أسئلة مفتوحة لا تكف عن المشاغبة والمشاحنة والتكرار

أسئلة مفتوحة لا تكف عن المشاغبة والمشاحنة والتكرار

[caption id="attachment_55247767" align="aligncenter" width="620"]الحديث عن الحالة الثقافية السعودية أصبح مفتوحًا على مصراعيه إلى حد الابتذال الحديث عن الحالة الثقافية السعودية أصبح مفتوحًا على مصراعيه إلى حد الابتذال[/caption]

لم تكن لحظة الحادي عشر من سبتمبر حادية ومحرضة للكتَّاب الغربيين لكي يكتشفوا الحالة السعودية فحسب، بل كانت لحظة صادمة وجَّهت السعوديين إلى أنفسهم لكي يكتشفوها ويحللوها، ويتتبعوا خريطة تياراتها وتشكلاتها.
لا يمكن بحال من الأحوال إهمال أثر المؤلفات الغربية التي جاءت أعقاب الحادي عشر من سبتمبر في دفع وتحريك الراكد في الداخل السعودي، يتم تداول تلك المؤلفات وترجمتها وتناقلها بين أوساط المهتمين، وتشكل متنفسًا جديدًا، ورؤية وصورة مختلفة لواقعهم الذي بدأوا يكتشفونه رويدًا رويدًا، وهم الذين أصبحوا في صورة المشهد العالمي.

كان مذاق ذلك مختلفًا، فالرأي السياسي، و"فقه الواقع"، وتحليل الأحداث التي كانت تحتكره محاضرات المساجد، وخطب المنابر، انتهت أو تراجعت بشكل كبير لصالح جيل جديد، بدأ يتساءل ويفكر ويراجع نفسه بلغة ومفاهيم حديثة، يبحث عن عمق الأزمة في ثقافته وخطابه السائد الذي أفرز نماذج ألحقت به وبسمعة بلاده الضرر.
اليوم وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على لحظة الحادي عشر من سبتمبر أصبح الحديث عن الحالة الثقافية السعودية مفتوحًا على مصراعيه إلى حد الابتذال، فالشح الذي كان يطال تلك المساحة اتّخم بمقالات ومؤلفات وكتب كلها تحاول أن تملأ هذا الفراغ ولو بالصدى، وتقتحم تلك البقعة التي يراها المراقب الخارجي دومًا حالة مثيرة مغلفة بالغموض، محرضة على الخوض والنقاش والتفاعل ومحاولة الفهم.

كثيرة هي الدراسات والمؤلفات التي أرادت أن تقتطف لها نصيبًا من هذه الأرض الخصبة البكر، وتسجل لنفسها سبق الحضور فيه ولو بكلام مكرور إنشائي يتوسل الإثارة في العناوين التي تحوي في طيات فصولها مضامين فارغة.
لكن صعوبة وتعقيد الحالة السعودية وتداخلاتها، وشح مواردها المعلوماتية، واعتمادها على المتناقل الشفوي سوف تكشف العجز والضعف في كثير من المتصدرين لتحليل هذا الشأن، أما الدراسات الأكاديمية الرصينة لمن خبروا الواقع وعايشوه بأنفسهم فستفرض نفسها بقوة حتى لو تقادم الزمن، وتغيرت الكثير من الظروف والأحداث.
ورغم كل ذلك مازال الموضوع شهيًّا غضًا طريًّا للتناول والنقاش، لا تكف الأقلام وبرامج الحوارات عن مناقشته وتحليله؛ ربما ذلك يعود في جزء كبير منه إلى النشاط الحي المحموم في الساحة الثقافية السعودية، ودخول أجيال جديدة من الشباب في هذا المعترك المتخاصم على فضاء الشأن العام، مما يعني حركة دؤوبة، وجيل متعطش للبحث والتطلع للمعرفة، متسلح بأحدث الوسائل التقنية التي وإن ساهمت في وصوله للمعلومة بأسرع طريقة, إلا أنها عززت الثقافة السريعة المعلبة التي يغيب عنها النفس الطويل، والبحث والتتبع والتحليل قبل الوصول إلى أي حكم، وهذا بات يشكل حالة نادرة عزيزة في ظل الظواهر التقنية التي تتسيد المشهد، وتجرف المثقفين والمتابعين إلى شروطها وأنماطها.



[blockquote]الأسئلة المطروحة أمام طاولة المثقف السعودي قائمة بشدة رغم كثرة الحديث حولها، مازالت بذاتها تشكل تحديًا مهما تقادم الزمن.[/blockquote]



الأسئلة الكبرى مازالت قائمة، والقضية الكؤود هي في المحتوى والمعنى والمضمون، وعن أي شيء نختصم، وحول ماذا نختلف، من نحن وما هو خطابنا، وما هي هويتنا؟
لو عدنا إلى الوراء إلى التجمع الأول الذي جمع المثقفين السعوديين، وطرح مشاكلهم، في ملتقى المثقفين السعوديين الأول في أواخر 2004، نجد أن أكبر سؤال كان يتردد صداه ويبحث عن إجابة هو: "ما هو المثقف السعودي.. ما هي صورته .. ما هي شروطه .. ما هي أدواره"؟
يطرح هذه الأسئلة الكاتب عبدالله القفاري -قبيل انطلاق الملتقى في "جريدة الرياض"- قائلاً :" السؤال الكبير هنا: من هو المثقف؟ هل هو الأديب أم الفنان أم الكاتب أم المسرحي أم المؤلف أم الناشر.. من يستطيع أن يقول عن كل هؤلاء مثقفين حقيقيين؟ ومن يملك أن يخرج كل هؤلاء من أردية ومعاطف المثقف"؟.
معالي الوزير الراحل غازي القصيبي في ختام الملتقى أجاب عن هذه الأسئلة قائلاً: "لا أعرف نموذجًا واحدًا لمثقف بمواصفات إنسانية راقية، وأهداف مجتمعية عالية، ونزاهة شخصية ضافية، بحيث يمكنني أن أقول: وجدته، هذا هو المثقف! وهذا هو دوره!". فأثار الجدل والاحتدام والإعجاب أيضاً.



books ‫(2)‬



رحلة البحث عن المثقف السعودي لا تزال طويلة، هي تتيه أحيانًا وتضيع بين مسارب الصراعات، واصطفاف النخب، والتعارك مع المتشددين.
ربما تكون أكبر المعضلات التي تواجه المثقفين السعوديين هي الغرق في القضايا ذاتها كل مرة، فتشكلت صورة نمطية مستهلكة عن الهاجس الذي يرهق كاهل المثقف السعودي ولا يتجاوزها، ربما يكون ذلك مفهومًا في بعض الأحيان نتيجة للعجز عن الوصول إلى حل واستمرار قطاع عريض من حاملي لواء الممانعة.
وإذا عدنا مرة أخرى إلى ملتقى المثقفين السعوديين الذي يشكل صورة مصغرة عن أزمة الحالة الثقافية السعودية؛ نجد أن الجدل الذي ثار بعد نسخته الثانية، وفاض النقاش حوله في مواقع التواصل الاجتماعي، وسطرت لأجله العديد من المقالات لم يكن أبدًا ذا ارتباط مباشر بالفعل والهم الثقافي، بل يعكس بوضوح سيطرة العراك الاجتماعي، الحضور المتكرر لقضايا يعينها تشغل المثقفين والنخب السعودية عن مناقشة الأسئلة الحقيقة التي تحتف بثقافتهم وخطابهم وإنتاجهم العلمي، ويبدأ فصل جديد من معركة متكررة مستهلكة، لكنها بوجه أو بآخر تعكس عمق العقبات الطويلة التي تواجه الحالة الثقافية السعودية، تلك الحالة التي لن تحلق نحو الإبداع والفن ما دامت أسيرة لشروط اجتماعية بدائية، يكون فيها (الاختلاط بين الجنسين) قضية طاغية أهم من كل أسئلة الثقافة وهموم المثقف، ويكون فيها الصراع الأكثر احتدامًا ليس هو حول منهج فلسفي أو نظرية علمية، بل بين تيارين تعزز الانقسام بينهما، فشطر الثقافة وأفقرها، وجعلها رهينة التصنيف الحزبي المذهبي، وليس البحث والتحكيم العلمي، وتحول الاشتغال بالشأن الثقافي في حقيقته إلى اشتغال بترميم الصفوف المتحزبة على قارعة الثقافة تتقاتل باسمها، وتستنزف من رصيدها، والنتيجة التي ترثها الأجيال القادمة سلسلة من الصراعات والخصومات التي لم تخلف موسوعة معرفية أو سلسلة أدبية أو قاعدة علمية، بل ردود إنشائية هجائية متشنجة تدور وتحور بلا كلل ولا ملل في اسطوانة مكرورة لا تتغير عناوينها.



[blockquote]مرحلة البحث عن المثقف السعودي لا تزال طويلة، هي تتيه أحيانًا وتضيع بين مسارب الصراعات، واصطفاف النخب، والتعارك مع المتشددين.[/blockquote]



وبين هذا وذاك.. يقع المثقف السعودي في حالة حرجة بين أن يعيش في برج عاجي يغوص في أعماق النظريات العلمية والفلسفية ويحللها ويسعى إلى تقديم منتج علمي رصين، لكنه يخشى أن يجد نفسه في الأخير معزولاً منطويًا تضيع أبحاثه بين الأدراج، لا يجد من يدعمه أو يسانده، وبين أن ينزل للشأن العام، ويقتحم المعترك الساخن، ثم يجد نفسه قد استهلك في صراعات بدائية طويلة لا تسهم في تفعيل الثقافة وتحفيز الإبداع، وإنما في تطويقها من قبل القوى والنخب المتشددة التي تتقن بامتياز جر الجدل الثقافي إلى قضايا ومسائل عفى عليها الزمن.

السؤال الأهم.. رغم كل هذا الحراك في الساحة الثقافية السعودية لماذا يبقى دور العامل الثقافي في التغيير ضعيفًا في مقابل عوامل اجتماعية أو اقتصادية أو دينية أخرى، هل الثقافة هي مجرد ترف تتجمل به النخبة، وتضيف على شخصيتها المشدودة لانتماءاتها التقليدية بعدًا ً يتمسح برداء التحضر، كما يقول الدكتور محمد بن صنيتان -صاحب أول دراسة أكاديمية تحلل النخب السعودية، وتدرس تحولاتها وإخفاقاتها-: أن "النخب الثقافية هي بنت بيئتها وأسيرة الأنساق الفاعلة والمؤثرة في مجتمعها والتي تشده إلى الانتماءات التقليدية، خصوصًا إذا كانت هذه الانتماءات تحقق له الوجاهة والمادة والموقع أكثر مما تحققه له الثقافة التي لا يتعامل معها في كافة شؤون حياته إلا في الترف من القول، وفي الصالونات المخملية كنوع من المكياج مع شريحة المثقفين، فالثقافة لم تغير السلوك، ولم تحدث انقلابًا في المفاهيم أكثر من مفاهيم جدِّه الذي لا يعرف إلا قريته، فهو يتعامل مع معطى الثقافة في الحديث في التلفاز، أو في كتابة مقالة، وسرعان ما يرتد في كافة بقية سلوكه إلى انتمائه الجهوي".
الأسئلة المطروحة أمام طاولة المثقف السعودي لا تزال قائمة بشدة رغم كثرة الحديث حولها، مازالت بذاتها تشكل تحديًا مهما تقادم الزمن، وكما تساءل الأستاذ محمد رضا نصر الله – وهو الخبير بشؤون وهموم المثقفين السعوديين – "ماذا بإمكان المثقف والأديب والفنان السعودي أن يقوم به في صعيد صياغة الوجدان العام، وتشكيل ذهنية المجتمع؟"..

المشوار مازال في بدايته.. ولكن البداية قد تطول، وتفقد بوصلتها إذا لم تعاهد كل مرة بالأسئلة والمراجعة والتمحيص والتقويم.
في هذا الملف الذي تفتحه مجلة "المجلة"، وسط زخم التحولات السياسية وضخامتها، وانفتاح آفاق التواصل الاجتماعي، نعيد مساءلة المثقف السعودي عن أدواره، وهويته وصورته، وإنتاجه العلمي، وعلاقته بالجماهير، عن تحولاته ويأسه وتراجعه وتقدمه.



[blockquote]
• ينشر موقع مجلة "المجلة" تباعاً مشاركات ومداخلات الكتاب حول موضوع الملف بشكل يومي، كما نُشرت كاملة في العدد الورقي لشهر سبتمبر 2013.
[/blockquote]

font change