
بيروت: فايزة دياب
* توثيق الأهالي وشهادات سجناء سابقين خير دليل على أنّ النظام السوري ما زال يخفي لبنانيين داخل معتقلاته.
* سليم: قضية المفقودين أثناء الحرب الأهلية تحولت شيئاً فشيئاً إلى قضية فولكلورية - موسمية نستذكرها كل 13 أبريل فقط.
* الحلبي: الخلافات اللبنانية حول تأييد النظام السوري أو معارضته أدرجت ملف المختفين قسرياً في السجون السورية ضمن المناكفات والخلافات السياسية.
لم تكن الحرب الأهلية التي اندلعت في لبنان عام 1975 والتي استمرت حتى عام 1990 وليدة لحظة جنون عبثية، بل كانت نتيجة تراكمات خلافات حول الحكم بين الطوائف الإسلامية والمسيحية وخلافات حول القضية العربية الكبرى آنذاك أي القضية الفلسطينية.
لكنّ لحظة اندلاع هذه الحرب استطاعت أن تحوّل لبنان الذي كان يعيش في أوجّ عصره الذهبي منذ بداية خمسينات القرن الماضي إلى ساحة حرب مفتوحة بين أبناء البلد الواحد، إضافة إلى حروب شعواء كان أبطالها لبنانيين تحولوا إلى ميليشيات مسلحة وفلسطينيين ظنوا أنّ تحرير أرضهم يمرّ عبر تدمير بيروت وأهلها، إضافة إلى الاجتياحات الإسرائيلية ودخول الجيش السوري الذي دخل إلى لبنان تحت اسم «قوات الردع العربية» ليتحول بعدها إلى طرف في تأجيج الحرب الأهلية بين اللبنانيين.
43 عامًا مرّت على ذكرى 13 أبريل (نيسان)؛ التاريخ الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية، و28 عامًا مرّت على انتهاء هذه المأساة، ولكن على الرغم من مرور السنوات فإنّ هذه الذكرى وعلى الرغم من مرارتها تبقى محطة أساسية سنوية يستذكرها اللبنانيون في كلّ عام، ويرددون معها عبارة «تنذكر وما تنعاد». فمآسي الحرب لم تمحها سنون الاستقرار المتقطعة التي عاشها لبنان، وأجيال الحرب ما زالت تروي قصصا وحكايات عن سنوات القهر والموت والهرب والنزوح، والقتل على الهوية على حواجز الميليشيات الطائفية المسلحة، وزمن الاعتقالات والخوف، والانتهاكات غير الإنسانية بحق المدنيين والعزّل، والمتاريس المنتشرة بين المناطق اللبنانية التي انقسمت بين إسلامية ومسيحية، وبيروت التي أصبحت «بيروتين» غربية وشرقية تفصل بينهما متاريس الميليشيات والقناصون وقطاع الطرق.
من سويسرا الشرق وجوهرته تحوّلت بيروت إلى مدينة أشباح لأكثر من 15 عامًا من الحقد والجهل والحرب العبثية، وبعد استخدام شتّى أنواع العنف في البلد الصغير الذي اجتمعت فيه جيوش وميليشيات متعددة راح ضحيتهم ما يقارب 120 ألف لبناني إضافة إلى الآلاف من المشردين داخل لبنان والمهجرين في أنحاء العالم، انتهت الحرب الأهلية بعقد اتفاق الطائف، حلّت الميليشيات، وهدّمت المتاريس وبدأت محاولات إعادة إحياء لبنان المدمّر من بين الرماد. ولكن نهاية الحرب لم تُنه معها جميع المآسي بل إنّ جراحها لا تزال تئنّ في قلوب أهالي 17 ألف مفقود أثناء الحرب الأهلية، لم تتخذ من أجلهم السلطات اللبنانية أي خطوات عملية لحلّ قضيتهم ولم تسهّل على ذويهم اتخاذ الإجراءات القانونية والروتينية المطلوبة، رغم أن الملف يشمل أكثر من 17 ألف حالة موثّقة، بين خطف وقتل وسجن خلال الحرب الأهلية على أيدي الميليشيات وقوى الأمر الواقع التي كانت تسيطر على القرار والأمن في مختلف المناطق اللبنانية أي المخابرات السورية التي بقيت في لبنان على الرغم من انتهاء الحرب الأهلية.
وأيضًا لم يؤدِ اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، إلى كشف مصير المفقودين، وانتظر الأهالي لعقد كامل قبل أن تسلم لجنة تحقيق وزارية ملف التحقيق في قضية المفقودين إلى الحكومة عام 2000. ولم يتم تسليم نتائج التحقيق إلى الأهالي حتى عام 2015، بحجة استكمال البحث لكشف مصير المفقودين بمساعدة الصليب الأحمر.
وكما كلّ عام ينظم أهالي المفقودين من أمام خيمتهم التي نصبوها في 11 أبريل 2005 في حديقة جبران خليل جبران أمام مبنى الإسكوا في بيروت، وقفة احتجاجية يذكّرون فيها المسؤولين في لبنان بحقهم في الكشف عن مصير أبنائهم. المعلومات والأخبار المتداولة تفيد بأنّ غالبية المفقودين قضوا أثناء الحرب ودفنوا في المدافن الجماعية على أيدي الميليشيات، إضافة إلى مئات المختفين قسرًا في غياهب سجون النظام البعثي السوري.
وفيما يتعلق بالمعتقلين في السجون السورية وثقت «جمعية أمم للتوثيق والأبحاث» في تقرير مستقل لها أنّ هناك 782 لبنانيًا تمّ اعتقالهم في السجون السورية، ولكن في الذكرى 43 للحرب الأهلية هل سيكشف يوما ما عن مصير المختفين قسرًا في السجون السورية؟
رئيس «جمعية أمم للتوثيق والأبحاث» الدكتور لقمان سليم قال في حديث لـ«المجلة» إنّ «هذه القضية كان من المفترض أن تتحول لاستحقاق وطني من قبل المسؤولين الحاليين والسابقين وأمراء ميليشيات الحرب السابقين، لكن للأسف تحولت شيئاً فشيئاً إلى قضية فولكلورية - موسمية نستذكرها كل 13 أبريل فقط».
وأضاف: «بات مفهوماً لدينا أن لا تكون السلطات المتعاقبة في وارد إثارة هذه القضية، أو السير فعليا بسياسات تعالج هذا الملف، ولكن مع ذكرى 13 أبريل 2018 يتحول السؤال: كيف نعيد إلى هذه القضية مكانتها المركزية في ذاكرة الحرب الأهلية وفي ذاكرة كل ما اقترفته أيدينا بحق بعضنا البعض وبحق هذا البلد؟».
وتابع: «هناك مخفيون قسرا في لبنان على أيدي لبنانيين كما أنّ هناك مخفيين قسرا لبنانيين خارج الأراضي اللبنانية وتحديدا في سوريا، لذلك المطلوب الكشف عن مصير جميع المخفيين قسرا في لبنان وخارج لبنان... السلطات اللبنانية المتعاقبة لم تهتم بهذا الموضوع، لأن معظم قادة الميليشيات هم الآن زعماء سياسيون، وأيضا بعض الأجهزة الأمنية تحولت في فترة الحرب الأهلية إلى أجهزة تابعة للميليشيات وبالتالي فتح هذا الملف هو إدانة لسياسيين وزعماء حاليين وأجهزة أمنية، فليس من مصلحتهم إنهاء هذا الملف. وأيضا فضلا عن الجانب الأخلاقي والإنساني لهذه القضية ففي عام 2005 عند اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري كانت هناك فرصة حاسمة للبنان عندما رفع شعار (الحقيقة) ولكن للأسف لم نحسن استخدام هذا الشعار وذهبت الفرصة التي أتيحت لنا للعودة لمنطق العدالة والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب».
وختم سليم: «يمكن لهذه القضية أن تنحصر وتضمر، أمّا أن تموت فهذا أمر مستحيل؛ لأن هذه القضية جزء من تركة الحرب الأهلية، يمكن لأهالي المختفين أن تخف حماستهم أو أن يغيبوا عن الصورة ولكن هذه القضية مستمرة ويصعب شطبها من وجدان وذاكرة اللبنانيين».
بدوره قال مدير مؤسسة «لايف الحقوقية» المحامي نبيل الحلبي في حديث لـ«المجلة» إنّ «آخر جهد من الدولة اللبنانية كان في لجنة الوزير الراحل فؤاد السعد، وأيضا من قبل رئيس الجمهورية ميشال عون عندما زار سوريا وكان حينها نائبا في البرلمان اللبناني قبل انتخابه رئيسا عاد بتصريح أنّه لم يعد هناك سجناء لبنانيون في السجون السورية، وحاول أن يعطي انطباعاً بأن هذا الملف قد أقفل. ولكن في يوليو (تموز) 2012 أفرجت السلطات السورية عن معتقل في سجونها بعد اعتقاله لـ27 عامًا، وفي 10 مايو (أيار) 2017 نقلت جثة المعاون أول في قوى الأمن الداخلي قيس منذر إلى وطنه لبنان وكان قد قضى في السجون السورية بعد عشر سنوات أمضاها في المعتقل. وهاتان الحالتان دليل على أنّ نقل بعض الجهات اللبنانية تأكيدات من النظام السوري أنّ سجونها باتت خالية من لبنانيين هو أمر غير صحيح.
وأيضًا هناك سجناء لبنانيون جدد تمّ اعتقالهم بعد نهاية الحرب الأهلية ومنهم الشيخ عرفان معربوني الذي تمّ خطفه من داخل لبنان ومن ثم تمّ نقله إلى السجون السورية وهذه الحادثة جرت بعد اندلاع الثورة السورية».
وأضاف: «النظام السوري لا يعترف بوجود معتقلين لبنانيين بسجونه وبالتالي قانونيا أصبحوا ضحايا اختفاء قسري، ويمكننا كمنظمات حقوقية أن نضم ملفهم لضحايا المختفين قسرا في السجون السورية بشكل عام سواء كانوا أردنيين أو فلسطينيين أو عراقيين إضافة للمواطنين السوريين الذين تم إخفاؤهم خلال الأحداث التي شهدتها سوريا في السنوات الأخيرة... جزء لا يتجزأ من هذا الملف هو جنائي يمتد من عمر النظام السوري والانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها، وطالما أنّه لم يعترف بوجود اللبنانيين وطالما أنّ أهاليهم مصرون أنّ أبناءهم في السجون السورية ويؤكدون أنّهم زاروا أبناءهم في المعتقلات ولديهم إيصالات من وزارة الداخلية السورية - مصلحة السجون، كإذن للزيارة، وهذا دليل مادي وقانوني أنّهم كانوا يزورون أبناءهم داخل المعتقلات السورية بفترة من الزمن ومن ثم انقطعت أخبارهم فهذا يعني أنّ تحويل هذا القضية إلى المحافل الدولية أمرٌ جائز قانونيًا».
وعن الأدلة التي يمتلكها الأهالي إضافة إلى إيصالات وزارة الداخلية والتي تؤكّد أنّ أبناءهم دخلوا معتقلات النظام السوري، قال الحلبي «جزء آخر من الأهالي لم يتمكن من زيارة أبنائه في سوريا ولكن هم شاهدون على اعتقال أبنائهم من قبل المخابرات السورية آنذاك التي اقتادتهم من منازلهم أو أماكن عملهم، وجزء آخر من المختفين اللبنانيين كانوا في مراكز المخابرات السورية في لبنان في مركزي عنجر أو البوريفاج وتم نقلهم إلى سوريا عند انسحاب النظام السوري من لبنان عام 2005، ومنهم من تمّ خطفهم بعد نهاية الحرب الأهلية كبطرس خوند الذي تم اعتقاله من منزله».
وختم الحلبي: «الخلافات اللبنانية حول تأييد النظام السوري أو معارضته أدرجت هذا الملف ضمن المناكفات والخلافات السياسية، والأحزاب والشخصيات اللبنانية الحليفة للنظام السوري تعتبر أنّه لم يعد هناك معتقلون لبنانيون في السجون السورية وأنّ الأسماء المدرجة هي أسماء من ضحايا الحرب الأهلية الذين رحلوا أثناء الحرب وطالبوا بالكشف على المقابر الجماعية ولكن توثيق الأهالي وشهادات سجناء سابقين خير دليل على أنّ النظام السوري ما زال يخفي لبنانيين داخل معتقلاته».
قضية المفقودين أثناء الحرب الأهلية والمختفين قسرًا في السجون السورية، هي لعنة الحرب التي انتهت قبل 28 عامًا، لعنة تلاحق ما تبقى من أهالي المفقودين الذين لم يملّوا يومًا من المطالبة بالكشف عن مصير أبنائهم، إلا أنّ من ارتكب جرائم الحرب من ميليشيات لبنانية ومخابرات سورية لم ترّف أجفانهم تجاه دموع ومعاناة أمهات وأبناء، منهم من ماتوا قهرًا على غياب ذويهم، ولكن كيف سترف أجفان من ارتكبوا وما زالوا يرتكبون أفظع الجرائم التاريخية بحق الأبرياء في سوريا اليوم وفي لبنان سابقًا؟!