات على الموقف الثقافي التنويري الذي يوجه نقده لكل المرجعيات وإن لم يكن ينتمي لها، نقد التشيع السياسي كجزء من الإسلام السياسي وتفكيك خطابه هو المعالجة الصحيحة، وهي معالجة ليست منوطة بالمثقفين ذوي المرجعية الشيعية بل هي مسؤولية جميع التنويريين، النقد الثقافي المنضبط هو الذي لا يترك نقد المرجعيات لأصحابها فقط، بل يخوض فيها قبلهم لأنها معركته ولأنها جزء من نسيج الوطن، هو لا يتعامل مع المرجعيات الطائفية العنصرية إلا بوصفها مشكلة واحدة تخصه بشكل ثقافي.

الثقافة التنويرية التي تهدف إلى خلق فضاء منفتح وتسعى على مجتمع مدني لا يجب أن تساءل موقفها كما لو كانت جماعة طائفية تخشى خديعة منافسيها ضمن آلية ديمقراطية تسمح بذلك، فالمثقف يحيط بفكر الطائفي لا العكس، هو من يفرض قيم التنوير والانفتاح والمساواة على أجندة السياسي وعلى ثقافة المجتمع، هذا لا يعني أن يفقد المثقفون بصيرتهم الواقعية بل أن يثوروا أسئلة الواقع بما يسمح بمعالجة المشكلة لا برعاية جذورها، والتعامل مع المشكلة الطائفية على أنها مسؤولية الجميع، بغض النظر عن المرجعية الاجتماعية، الثقافة التنويرية مهمتها الأصعب هي معالجة الانطباعات العامة والتصورات النمطية مهما كانت قسوتها وحدتها، يمكن للطائفي المتسيس أن يعبث بالواقع بناء على هذه التصورات النمطية، بينما يكمن دور المثقف في كسر هذه الصور وتشجيع أصحابها على تجاوزها بما يضمن تغيير صورتهم في ذهن الآخر، ليس على المثقف أن يتحقق من موقف الجماعات كما لو كان سيفرض بناء على نتائجها سياسات جديدة، بل عليه أن يقف أمام هذه الجماعات يواجه رموزها وخطاباتها، عليه ألا يتنازل عن قضيته الثقافية تحت ضغط التصورات النمطية وآثارها السلبية.
font change